يقف الأديب عبدالله حبيب قامة شامخة في فضاء الإبداع العماني، وهو أحد الأصوات المثقفة التي تخطت حدود الوطن لتجترح فضاءات شاسعة نحو الأفق الإنساني الرحب، محملا بهاجس المعرفة وقلق السؤال الذي رافقه طوال مسيرته. حمل عبدالله حبيب حقائبه المكتظة برائحة البحر ومواويل الرعاة والفلاحين، وراح يذرع الهجرات بعيدا، كعصفور يبحث عن غيمة هاربة. قادته الخطوات إلى العديد من العواصم والمدن التي ظلت محفورة في ذاكرته، بوجوهها وأصواتها وأمكنتها وذكرياتها الغائرة. وهو في غضون ذلك يحقق
الإنجاز تلو الإنجاز على صعيد تجربته الإبداعية وثرائه المعرفي، إذ أتاحت له هذه التنقلات الالتقاء بالعديد من مفكري العالم البارزين الذين أغنوا رصيده الثقافي من خلال التواصل والاحتكاك المباشر. وعبر هذه الرحلة الإبداعية الغنية التي تمتد إلى أكثر من حقل ثقافي وإبداعي، قدم عبدالله حبيب أعمالا مهمة في السينما والشعر والقصة والمقالة والعمل الصحافي والتدريس الجامعي والترجمة والنقد وغيرها، مما جعل تجربته تحظى بتقدير المؤسسات الثقافية والمثقفين والمبدعين داخل السلطنة وخارجها. عن هذه التجربة والمسيرة كان هذا الحوار:
مسقط “الخليج”:
* الطفولة ببراءتها وشقاوتها الأولى في الحارة القديمة هناك، كيف تصفها وتتذكرها الآن بعد سنيّ الرحيل والهجرات؟
- لي نص شعري بالإنجليزية يبدأ هكذا: “الطفولة ثياب النار”، وعلاقتي بالحنين عموماً، وبالطفولة خصوصاً، علاقة مرتبكة ومعقَّدة وإشكالية في أحسن الأحوال. لست فخوراً على الإطلاق بأني شعرت مبكراً بالغربة واللاانتماء والرغبة في الرحيل إلى مكان آخر وأناس آخرين وتجربة أخرى، ولم يعد في مقدوري أن أكون خجولاً من ذلك. ذلك الرحيل تحقق لي حين كنت في الثالثة عشرة من العمر حيث ساقتني أقداري وإرادتي إلى بلاد أخرى ومعسكر للجيش بإفادة ميلاد تدَّعي أن عمري كان أكبر من ذلك. وعندما اكتملت إجراءات التجنيد لم يجدوا في المخازن زيَّاً عسكرياً يتناسب مع ضآلة جسدي، ففصَّلوا وخاطوا لي زياً خاصاً. وفي أعراف الملابس العسكرية كان ذلك الامتياز الترزي الخاص من حق الضباط فقط. وحين أوفدت في دورة عسكرية قيادية إلى إحدى البلدان العربية فصّلت وارتديت البذلة الغربية المدنية لأول مرة، لكن المشكلة كانت أني لم أتمكن من العثور في السوق على حزام مدني بمقاسي إلا في محل “ملبوسات الطفل الأنيق”.أعتقد أن السيد فردريكو فيلليني شخصياً لا يمكن أن يفكر بفنتازيا مثل هذه. لقد بلغت “سن الرشد”، حرفياً، وأنا مرتد زيي العسكري كاملاً وعلى ذراعي اليمنى يقبع الشريط الأبيض الذي يقول إن رتبتي العسكرية هي “نائب عريف”، وقد كانت في ذلك صرامة فاضحة لكل شيء، بما في ذلك الصرامة ذاتها. أما في صباي الأبكر من ذلك فقد صنعت سرّاً قارباً من جذع شجرة متأثراً ببعض الرسوم التي شاهدتها في كتاب أطفال، وكان يفترض أن أبحر ليلاً في ذلك القارب إلى الشاطئ الآخر حيث توجد هناك مدن تضاء في الليل كما أخبرني صيادو قريتي الصغيرة في ساحل الباطنة. ولذلك لك أن تتصور ذلك الزلزال المدمر الذي دكَّني دكَّاً، وبعد سنوات طويلة من ذلك، شاهدت في بريطانيا فيلم “الأرض الصفراء” لتشن كايج -وهو من رموز تيار “الجيل الخامس” في السينما الصينية- حيث ينتهي ذلك الفيلم الذي أسهم في وضع السينما الصينية الجديدة على خارطة السينما العالمية بصبيَّة تهرب من قريتها ومن كل شيء في قارب صغير عبر النهر، وينتهي الفيلم بلقطة جويّة للنهر وقد اختفى منه وفيه ذلك القارب، في الوقت الذي نسمع فيه صوت الصبيَّة وهي تغني آخر أغنياتها قبل اختفائها في الماء، وينتهي الفيلم مع صوتها وقد انقطع فجأة. لقد أثار هذا الفيلم جدلاً سياسياً حاداً في الصين لجهة نقده الذكي للتجربة الشيوعية الصينية، لكن علاقتي به، في مشاهدتي الأولى، كانت محض إنسانية، غير أنه ظل يطاردني -كما يحدث في الأفلام- عبر تجليات مختلفة في حياتي الشخصية والأكاديمية. من الواضح أني لو لم أتراجع عن حماقة الإبحار الفاخرة تلك في اللحظة الأخيرة لما كنت قد شاهدت ذلك الفيلم الفاتن ولما كان هذا الحوار. وهكذا فإنني أنظر إلى الذاكرة باعتبارها كينونة مادية وليست شيئاً مجرداً أو ذهنيا أو متجدد التوالد، ذلك أن الذاكرة لا تعترف بفكرة “اللوحة البيضاء النقيّة التي بلا ملامح أو انطباعات”. وبصراحة شديدة لا أستطيع إلا أن أشعر بالحسد والبلاهة ومقدار لا بأس به من الغيظ حين أستمع إلى الأصدقاء وهم يتحدثون عن تعلقهم بالطفولة باعتبارها الفردوس المفقود. ومع أن لهذا الكلام عواهن حيث تبقى هناك بالطبع مناطق مضيئة في الذاكرة، ودموع اشتياق ووجد وحنان تترقرق في مآقي السنين، إلا أن ما أريد قوله هو إنه ليست لديَّ رؤية رومانسية أو تمجيدية أو مثالية للطفولة (وأعترف بأن غياب هذه الرؤية المثالية قد يكون ناجماً، للمفارقة، عن موقف ليس بعيداً عن مثالية شقيّة ما بالمعنى الذي نتحدث فيه، مثلاً، عن أن مشروع “الإنسان الأسمى” لم يكن في الحقيقة سوى إقرار نيتشويٍّ سريٍّ بانتصار العدم في نهاية المطاف)، بل إني أنظر إلى الطفولة باعتبارها تجربة أولى مع القلق والانفصام والاغتراب. جاك لاكان، مثلاً، يشرح ويشرِّح القلق العظيم الذي يبدأ لدى الطفل حين يكتشف أنه كائن منفصل عن أمّه وليس جزءاً منها. أما في فلسفة هايدغر فإننا نجد أن الرحلة الوجودية للإنسان ليست إلا نزوعاً مضنياً إلى ظلمة القبر باعتبارها معادلاً لظلمة الرَّحم الأولى هناك حيث الصمت الأول وحيث ال tabula rasa الوجودية الفعلية. يذهلني دوماً آخر ما تتفوه به البطلة في نهاية فيلم “كاماسوترا: قصة حب” لميرا نير، حيث إن الفتاة تحضر المشهد الرهيب لإعدام حبيبها سحقاً تحت فيل، غير أنها تنسحب -وهي المتيَّمة بحبيبها ذاك- من المشهد في لقطة بانورامية متحركة وهي تقول ما معناه: سأنساه، لأن الحب سيعلمني أن أنسى. وينتهي الفيلم. تلك الجملة وحدها تعادل لديَّ كامل نجاح الفيلم في تحويل نص أيروسي هندي كلاسيكي مؤغرب (نسبة إلى الغرائبية) إلى نص سياسي وإنساني يحتفي بالحب بطريقته. ولذلك فإني أفهم تماماً مقولة نيتشه التي يذهب فيها إلى أن النسيان “مَلَكَة”. وتجد في المأثور الإسلامي، وإن في سياق مختلف قليلاً، مقولة إنه ما سمي الإنسان إلا لنسيانه. والأمم كلها مؤسسة على فكرة النسيان في فلسفة التاريخ لدى رينان. لكن ليس خيار المرء أن يكون ملاكاً أو شيطاناً، كما لم يكن خياره أن يكون موجوداً في المقام الأول فقد “حللنا بدنيانا على اضطرار” على رأي المعرّي. ثمة مناطق قد أعطبت في الروح إلى الأبد وصار على المرء العيش من دونها إن كان يريد العيش ويقدر عليه، وفي ذلك ما لا يوصف من شقاء، ففي وسعكم، مثلاً، تصور حال محرك نصفه معطوب لكن مطلوب منه إنجاز ما تقوم به المحركات التي تعمل بكامل طاقتها. ولأنني ممن يؤمنون -ومكره أخوكم هنا لا بطل- بأن الكتابة هي المعادل الموضوعي للحياة.
* باغتك فجأة، وأعطاك جمرة ملتهبة، ثم قال لك: اذهب إلى الغابات البعيدة لتكتشف سر الأبجدية، هل تتذكر ذلك تماما؟
- لا أظن أن هناك سرّاً واحداً للأبجدية، بل أسرار وأسرار، والكاتب يكون كاتباً حين يتمكن، أو بالكاد، من سر واحد من تلك الأسرار إن كان مبارَكاً بما فيه الكفاية. على عكس آدم، لم يُعلَّم الشاعر الأسماء كلها، ولذلك فإن مصيره البحث والضياع بل ابتداع الأسماء والأفعال والضمائر والصفات والأحوال. وقد كتب هولدرلين عن مهمة “تأسيسية” للشعراء بالمعنى الوجودي المطلق. لكنني -عودة إلى سؤالكم- لا أتذكر جمرة الملاك الملتهبة حتى حين تقذف رئتي حِمَمَها في سلة المهملات قرب طاولة الكتابة، غير أني، كمن هو بين الصحو والنوم، أتذكر حريقاً في مزرعة في الباطنة منذ سنوات بعيدة، وأتذكر طفلة تتقيأ فجأة وتصر على إزاحة ثوبها بيدها كي لا يبلله القيء وتنظر إليّ مبتسمة ثم تخرّ ميتة أمام العريش، وأتذكر طفلة أخرى مغطاة ببطانيّة حمراء على نقالة الموتى في الحوش ونساء يمسكن بأمّها النائحة، وأتذكر حرائق صغيرة على الثلج في فيلم “ظلال أسلاف مَنسيِّين أو خيول النار” لسيرجي بارادجانوف حيث يتحقق النسيان من خلال الموت فقط.
* الحكمة ضالة العاشق، حدثنا عن رحلتك تلك، في مجاهل الحياة القصية بحثا عن عنقود الشجرة المثمرة بقطاف الحكمة والمعرفة؟
- أنا لم أبحث عن الحكمة ولا المعرفة إلا ربما من باب “الضرر المصاحب” كما في المصطلح العسكري، أي إصابة هدف لم تكن النيران الهجومية تقصده في انقضاضها على هدف آخر. ما حدث هو أني كنت أبحث عن الحياة والمحبة فحسب، وفي طريقي إلى حياة لم أجدها، وتأخر الوقت كثيراً لإيجادها أصلاً، صادفت قليلاً من المعرفة فعاملتها باعتبارها رفيقة درب وزميلة بحث حيناً، وخاصمتها أحياناً، فأنا شخص غير جدير بالثقة حين يتطلب الأمر. لقد قال جان كوكتو في سياق محدَّد مرة أنْ “لا فائدة في الأدب. يجب الخروج من مزيد من الأدب”، والأمر نفسه ينطبق على المعرفة. لا أريد أن أكذب على نفسي، ولذلك فإني أقول لك ما أشعر به في هذه البرهة من الرحلة، ولا أدري إن كان بإمكاني أن أردد مع هيراقليطس “نحن لا نستحم في النهر ذاته مرتين”.
* قبلك حمل ديوجين مصباحه ومضى، هل تثق بالقناديل؟
- سؤالكم يصيبني بالفزع الشديد لأنه يضعني وديوجين في نفس الجملة، وهذا ما لا طاقة لي به. ومع ذلك فأنا أثق بالظلمة أكثر من ثقتي بالقناديل. إن كان ثمة جدوى للقناديل فهي مساعدتنا في رؤية العتمة بالمعنى المفارِق للتعبير. لقد استحضرت في شيء من كتابتي الأخيرة موقفاً لريلكه حين كان يتجول ليلاً في غابة دامسة الظلام برفقة صديق له، وفجأة رأيا ضوءاً ينبعث من نافذة كوخ صغير ووحيد في السواد الحالك. هو هذا الضوء اليتيم، وليس العتمة الغزيرة التي يتسربل بها كل شيء في كل شيء، ما حدا بريلكه أن يكتب بصورةٍ مفارقة “كان كل منا يرى الليل للمرة الأولى”. وقد كتب ثيودور ريتكه مرة أنه “في أزمنة الظلمة تصفو الرؤية”. إن الظلمة هي ما يعصم المرء من الضلال في زمن تاه فيه كل شيء عن كل شيء، وامتزج فيه الخيط الأسود بالخيط الأبيض.
* أخذت نخيلك وشموسك إلى صقيع أمريكا.. أثمة متسع كي تغرس نخلة الذكرى في أرض غربية؟
- بالمعنى الأعمق للتعبير إدوارد سعيد وفرانز فانون من ضمن من فعلوا ذلك بامتياز شديد. ولكن هذين وغيرهما يشكلون حالات قَرْنيَّة (بمعنى حدوثها مرَّةً كل قرن) توفرت لها ظروف ومقدرات غير التي توفرت لكم ولي. والمرء حين يقرأ مذكرات إدوارد سعيد أو يتحدث إليه يتضح له ذلك، فهذا رجل كان يخلد إلى النوم في مدينة القاهرة على صوت يقرأ له مسرحيات شكسبير بالانجليزية بعد أن يكون قد حضر حفلاً أوبراليّاً قبل أن يبلغ العاشرة من العمر. تاريخياً شكّل الغرب -كما تعلمون- مكاناً “بارادوكسياً” بالنسبة إلينا نحن غير الغربيين، فهو المكان الذي ارتبط في الذاكرة بتحقق قدر لا بأس به من القيم الإنسانية العظمى التي يصعب نكرانها، ولا ينبغي تقزيمها حتى في خضم الغضب العارم والوجيه الذي يجتاحنا الآن، كالديمقراطية والعلمانية وحرية الاعتقاد والأفكار الليبرالية وما إلى ذلك، وإن كان الفكر الغربي الراديكالي ما انفكَّ يوجه أسئلة صعبة ومحرجة لكل إنجاز من تلك الإنجازات المفترضة. ولكن بالنسبة إلى شخص من العالم الثالث يرتبط الغرب أيضاً بالكولونيالية والاستغلال والسيطرة وصناعة الغَيْرِيَّة والإتيان بالازدواجية الفاضحة للمعايير، ولذلك ليس هناك شيء اسمه “غرب” واحد، بل هناك “غروب” مختلفة ومتنوعة. ومن هنا فإن أي حوار مع الغرب ينبغي أن يأخذ تينك النقطتين في الاعتبار بنفس القدر الموضوعي، فمثلاً أنتم واجدون اليوم علامات على تلك الموضوعية الصارمة لدى “دراسات التابع” ولدى الجيل الجديد من النسخة الهندية من الدراسات ما بعد الكولونيالية على يد فيجي ميشرا وغيره، حيث يتم توجيه النقد التاريخي القاسي إلى الأنا وإلى الآخر معاً. وكان عبدالكبير الخطيبي قد تحدث من زمان عن “النقد المزدوج”. بالنسبة إليَّ دعوني أتمنى أن تكون تجربتي متوفرة على قدر لا بأس به من الحوار غير السطحي مع المكان الغربي، فذلك الحوار كان ولا يزال معرفياً وثقافياً وليس خارجياً أو سياحياً أو حالة انبهار سطحي وتمثّل غير مشروط. لكن على صعيد آخر من سؤالكم، وهو وجدانيٌّ أكثر هذه المرة، هناك مقولة لنيتشه يذهب فيها إلى أن الزمان والمكان ليسا سوى شيئين مقيسين على ارتفاع، أما كافافي فقد كتب في إحدى قصائده “ومثلما خَرَّبْتَ حياتك في هذه الزاوية الصغيرة فهي خراب أنَّى ذهبت”. وتجربتي مع المكان، بما في ذلك المكان الغربي، تتوزعها هاتان المقولتان بصورة متطرفة بحيث إن المكان الفيزيقي يتضاءل أمام المكان الروحي ومكان الذاكرة. في مراحل أسبق كانت لي مراهنات كبيرة وهوجاء على الأمكنة الجديدة والأمكنة المرغوبة، ولكن مع تكرار الخيبات فيها وفي ما فيها لم يعد الأمر يعني لي الكثير، فقد صارت الأشياء تتشابه وتتناسخ، وصارت الأرض كلّها تطبق على عنق المرء أكثر وأكثر. قبل نحو خمس عشرة سنة من الآن كان جسدي يرتعش حرفياً لدى زيارتي مواقع تصوير أفلام تعنيني أو غيرها من مزارات شخصية أو عامة، كالحمّى الغزيرة التي غزتني حين زرت الفندق الذي أصبح مهجوراً الآن والذي صوَّر فيه لوتشيانو فيسكونتي تحفته السينمائية الخالدة “موت في البندقية” اقتباساً من رواية توماس مان، وذلك في منطقة الليدو في فينيسيا. أما الآن فيحدث أن أزور أماكن شهدت أحداثا تاريخية جسيمة، أو قبور كتّاب ومفكرين تمنيت دوماً مناجاتهم عن قرب فلا أشعر بغير الصمت والضجر واللامعنى والرغبة في الانصراف فوراً بعد رحلة قد تكون طويلة وشاقة. زرت قبل نحو سنتين في بالتيمور قبر إدغار ألن بو الذي تعني لي تجربته التراجيدية الضخمة في الحياة والكتابة الكثير، لكني وجدت نفسي مدفوعاً بقوة غامضة إلى الانصراف العاجل بعد دقائق على بدء الزيارة. هذا في الوقت الذي كنت قد نشرت هنا في عمان ملفاً مطولاً بمناسبة حلول ذكرى وفاته في نحو ،1992 وقد بدأت الملف باستحضار تفصيلي دقيق للمشاعر الهائلة والعنيفة التي انتابتني حين زرت كوخاً كان يقيم فيه في نيويورك، ولحظة دخولي إلى الغرفة التي ماتت فيها أنابيل ورؤيتي لشبحه وهو ينتحب طوال الليل، علماً بأن تلك الزيارة تمت قبل كتابة الملف بسنوات. لقد تغير المكان، وتغير الكائن، وتغير الزمن، وقديماً قال القديس أوغسطين في “الاعترافات”: “أنا أعرف ما الزمن، ولكن إن أنت سألتني “ما الزمن؟” فأنا لا أعرف ما الزمن”.
* عنيفاً تقرع الأبواب، الأبواب الموصدة، ما مدى إيمانك بالمفاتيح؟
- قد تكون الأقفال أكثر فطنة من المفاتيح، تماماً كما حدث أن السلحفاة فازت على الأرنب في سباق للجري. خلال الحروب الصليبية شاع في أوروبا شيء اسمه “حِزَامُ العِفَّة” وهو عبارة عن لباس داخلي حديدي يقوم الزوج بإلباسه زوجته وقفله بالمفتاح من الأمام، وذلك ضماناً لعفة الزوجة وولائها قبل أن ينطلق البعل ابتغاء لمرضاة الرب بذبح المسلمين في فلسطين، ونجد اليوم في كتب مثل “الجنس في التاريخ” لري تاناهيل عبارات ساخرة من قبيل: إضافة إلى الأمراض والمخاطر الصحية الجمة التي تسبب بها حزام العفة فإن الإفادة المتوفرة لدينا تدل على أنه أخفق تماماً في القيام بالدور المنوط به! ومؤخراً نشر حميد نفيسي -وهو مفكر سينمائي وناقد ثقافي أمريكي، من أصل إيراني، صاعد النجم- دراسة مضيئة عن رمزية إصرار اللاجئين الفلسطينيين على الاحتفاظ بالمفاتيح القديمة الصدئة لبيوتهم التي تم طردهم منها واغتصابها. ويقال إن جورج حبش، الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي له موقف صلب معروف من “التسوية السلمية” بشكلها الحالي، لا يزال يحتفظ بمفتاح بيت أسرته القائم حتى الآن في حيفا، والذي استولت عليه وتسكن فيه عائلة يهودية قادمة من بولندا. أعتقد أننا نستطيع أن نتعلم الكثير عن المفاتيح، فعلياً ورمزياً، من حالتي المحاربين الصليبيين واللاجئين الفلسطينيين. وبالنسبة إليَّ فإن إيماني بالمفاتيح مثل إيماني بتشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة.
* لكأنك ترقب شيئا في البعيد، ألهذا الحد تقرأ طوالع الغيوم العابرة؟
- “لكأني”.. “لكأني!”.. “لكأني!”. تفتنني أدوات التشبيه لأنها، ضمن أشياء أخرى، تنوط بالمرء الحروبَ الضَّروسَ وتجعله في حِلٍّ من مسؤولية الانتصار،. كلا، لا أقرأ طوالع الغيوم العابرة، لكني رأيت بعض الأشجار المتحركة، وحين طُردت إلى خارج الأسوار علمت أن عيني زرقاء اليمامة قد فقئتا، فبكيت. ومع ذلك فأنا ضد أن تُلقى على كاهل الشاعر مهمات تعجيزية لا قبل له بها في عصر ترصد فيه الأقمار الصناعية ومعدات التجسس حركات الأشياء في حدود سنتيمترات مربعة. أقول هذا وأنا واعٍ لآراء أوكتافيو باث حول استحالة القضاء على الشعر، فالشعر، وعلى الرغم من كل شيء، ليس من المخلفات الأحفورية للعصر البرونزي، وفي اللحظة التي ينتهي فيها الشعر ستنتهي الحياة. وفي المقابل فإن ذائقتي الشخصية تجعلني أنفر تماماً من الشعر الذي يكتب اليوم في أمريكا مثلاً. إنني أتفهم الدواعي السياسية والنظرية لكتابة شعر يومي للغاية بحيث يتحول الشعر إلى نوع من أنواع “الهمبورغر” لكني لا أستطيع أن أرغم روحي على قبول هذا ولا يجدر بي ذلك أساساً.
* ماركيز يكتب عن مائة عام من العزلة، ومايكل أنجلو يعتبر العزلة خلاصه الروحي، وزاهر الغافري يكتب عن عزلة تفيض عن الليل، وهلال الحجري يرى أنه لولا العزلة ما كتبت القصيدة. ما سر هذه الغواية التي اسمها العزلة للمبدع؟
- قد لا يكون الأمر غواية قدر ما هو مصير وضرورة معاً، وإن كان الأمر غواية فهي غواية وحشية بلا أدنى شك، وهي أقصى درجات الغواية. غير أن الأمر صار في بعض الحالات “كلاشيهاً” فارغاً، وبعضهم يخلط بين “الوحدة” و”العزلة” اللتين هما شيئان مختلفان تماماً على الرغم من تشابههما الظاهري، وإن كانت الأولى أحياناً تدريباً روحياً مبدئياً وضرورياً على الثانية. وبالنسبة إليَّ فإني أشك في ادعاء العزلة لمن لم يمر بتجربة الوحدة أو هو غير قادر عليها. قد يكون المرء وحيداً لكن خنجر العزلة لا يَجُزُّ روحه، وقد يوجد المرء في محفلٍ قاصف معربد هاذر فيكتشف عزلته هناك تحديداً، وقد يكون الشعور بالعزلة دافعًا اضطرارياً إلى الوحدة في تتويج نهائي للجدلية. يتوقف الإبداع الأصيل في جزء غير يسير منه على الإنصات الشغوف والمرهف لهمسات وأصوات باهتة وبعيدة أو مخنوقة، بل إيجاد أصوات لأشياء ومخلوقات غير قادرة على الكلام أو غير راغبة فيه أصلاً، وهذا لا يتأتى من غير الانخراط في مقادير متفاوتة من العزلة التي تصل أحيانًا إلى درجات متطرفة تجعل المرء يستحضر الفرق بين “الحزن” و”الغم”، بين “الميلونخوليا” و”الاكتئاب”، بين “الاكتئاب الوجودي” و”الاكتئاب الإكلينيكي”. ولهذا يجب عليَّ هنا أن أصمت في عزلة مطلقة.
* تختصر الكون بين مفردتي الفراق والحتوف.. ألهذا الحد ضيقة هي هذه الدائرة التي نسميها الحياة؟
- لا أختصر الكون الكبير الذي يعيش فيه غيري سعداء جذلين حبورين، ولكني ألَخِّص وأخْلِصُ لعالمي الصغير الذي أعيش فيه وحدي وإن كان يتقاطع بالضرورة مع العالم الأكبر، فللكون دينه ولي دين. لست إغريقياً كلاسيكيّاً كي أصرخ “أنا مركز الكون”، ولكني أحترم فكرة التصوف الإسلامي التي تذهب إلى أن “الإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير” والتي قيلت قبل قرون طويلة من كتابة دي سانت إكزوبري في إحدى رواياته أنه “حين يموت إنسان ما يموت عالم صغير”. وسؤالكم، في ما يخصني، يحمل إجابته فيه من خلال استخدامكم لمفردة “الدائرة” كالجنين يحمل بذرة موته فيه حيث يتجه الإبداع الجديد نحو كتابة التجربة وليس مسخ المثال بإعادة نسخه. وإن لم أكن وفيّا لتجربتي في الحياة فمن سيكون وفيّاً لها في الكتابة؟
* بيتهوفن ينتصر على آلامه بالموسيقا، وسيف الرحبي يترك الموسيقا وحدها صاخبة في الغرفة، والموسيقا تتدفق بعنف بين حروفك، ما علاقتك بالموسيقا؟
- علاقتي بالموسيقا نفسها عادية، ويحدث أن تمر أيام من دون أن أستمع إلى أي موسيقا، وبعض أصدقائي لا يستطيع أن يفهم ذلك، كما لا أستطيع أنا أن أفهمه. غير أنه يحدث أن يجيء يوم أقضيه كله في الاستماع للموسيقا. ففي لحظة الموسيقا ينبغي أن يكف كل شيء آخر عن الكلام. لا أعزف أية آلة موسيقية، أما متابعاتي الموسيقية والغنائية فمحدودة، وغالباً ما أتشبث بعمل موسيقي واحد أو أغنية واحدة لفترة طويلة. شغفت كثيراً بالأوبرا والموسيقا الكلاسيكية الغربية، لكني أقل ولعاً بها الآن. ورغم أن المعروف عن الأغاني الريفية الأميرية (country music ) أنها محافظة عموماً إلا أن بعضها يعجبني. أستمع خلال وجودي في الوطن إلى بعض الأغنيات العربية القديمة التي يتناقص توفرها للأسف. أما شغفي بالموسيقا الشعبية والأغاني البلدية والشعبية فإنه يزداد، ولكنه شغف غير تحليلي أو غير نقدي لعدم توفري على الأدوات المعرفية اللازمة لذلك. وبالمناسبة يستوقفني أن بعض شعراء الحداثة يطرِّزون نصوصهم بأسماء من قبيل هايدن أو شوبرت أو شوبان أو شتراوس في الوقت الذي يستمعون فيه في حياتهم الفعلية إلى موسيقا وأغاني فنانين بلديين أنعم بهم وأكرم. هذا ناهيكم عن أنكم إذا ما جالستموهم وتحدثتم إليهم فستكتشفون أنهم يجهلون أبجديات الموسيقا الغربية، فلماذا هذا الادعاء والتعالي والتَّنَفج والوضاعة؟ هي عقدة الخواجه البغيضة التي تتحكم حتى في طليعة المجتمع ودرعه الروحية والثقافية. تجد في أحد نصوصي إشارة إلى عبَّادي الجوهر وذلك لأن امرأة ما وأنا اشتركنا في حب عزفه على العود وأغانيه، فلماذا لا يحضر في قصيدة النثر التي أكتبها عوضاً عن أن يحضر تشايكوفسكي مثلاً؟ هذا عن الموسيقا عموماً، أما عن الموسيقا في الشعر فأظن أن علاقتي بها أوطد، ويصعب عليَّ تصور شاعر لا تربطه في شعره علاقة حميمة بالموسيقا. قد يبدو هذا الكلام غريباً حين يقوله شخص يكتب قصيدة النثر، ولكن الموسيقا في الشعر ليست خارجية فقط، وليست وزنا وقافية فقط. طبعاً لا يتسع مقامنا هذا للجدل الكثير الدائر حول هذا الشأن خاصة وأنني أتحدث إلى أحد الذين وقّعوا “بيان قصيدة الشعر”. ولكن في تجربتي الشعرية هناك عناية بالموسيقا عبر الاحتفاء بتقنيات مثل الجناس والطباق بل السجع أحياناً، كما أني أشتغل على تقنيات لا أريد أن أبوح بها الآن. ويبدو على بعض نصوصي أنها شعر تفعيلة بسبب الحضور الطاغي للموسيقا فيها ولكنها في الحقيقة قصائد نثر. كما أنني أعتني بال” onomatopoeia ” أي حين يُحاكي صوتُ حروفِ الكلمةِ معناها كما في قولنا “هسهسة” أو “أزيز” أو “خشخشة”. ورغم أن الفكرة تَرِدُ في علم جمال اللغة الغربية إلا أن إحدى الزميلات أشارت لي مشكورة أن ابن جِنِّي -الذي لم أقرأه للأسف- كان قد تحدث عن هذا أو عن شيء من قبيله في كتابه “الخصائص”. وفي مسعاي الأكاديمي في النقد السينمائي أحاول تطوير مفهوم “الطباقية” (contrapuntality) الذي استعاره إدوارد سعيد في النقد الثقافي من الموسيقا الكلاسيكية الغربية، فقد أغرم بطريقة عزف الكندي جلين جولد على البيانو من حيث قدرته على توسيع وإضاءة ثيمات موسيقية معقّدة، ومن حيث براعته في جعل تلك الثيمات “تعزف ضد بعضها” من دون تميز لإحداها. وبالنسبة إليّ أحاول إيجاد صلات قرابة بين “طباقية” سعيد وفكرة ألتوسير حول “الظلال الداخلية للإقصاء” التي ألهمت محرري مجلة “دفاتر السينما” الفرنسية في قراءتهم المرجعية لفيلم جون فورد “السيد لينكون في شبابه”.
* كيف تنتصر على آلامك؟
- أنتصر عليها بأن أتركها تعذبني كما تشاء، فلا تزال مقولة آرثر رامبو بزرع دمامل على وجه المرء وتربيتها صالحة!
* تتجسد المرأة/ الأنثى في صور بهية مراوغة في أعمالك، ماذا تعني لك المرأة؟
- أنا معني ب”امرأة” أو ب”أنثى” وليس ب”المرأة” أو ب”الأنثى”. وأظن أن أحد إشكالات الحداثة العربية هو الاستخدام الممنهَج ل”أل” التعريف التي تشيِّئ ولا تؤنسن، وقد تجذر هذا الإشكال، ضمن عوامل أخرى، بسبب غياب النقد الثقافي والفلسفي وطغيان النقد الجمالي -على تواضعه- في الثقافة العربية. وهذا الاستخدام ليس من شكليات اللغة التي ينبغي المرور بها مرور البخلاء، بل هو موقف وممارسة أيديولوجيان، فالتاريخ كله نتاج للغة كما يخبرنا نيتشه في إكماله الخطير للمثلث الأبستميولوجي والأنطولوجي للقرن التاسع عشر (ماركس، فرويد، نيتشه) الذي أظن أنه سيظل يحكم العالم، بتنويعاته الحالية والقادمة، لخمسة ملايين سنة قادمة، وهي ما تبقى من العمر الافتراضي لكوكب الشمس حسب معظم التوقعات العلمية. وبالنسبة إلى الحداثة العربية فحدِّث ولا حرج عن تجديد اللغة والتخلف في الفكر والممارسة. تجعل “أل” التعريف الذات موضوعاً، والفرد مجموعاً، والتجربة الشخصية مثالاً، والحكاية المجهولة نموذجاً، والقلب قالباً.
إصغاء للعالم
إضافة إلى ما قاله البياتي عن سماعه لخطوات الموت قريبة منه أخبرني أحد الأصدقاء مرة أنه في زيارة للجواهري في الهزيع الأخير من حياته كان يتحدث عما بدا وكأنه شخص ما هكذا: “إيه ووداعتك شفته البارحة!” أو “والله البارحة اجا وقعد شويَّه وبعدين انهزم” أو “أظنّه اليوم جاي بعد”، فاكتشف هذا الصديق أن الجواهري إنما كان يتكلم عن الموت ولحظته الوشيكة. يا له من قَدَرٍ عراقي قاس أن يكون الموت مُشَخْصَنَاً إلى هذا الحد الذي يعجز عنه حتى بيرغمان في “الختم السابع”. وفي أية حال كان خيراً للبياتي والجواهري أن رحلا قبل أن يشهدا عصر “يا البرتقالة” و”يا التفاحة” و”يا الباذنجانة” وربما قريباً “يا الخَسة” و”يا الخِيارة” و”يا القرنبيطة” و”يا البطيخة” إلى آخر “الكَبْرَة” المتعفنة والمسمومة. بالنسبة إليَّ فإني أصغي الآن إلى حشرجات تشيزري بافيسي بعد أن ابتلع ستة عشر قرصاً منوماً قوياً في غرفة صغيرة بفندق قذر في روما فنام بهدوء للمرة الأولى وإلى الأبد؛ أصغي إلى “الفصول الأربعة” لفيفالدي و”قدَّاس الموتى” لموزارت و”ليلة” لعبدالرّب إدريس في الوقت نفسه، أصغي إلى خطوات وعظام من رحلوا؛ أصغي إلى النجمة العمانية البعيدة؛ وبصورة مفارقة أصغي إلى نيكوس كازانتزاكي وهو يتأوه من أعالي نجمته الكريتيّة “أنا ما تعبت ولكن الشمس غربت”.
لغات الكتابة
فإني أعيش حنيني في اللغة. كما أن نفوري من رؤيا “مونوليثيَّة” وسياق عام للحنين جعل ذاكرتي الحنينيَّة والجماليَّة متشبثة بجزئيات مبتورة وتفاصيل صغيرة كالروائح، والأصوات، ومذاق الأشياء، وقصاصات من لحظات هاربة، وذكريات متقطعة من راحلين أو كائنات لم تخلق بعد، وأماكن قليلة تتمرأى مثل نجوم غارقة في الضباب تحديداً وبالضبط في انبتاتها عن ذاكرتها وتنكرها لتاريخها.
الخليج
2006 – 08- 14
أقرأ أيضاً: