في أبريل (نيسان) الماضي، احتفلت الأوساط الأدبية في مصر، ببلوغ الروائي إدوار الخراط عامه الثمانين. ونظم «المجلس الأعلى للثقافة» بهذه المناسبة احتفالية كبرى، تضمنت إصدار كتاب عنه، وحلقة نقاشية حول أعماله وآرائه ومفاهيمه النقدية التي أثارت، ولا تزال تثير، جدلا بين الكتاب والنقاد.
وبرغم هذه السن، لا يزال الخراط كاتبا إشكاليا بامتياز، ومجربا جميلا يعشق مغامرة الكتابة ويعتبرها نوعا من مراودة المستحيل. ولعل هذه المغامرة تشكل المشترك الفني بين أوجه الخراط المتعددة التي تتلاقح فيها هموم الخراط الروائي والقاص، وهمومه الأخرى كشاعر وناقد ومترجم وعاشق للموسيقى والفن التشكيلي والمسرح.
حول هذه الهموم، وبمناسبة دخوله عباءة الثمانين، التقته «الشرق الأوسط» في هذا الحوار:
* في هذه الرحلة الشائكة، ما هي العلامات أو المحطات التي شكلت وعيك، سواء كان هذا التشكيل حياتيا أو معرفيا؟
ـ سؤال إجابته طويلة، ولعلني تناولتها في أكثر من موضوع في كتب مثل «مراودة المستحيل»، وغيره. ولكن يمكن باختصار أن أشير إلى مرحلة التحرر الفكري والعقائدي عقب قراءات ومعايشة لأفكار الاشتراكيين الفابيين في أول الأمر، ثم مرحلة الانتقال إلى العمل الثوري الوطني ضد الاستعمار والمطالبة بالاستقلال، والانخراط في حلقة تروتسكية في الإسكندرية في الأربعينيات، ثم ما أتصور أنه كان دائما هدفي ورسالتي، وهو الخلوص بقدر ما يسعني للعمل الفني منذ ذلك الحين وحتى الآن.
وأتصور أن الحياة بكل ما تحمله، تركت آثارها المحتومة، سواء على المستوى اليومي، أو على المستوى الفكري. وعموما ليس هناك ما يجيب عن هذا السؤال بشكل واف سوى الروايات والقصص التي أنفقت العمر في كتابتها.
* العنف الرمزي أو المكتوم، يمثل ملمحا أساسيا في النسيج السردي لديك منذ «حيطان عالية». ولكن الملاحظ أن هذا العنف تحول في الأعمال الأخيرة إلى عنف إيجابي فاعل على سبيل المثال في «مضارب الأهواء» و«صخور السماء». هل توافق على هذا الرأي، وما الذي تغير؟
ـ العنف في تصوري، حقيقة من حقائق الوجود نفسه، ولا أظن أنه عنف رمزي، حتى في كتاباتي الباكرة، بل أظن أن الكتابة منذ البداية ترصد العنف باعتباره واقعا أساسيا من وقائع الحياة. المهم هنا هو التفرقة بين عنف مبرر وعنف مدان. أتصور أن الرؤية الكامنة خلف كتابتي، والسافرة أحيانا، هو العنف الذي يقترن بالعدوان، وهو أمر مدان نهائيا. أما العنف الذي يقترن بالدفاع عن الحرية والكرامة، أو حتى الحياة نفسها فهو قائم لا مجال لتجاهله أو إنكاره.
* البعض يأخذ عليك الإفراط في الوصف، ويرون أنه برغم إيجابياته، يلغي طاقة القارىء الخيالية، ويحوله إلى متلق سلبي.
ـ هذا خطأ، الوصف لدي يقوم بدور الدراما والديناميكية. كما أن تفصيلاته الدقيقة لا تمثل الفاعلية الحركية فحسب، بل تحفز المتلقي على أن يندمج ويتماهى مع موضوع الوصف، الذي هو في الوقت نفسه حركة درامية.
* أنت مغرم بالموسيقى الكلاسيكية، هل ترتبط حركة الوصف بهذا؟
ـ الموسيقى الكلاسيكية بطبيعتها درامية وديناميكية. والوصف يحتل مكانة في السياق السردي مع مقومات سردية أخرى، ولا أتصور أنه يستأثر بالمسرح الروائي كله، بل هو يسهم في تشكيل وتحريك السياق القصصي والروائي، بل والشعري أحيانا. أتصور أن الموسيقى تلعب دوراً كبيراً، إن لم يكن أساسيا في عملي القصصي والروائي على أكثر من وجهة، سواء كان ذلك موسيقى الصوت، أو الجرس، أو كان ذلك في بنية السياقات الروائية والقصصية نفسها، فضلا عن البنية الشعرية.
* كلما أقرأك يصلني هاجس أنك تسعى إلى الكمال... هل في هذا تكمن فلسفتك؟
ـ الفن لا يكون إلا إذا كان سعيا إلى الكمال، وإذا تخلى عن هذا السعي سقط في هوة الابتذال والركاكة.
* لكن هذا السعي حول الرواية يحولها عندك إلى حصن منيع؟
ـ الرواية، في تقديري، هي النوع الأدبي الأكثر مرونة وطواعية لتقبل إنجازات الأنواع الأدبية الأخرى، بل أنواع الفنون الأخرى، بما في ذلك الفن التشكيلي والموسيقى والتقنيات السينمائية والمسرحية، لذلك أتصور أنه لا يمكن تسميتها بالحصن. هذه التسمية توحي بالمناعة والانغلاق والانسداد الآتي من الخارج، بينما الرواية هي الأكثر انفتاحا وتقبلا لاقتحامات العالم الخارجي. الفن ليس حصنا، بل هو سعي معرفي وجمالي ودعوة للتواصل والمشاركة على عكس ما توحي به كلمة الحصن.
* أنا لا أقصد الحصن بمعنى الانغلاق أو الانسداد، ولكن باعتباره حصنا نفسيا وملاذا روحيا؟
ـ لا هذا، ولا ذاك. العمل الفني، بشكل عام، ليس مجرد حيلة نفسية للدفاع عن النفس (الذات) وليس لإشباع نزعات تتعلق بالذاتي وحده. أتصور العمل الفني باعتباره صيحة أو نداء للمشاركة في خبرة روحية تتجاوز الذات للفنان أو المتلقي، وتتصل بتلك المنطقة الغامضة والقائمة بكل رسوخ مع ذلك، وهي ما أسميه منطقة ما بين الذاتيات، أي تلك الأرض أو الساحة المشتركة التي نلتقي فيها معاً، ونعرف معا شيئا عن ذاوتنا عن هذا العالم الذي نضطر للعيش فيه سعياً وراء مستحيلات، لا يمكن أن ندركها، ولا يمكن في الوقت نفسه، أن نتخلى عن السعي إليها بدأب.
* ولكن الصيحة فيها بعد ونأي ودعوة لآخرين غير موجودين؟
ـ صحيح، ويقال ان كلا منا جزيرة منفصلة، وقد لا يكون، ولكن هذه الجزر تقع في بحر واحد متصل. فهناك هذا الانفصال والاتصال في الوقت نفسه. نحن لسنا بصدد قياسات منطقية. إن الخبرات الإنسانية بطبيعتها تتناقض وتتوافق، ومن ثم الصيحة نداء لآخر، قد يكون هذا الآخر كامنا في الذات نفسها، فكأنها أقرب إلى النجوى منها إلى الصيحة في غير واد.
* على ضوء ذلك، هل تولي أهمية كبرى لخبرات الطفولة؟!
ـ المسألة من البداهة، إذ أن الطفل أبو الإنسان الناضج وليس العكس. القسمات الرئيسية في حياة أي إنسان تتشكل في سنوات طفولته، وتلقي بأثرها العميق طول مسار حياته. سنوات الطفولة قارة حافلة بالسهول والجبال، لعل كلا منا يمضي، أو يقضي حياته كلها في محاولة لاستكشافها أو اجتيابها.
* يقول كونديرا إن الرواية تمنحني ما لا تستطيعه الأنواع الأخرى. ما الذي لم يمنحه لك القص وجعلك تتجه إلى الشعر وإقامة معرض تشكيلي في فن الكولاج؟
ـ اسمح لي أن أختلف مع كونديرا، والاختلاف لا يفسد للود قضية. ولكن أتصور أن مشروعاتي الفنية، تتكامل مع بعضها بعضا، وتتسق فيما بينها، وأرجو أن يثري أحدهما الآخر. فأنا لم أكن أفتقد شيئا عندما كتبت الشعر «وأنا طفل غرير». منذ البداية على حد قول إيليا أبو ماضي. وكان الكولاج من هوايات الطفولة الأولى، ولعله ما زال. والمسألة هنا ليست مجرد قص ولصق، بل هي إعادة تشكيل لعناصر موجودة، لتكتسب دلالات لم تكن قائمة فيها، وهي على صورتها الأصلية.
* شخوص الخراط تتوق إلى الحرية وكأنها مسجونة داخل قميص من الجبس. هل هذا نتيجة مشاعر وأحلام الكاتب المجهضة انعكست على الشخوص؟
ـ لا أظن أن هذه الشخوص في أقفاص من الجبس، أو حتى من الوهم. أما التوق إلى الحرية، فهي خصيصة الإنسان على إطلاقه. فلعلك إذ تحرم إنسانا من تعطشه المحرق للحرية بأي من معانيها تحرمه من إنسانيته ذاتها. وفيما أتصور أيضا هذه الشخوص حتى في حلمها بالحرية لا تنفصل عن واقعها، بل تحاول أن تغيره، بما تمتلكه من توق، ومن خبرة روحية ونفسية تكتسبها بواسطة الحلم نفسه.
* ما الذي يريده إدوار الخراط من بث جزء من سيرته الذاتية على لسان الراوي في أعماله؟
ـ أتصور ان كل كاتب مهما بلغ من موضوعية أو من حياد إزاء وقائع حياته الشخصية لا يمكن أن يفلت من أن تنطوي كتابته على أمشاج أو شرائح من سيرته الذاتية، سواء كان ذلك بالسرد الوقائعي المباشر، أو بسرد يتدخل فيه الخيال. لعل الكاتب لا يحسن إلا كتابة ما يعرفه معرفة حميمية. ويتصور الكاتب عادة عن صواب أو خطأ أنه يعرف سيرته الذاتية معرفة حميمية. بالنسبة لي فكل ما كتبت مما يوحي بأنه سيرة ذاتية دخل عليه الخيال مقتحما أو متسللا على السواء، بحيث يدخله في سياق فني له بنية سردية، تختلف عن السيرة الذاتية، أو بتعبير الراحل علي الراعي «سيرة ذاتية مفننة»، أي أنها أساسا عمل فني يوظف ويطوع إيماءات لسيرة ذاتية هي نفسها متخيلة، لم تقع قط وكان ينبغي أن تقع.
* كانت «الرسالة» بشكلها الكلاسيكي لإضفاء حيوية على النص في أعمالك المبكرة، لكن في الأعمال الأخيرة «صخور السماء» وغيرها، أصبحت الرسالة هي «المتن»، سواء بشكلها التقليدي أو باعتبارها خطابا يحكم إطار الرؤية، وهو خطاب أيديولوجي ـ في الغالب ـ كيف ترى ذلك، رغم علمي أنك تكره كلمة ايديولوجيا؟
ـ ممكن أن تكون الرسالة بمعنى الخطاب المكتوب من شخص إلى آخر. إنها تقنية أساسية أو هامشية حسب السياق أو البنية الروائية أو القصصية. فإذا تحولت من تقنية مساندة إلى سياق قائم بذاته، فما الضير في ذلك. بمعنى قد تكون هذه الخطابات متوناً أو هوامش، المعيار في ذلك هو كيفية اندراجها أو إدماجها في السياق البنائي للعمل، فلا تكون ذاتية أو مقحمة أو ثقيلة الوجود، ملقية بعبء رازح على العمل الفني، بدلاً من أن تكون مضيئة له ومسهمة في بنيته.
* أسأل حول ما إذا كان هذا التحول في استخدام تقنية الرسالة مرتبطا بخصوصية روايتك «صخور السماء» وغيرها؟
ـ أترك الإجابة عن هذا للنقاد وللمتلقي، وفي تصوري أن تقنية الرسالة في «صخور السماء» مقوم أساسي من بنية العمل الروائي نفسه، بمعنى من المعاني، حيث تقوم الرسالة مقام وجود شخوص لها خطابها. فكأن الرسالة تحل محل شخصيات تتكلم باسمهم، بل تقوم مقامهم، وربما كانت «صخور السماء»، و«طريق النسر» تؤديان هذا المعنى في البناء الروائي لهما.
* هل جسد الأنثى مقابل الحرية بالنسبة لك؟
ـ ليس الجسد عندي جسدا فقط، وأي قراءة سوف تؤدي إلى أن الجسد عندي هو قيمة روحية أساسا، ومن ثم ليس هناك عكوف على جسدانية بحتة إذ أن هذا يعني عكوفا على جثمانية بحتة. يعني أن الجسد إذا أخذ على علاته، كما يقال، وجرد من بعده الروحي الضروري الملازم الحتمي يصبح مجرد جثمان، يصبح جثة ملقاة على قارعة الطريق. لعل هذه التفرقة هي المعيار في كتابة أو فيما يسمى كتابة الجسد التي أصبحت رائجة في وقت من الأوقات. ليس عندي كتابة للجسد بل هي بالضرورة، كتابة الجسد الروح أو الروح المتجسدة في الآني نفسه. ولذلك فإن الخبرة الجسدية هي خبرة روحية، ويصح أن تكون سببا للحرية بمعنى من المعاني.
الشرق الأوسط
5 يوليو 2006
إقرأ أيضاً: