يقول إنه واحد من المنسيين الهاربين من جنة أصحاب السلطان والنفوذ.. المنتمين إلى الجائعين الموزعين في نواحي العالم.
ويقف معهم دوماً ضد الحروب التي يشنّها القتلة والمستبدون والظلاميون والحكّام «وحتى المثقفون».
لذلك يكون الحوار مع الشاعر والناقد والاستاذ الجامعي اللبناني عقل العويط ممتعا.. والأكثر متعة أن تقرأه في شعره، وفي تعليقه الأسبوعي في ملحق «النهار الثقافي» حاملا السوط الناقد المصوّب في آن... وفي هذه الإجابات الرائعة الذاهبة الى أعماق أسئلتنا المتكررة...
عندما تقرأ في صحف الصباح أن سدس سكان العالم يعانون الجوع... ما الذي يمر في كرامتك الإنسانية؟
أنا واحدٌ من هؤلاء. واحدٌ من هؤلاء المرذولين، الهامشييّن، المنسييّن، الهاربين من الجنّة، جنّة أصحاب السلطان والنفوذ، أرباب المال والمناصب، أيدي القتل والتمييز العنصري، صانعي الفقر والجوع والتشرد في العالم. أنا واحدٌ من هؤلاء، وإن لم أكن فقيراً الى حدّ المثول في صفوف الجائعين الموزّعين في نواحي العالم الأربع. وإذا كنتُ أقول إني واحدٌ منهم، فلأني في عقلي وروحي وضميري ولاوعيي، أنتمي اليهم، وليس الى الذين يقفون في الجهة المقابلة. ومن شأن ذلك أن يجعلني مرفوع الرأس وصاحب كرامة موفورة الجانب. يكفيني أني أختار طوعاً أن أكون منسياً ومرذولاً وهامشياً وهارباً.
على كلّ حال، ليس الجوع وحده ما يمكن أن يجعلني مهدور الكرامة. إنما الشرط الوجودي برمّته، ضمن معادلاته ومقاييسه القائمة، وهو شرط تنعدم فيه كل أسباب الكرامة، أنا في هذا المعنى جائع، ليس الى الخبز، لكن الى ما يحقّق كرامة الشرط البشري. وأعتقد أني سأحيا جائعاً، ما بقي لي من حياة. والأرجح أني سأموت، في هذا المعنى، جائعاً.
لمن تكتب؟ ولماذا؟
أكتب لنفسي. أولاً وأخيراً.، وأعتقد أني أكتب لآخرين أعرفهم، ولآخرين لا أعرفهم. بل أعتقد أني أحبّ أن أكتب لآخرين. قد يكونون قلائل أو كثراً. هذا مهم، لكنه ليس مهماً جداً. الأهم أني لا أفعل ذلك عن سابق تصوّر وتصميم. كَمَن يكتب بافتعال، أو بتصنّع، أو كوظيفة وكواجب. أو لأجل غاية مادية. فأنا، إنما أفعل ذلك بحثاً عن الذهب، ذهب الحاجة العميقة التي هي حاجة الكتابة. بل هي الحاجة الى الكتابة.
أتحدث عن الكتابة باعتبارها المعنى شبه الأوحد الذي يجعلني خالقاً. أنا أخلق نفسي بالكتابة. كما أخلق نفسي بنظرات عينيَّ، أو برغبتي، وهذه ثلاثتها أفعال حبّ.
من أين تستمد مناعتك لمقاومة كل هذا الالتباس المحيط بعالمنا المحلي، وذاك الأقرب، فالأبعد، أين روح الجمال؟
للعلم والخبر: أنا كائن هشّ، بل في منتهى الهشاشة. الانطباع الذي قد يكون يتولّد لدى الشخص الآخر، ربما لا يوحي بهشاشة الكائن البشري الذي فيَّ. هذا انطباعٌ خاطئ. بل هو غلطٌ فادح. وفي آن واحد: أنا قويّ ومنيع وغير قابل للانهزام. قد لا أكون أملك القوة الكافية، ولا الرغبة، ولا الدافع، ولا الأسباب، لأشارك في الحرب. في كل حرب.
لكني أقف في الجهة المقابلة، من الحروب التي يشنّها القتلة والمستبدون والظلاميون والحكّام (وحتى المثقفون). فضلاً عن تلك الحروب الصغيرة، المرئية وغير المرئية، التي يشعلها صغار النفوس وأهل الغيرة والحسد والحساسيات والحسابات الصغيرة، من كلّ حدب وصوب. ولِمَ لا، أيضاً، بل خصوصاً، في الأوساط الأدبية. مرارتي لا حدود لها، على هذا المستوى. لكنْ، لا هوادة عندي في هذا الموقف. في هذا المعنى، أنا منيع بما فيه الكفاية، وقويّ جداً، وغير قابل للهزيمة، لأني أستمد مناعتي من قوتي الروحية، ومن محاربة هذا العالم القميء، وذلك بالانسحاب الطوعي شبه الكامل منه، ومن شروطه. طبعاً، ضمن متطلبات الحدّ الأدنى للاستمرار الحياتي والأدبي. لا شيء يهزمني إلاّ شعوري بأني لا أستطيع أن أنتصر على العالم: أكان من طريق ازدرائه واحتقاره، أم من طريق الخروج التقريبي منه الى عزلة الحياة الشخصية. أنتصر عليه بالخروج منه. بل أنتصر عليه، وأنا في خضمّه: بالكتابة. بالمرأة التي أنا لها. معاً وفي آن واحد. على كل حال، الكتابة والحب، هما واحد في اثنين. وأنا لا أجازف إذا قلت إن الكتابة هي عندي فعل وجديّ (من الوجد) بامتياز. مثلها مثل الحبّ.... أما روح الجمال فمقيمة في الحياة نفسها، في الطبيعة، في المرأة، في المرأة التي أنا لها، وفي أسفل رأسي.
هل من مكان لـ«الشاعر» الذي فيك، والإنسان الحالم بتغيير ما إن يقرأ ذاته بين سطور ما يدور حولك؟
لولا الشاعر الذي فيَّ، لكنتُ انهزمتُ من زمان. ربما هو وحده، هذا الشاعر، يستطيع أن يجد لي مكاناً «نظيفاً» في هذه المزبلة المخيفة. هو وحده يحميني، ينقّيني، يحفظني، يقوّيني، بل يستفزّني، ويجعلني كائناً صابراً، ومتحمّلاً كوني موجوداً وسط هذه الكارثة البشرية التي اسمها المجتمع الإنساني. نعمة الشعر، نعمة المرأة، هما وحدهما تجعلانني «أقتنع» بأن «أهضم» هذه الحياة، وبأن «أهضم» البشاعة الموجودة في ما تسمّينه «ما يدور حولك».
كنتَ من السبّاقين الذين انتقدوا من موقعهم كمثقف تحولات واستدارات أهل السياسة... هل انتقدت لغياب الدور كمثقف؟ أم كمواطن خدع (بضم الميم)؟
أنا كائنٌ غير سياسي، وإنْ كنتُ أتورّط من حين الى آخر في قضايا مرتبطة بالشان العام. بل أنا أحتقر السياسة ورجالها جميعاً. الاحتقار هو الاحتقار الفعلي لا اللفظي. طبعاً، أنا أقول ذلك من دون تعميم، ودون إهانة أحد. الاحتقار ناجم عندي من كون السياسة قائمة على الانتهاز، ومن اقتناعي بأن العاملين فيها هم كذبة، في الضرورة، ومنافقون ومتنازلون ومساومون. وأنا لا أستطيع أن أتحمل الكذب والنفاق والتنازل والمساومة، لا في السياسة ولا في الثقافة، ولا في الحياة الشخصية. وإذا كنتُ أتنازل «قليلاً»، وأساوم «قليلاً»، فإن ذلك يترك في نخاعي الشوكي، والى الأبد، جروحاً معذِّبة ومبكِّتة، لا أستطيع أن أكتمها، أو أدملها. أكان التنازل والمساومة في السياسة، أم في الثقافة، أم في العمل، أم في الضمير، أم في أي ميدان آخر. المثقف اللامساوم، أي غير المرتهن، لا يستطيع إلاّ أن يكون صوتاً فردياً هشّاً. وأنا، بافتخار شديد، أستطيع أن أقول عن نفسي إني شخص غير مساوم وغير مرتهن. فإذا حلم هذا المثقف باحتمالات التغيير فلا بد أن يصطدم بالجدار المسدود. ولا بدّ أن يتعرض للخديعة. هو تالياً، خاسرٌ دوماً. ولا نَدَمَ عندي بسببٍ من ذلك.
لذا أصف نفسي بأني إنسان أعيش في الأمل اليائس. أحياناً، أحلم، وآمل، لكني أقع، كل مرة، في خديعة الحلم والأمل. هذا على المستوى العام، أما على المستوى الشخصي، فكلما حلمتُ ازداد اقتناعي بأني أستطيع أن أذهب أبعد وأعمق. فضلاً عن اقتناعي بأني أعيش العيشة الكريمة، فقط بهذه الطريقة. شاعراً وشخصاً فردياً وعاشقاً. وهلمّ.
في «إنجيلك الشخصي» الصادر حديثاً في باب الشعر، تعترف قائلاً: «كيف ليدين أن تعيشا في الموت المؤلم وتظلا قادرتين على الأمل في الصباح التالي». من يضغط على يديك؟
كنتُ أكتب شيئاً له علاقة بموت العالم بعد أيلول 2001. وباليأس الشامل. وأيضاً بالموت الشخصي. وبيأسي من الاستمرار. وفي الوقت نفسه، كنتُ أكتب بإعجابٍ ودهشة عظيمين، كيف أني أستطيع على رغم الموت واليأس الشخصيين والوجوديين، كيف أستطيع أن أكتب الأمل، أمل اللغة، والشعر والحياة. وكيف تظل يدايَ هاتان، تستطيعان مواصلة الحلم والأمل. أعني يدي التي تكتب، ويدي التي تضع يدها على فجيعة العالم. أنا حقاً متعجب ومندهش من قدرة يديَّ على اختراع الكتابة. أعني قدرتهما على اختراع الأمل في اللغة والحياة.
من هم شعراء اليوم؟ وكيف حال الشعر؟ ومن هو أمير الشعراء؟ وأين هي مهرجانات الشعر الطنانة والرنانة؟
كل ما أعرفه عن الشعر أنه يعرفني وأعرفه. وأنه يعيشني وأعيشه. وأنه أيضاً يكتبني وأكتبه. وأني أعرفه معرفةً مطلقةً، بالغريزة والحدس والخبرة والاختبار والقراءة. وأني أعيشه عيشةً لا يعيشها سوايَ. وأني أكتبه كتابةً لا يكتبها سوايَ. هذا، على ما أعتقد، يعفيني مؤونة الجواب عن الشعراء والأمراء والآباء والمهرجانات.
ماذا تأخذ من شريكة حياتكَ، جمانة حداد، وماذا تعطيها؟
هي أعطتني، وتعطيني، كل شيء. حتى حياتي الثانية هذه، هي من عطاياها. فأنا أيضاً مولودها. أما ماذا أعطيها، فسأظل أقصّر عن إعطاء روحي ولغتي كاملتين، وحتى النفس الأخير. مرةً واحدة أقول: إنها المرأة التي أنا لها.
هل فكرت يوماً في الإضراب احتجاجاً على أمر ما؟ وأن تكون عقل العويط آخر؟
أنا مُضرِب دائماً، ومحتجّ دائماً. فأنا مضرِبٌ عن الحقارة. وأنا محتجّ على الشرط الوجودي برمّته. فهل تريدين إضراباً أقوى من هذا الإضراب؟ وهل تريدين احتجاجاً أعظم من هذا الاحتجاج؟!
أما أن أريد أن أكون عقل العويط آخر، فلا أعتقد أن ذلك سيغيّر شيئاً من حقيقتي. ولكنْ، نعم. ربما. لكنتُ أريدني أكثر احتقاراً لهذا الشرط الوجودي. وأكثر بحثاً عن الذهب، ذهب الكتابة الشعرية.
ما جديدك الذي سيصدر بعد حين؟
أكتب شيئاً ربما يكون بمثابة «وثيقة ولادة». نوعٌ من سيرة شعرية للصرخة التي أنجبتني في أحد الأيام. الصرخة التي لاتزال تنجبني، الآن، أيضاً، وباستمرار.
أنت شاعر وناقد للشعر.. متى تكون القارئ؟
أنا قارئ نفسي وكاتبها وناقدها. وفي الآن نفسه، أنا أقرأ الشعر والشعراء. بل أنا أقرأ الحياة وأكتبها وأنقدها.
جريدة الأوان الكويتية