الكاتب والشاعر عبدالله السفر. يكادُ المعنى ينفجر من قلب المعنى كلما قرأت بوحه، فما بين القصيدة ونثرياته جسدٌ رحبٌ لا يشي بالمسافة، ولكنه يحيلنا إلى نبضٍ دافئ، وفي منتصف الكلام دوماً نرتهن لفواصله وعقلانيته الكبيرة، فهو يتسامى كأيّ. رجلٍ أحسائي في عنفوان النخيل، و ينثر بياضه في عين الشمس كي يقرأ ما لم تقله الأساطير.
أصدر مجموعات أدبية متباينة في المضمون ولكنها ذات رؤية جمالية متصلة تحطُّك على شفرة اللهب، لشعره خصوصية حميمة، كأنك لا تنتهي من نصه، فهو المترف أبداً بالإيحاء والوشوشات الأبدية في أذن القارئ، ثمة ما يستدعي الاتكاء على وسادةٍ من أمل والتشظي في حساسيةٍ مفرطة، عبدالله السفر يجيد قراءة ذاته قبل كتابتها ويتحايل في كتابتنا أيضاً ليعيد القراءة لذاته التي لا تنفك في السؤال عن المغزى، ولكن بشفافية متناهية. عبدالله السفر بوابة لا تنطفئ بين يدي الزمن، وها هنا نشرع أولى غواياته وومضاته وعفويته أيضاً عبر حوارٍ خاص.
* في ديوانك الأول «يفتح النافذة ويرحل» نصوص ملتبسة بين قصيدة النثر والقصة والخاطرة الملغزة، هل تكتب النص المفتوح لتبتعد عن التجنيس الأدبي، إذ أنك لم تتغير في ما بعد؟
- ليس ثمّة قصديّة في ما أكتب من نصوص إبداعية من جانب الشكل سواء في «يفتح النافذة ويرحل» أو «جنازة الغريب» أو «يطيش بين يديه الاسم». أكتب من دون أن يكون في البال التزام بقالب معيّن للكتابة يرضى عنه حرّاس «جمارك الأدب». هناك راحة في التصنيف يسعى إليها أفق التلقي المعتاد. الفرز الصارم بين الأجناس الأدبية بما يمنع «الاختلاط» والتشويش. أحسب أن الكاتب غير معني بهذه القسمة. لحظة الكتابة هي ما تحدّد الشكل في نزوعه إلى جهةٍ قارّة أو متحوّلة، من دون أن يكون هذا الشكل حاملاً قيمة ابتدائيّة. أفترض أنّ التحقق الفني هو ما يشغل الكاتب عندما يكتب نصّه؛ سرداً أو شعرا أو خاطرة أو حتى مقالة يخامرها التأمل في ما هو جوهري يسكن العابر.
* ما بين السرد والنثر عوالم مكثفة، وكائناتٍ تموت وتحيا، هل تختلف الذات السردية عن الشعرية من حيث القيمة والبناء الفني؟
- الكتابة العابرة للأجناس وبمنطقها الذي ينتصر للإبداع وحده، لا تتوقف عند التعيين وإصدار حكم يحدد معالم التفاوت في ألوان الكتابة. ثمة موشور تعبره أطياف قوس قزح بما فيها من تعدد وتشذر وانقسام، فلا يجد غايته في خلع رداء الانسجام والتوحيد للخلوص إلى شيءٍ صلب؛ يهدي إلى ما هو سردي خالص أو شعري خالص. ثمة ذات تسرد شعريا وتشعر سرديّا. على الأقل هذا ما أميل إليه في مطالعاتي الإبداعية (إدوار الخراط، أمين صالح، سليم بركات، محمد الشركي، عبدالله ثابت، الياس فركوح...).
* في ديوانك «جنازة الغريب» الذي صدر مؤخراً عن نادي الشرقية الأدبي، هنالكَ حزنٌ دامس، وروحٌ متمردة؛ كيف جمعت بين حالتين متضادتين؟
- شكرا لهذه الملاحظة التي يسجلها سؤالك عن «جنازة الغريب» بالتلاقي بين الحزن والتمرد. حزني أعرف سببه «أتذكّر وأدمعُ. صناعتي الحنين».. لوعة الغياب الضارية التي يتكشف عنها رحيل الأحباب، والأشياء الجامعة مع من غادر أو بقي، لكن زمن التحولات جعله برسم المغادرة، واختفاء الأمكنة وعوالم الطفولة؛ كل ذلك يحفر ويفتح بابا للنزيف لا سبيل لرده وإحكام الرتاج. وربما هذا ما يضرم ـ من جهة غير معلومة ـ روح الاحتجاج و«الحرد» لعل غائبا يعود أو طيفه؛ يلطف جهامة الفقد والنقص الذي يثغر الفؤاد والجسد.
* «جنازة الغريب» هو ديوانك الأخير2007 بعد ديوانك الأول الصادر في عام 1995، فاصل زمني بينهما 12 عاما، أهو تأني الوعي أو عين الناقد التي تسكنك لتحبس النص طويلا؟
- لا هذا ولا ذاك، لا التأني ولا عين الناقد. المسألة تتصل بفرصة النشر، وقد كان من الممكن أن يمرّ زمنٌ أطول حتى يخرج كتاب «جنازة الغريب»، لولا لطفُ الأقدار التي رسمت التحوّل في أنديتنا الأدبية في السعودية لتنشقّ صخرة التقليدية عنها، فتتبنّى الحركة الجديدة في الأدب؛ إبداعا ونقدا، فكانت لنا الفرجة التي نفذت منها كتبي وكتب غيري.
* رغم وفرة كتاباتك الإبداعية والنقدية والصحفية إلا إنك تتواجد على نطاقٍ ضيّ.ق، ولا تكترث بالتوزيع أو الترويج لكتبك ..أهو تواضع الكبار؟!
- تعرف أن الكاتب تنتهي مهمّته بتقديم كتابه إلى جهة النشر التي تتولّى طباعة هذا الكتاب، وتدبير توزيع.ه.. وعند هذه النقطة ـ التوزيع ـ يتبدّى عذابُ الكتاب ومحنته. كيف يخرج الكتاب من مخزن الناشر (وربما المطبعة!) إلى رفوف المكتبات؟
التوزيع هو الحلقة الأضعف في عالم النشر، وهذا الضعف ينعكس بصورة سلبية على حضور الكتاب بين أيدي القراء من مهتمين ومتابعين للحركة الثقافية.. وربما كانت معارض الكتب هي الحل «التسكيني» لتجاوز هذه المشكلة التي لفرط ما تراكمت، أصبحت أزمة مستمرة من دون علاج. يحاول البعض تجاوز هذه الأزمة عبر قيامه شخصيا بتوسيع «نطاق الإهداء» إلى أكبر عدد ممكن من المعارف والأصدقاء. التوزيع جرح الكاتب الذي لا يعرف سبيلاً إلى مداواته.
* قراءاتك النقدية احتفالية، ولا توارب أو تتصادم في أطروحاتك التي تعكس هدوء شخصيتك في الواقع، ولكن النقد مشاكس وقليل مروءة؛ أليس كذلك؟
- النهج الذي أجدني منجذبا إليه، ألا أكتب تحت هاجس الفرز الذي يحتمه النقد بالتفريق بين الغثّ والسمين. يكفي الغثّ أن يكون هاجعا فلا نثير الغبار حوله. الأعمال الجميلة هي الأحرى بأن نتناولها وأن نشير إليها ـ وإنْ بطريقة احتفاليّة كما يقول السؤال ـ هذا فرحي وابتهاجي بالعمل الإبداعي الذي أحببته وحرّضني على الكتابة عنه، لأشرك القراء في متعتي وأغريهم بما أتصوّره جمالا خاصا، لعلهم يجدون ما وجدت. والمسألة، قبل هذا وبعده ذائقة، قد تصيب وقد تخطئ.
* هنالك نصٌ روائي تسرده في مقالاتك الصحفية التي كنت تنشرها في جريدة الوطن السعودية وجريدة اليوم؛ هل تتدرب على الجلد الرائي أم أنك حكّاءٌ وقاصٌ في جملك المكتوبة لا أكثر؟
- لا أعرف كيف أصادق على هذا الاستنتاج، ولم يخطر على ذهني أن كتابتي الصحفيّة تتمتّع بالنفس السردي. ربما تتخفى مقاصد الكتابة حتى عن صاحبها، ومع هذا لا بدّ من الاعتراف أن الكتابة عن المعيش اليومي تنطوي على بذرة الحكاية؛ صلة الوصل بين المقالة الاجتماعية والقارئ، بما يعني أنها طريقة للوصول إلى القارئ وليس مبدأ كامنا يوجّه بوصلة الكتابة.
* تجربتك مع «أدبي» الشرقية تركزتْ في تحرير مجلة «دارين»، ولكن رؤاك التي قرأناها في زواياك الصحفية لم تتبلور في نشاطك الإعلامي، أيضيق الوقت بك، أم لا تجد من يحتوي أفكارك؟
- مجلة «دارين» جزء من عملي ونشاطي في نادي الشرقية الأدبي مع الأصدقاء جبير المليحان ومحمد الدميني وعبدالوهاب أبو زيد وأحمد الملا وغسان الخنيزي، أقول انها جزء، لأن عملي في النادي خلال الثلاث سنوات الأخيرة (2008 الى 2010) كان في لجنة الفعاليات التي تولّت تسيير النشاط المنبري بشكل أسبوعي لا يهدأ لا في العطلات ولا الإجازات. ومن حسنات هذا العمل أنه جماعي، لا وجود فيه للشخص الواحد، العمل يتقدّم والحصاد لاسم المؤسسة التي اجتهدنا أن نحقّق لها حضورا في المشهد الثقافي المحلي. وبالمجمل، يا صديقي، لم يضق الوقت بنا أو عنّا والفسحة كانت ممتدة لتنفيذ مشاريعنا وأفكارنا؛ أرض الانسجام في أدارة أدبي الشرقية هيّأت مناخا مواتيا للاستمرار والنجاح. هذا ما أحسبه.
* ماذا فعلت خرائب الأسمنت بك؟ إلى أين تشير بوصلة الحنين يا عبدالله؟
- هذا السؤال أداريه بسؤال مماثل، أطلقته عندما شاهدت قريتي تطويها عجلة الإسمنت:
«يا عيني علينا» يا قريتي
ماذا نفعلُ عندما يدلهمّ الحنينُ
بنا
نحن المقيمين بك
أو المرتحلين إلى «خرائب الإسمنت»
ماذا نفعل..
ماذا ننتظر..؟).
ستظلّ سكّين الحنين تفرينا، ونتلظّى ـ أبداً ـ بمشاعر الفقد لعوالم رحميّة وفراديس كنّا فيها، وكانت لنا مزهرة بغبطة الحكايات تحت جدار مسجد القرية، أو تحت ضوء الفوانيس ما نزال نتحسّس دفئه يهمي على القلب كلما كفر بنا المكان واشتدّت علينا الغربة.
| |
غلاف كتاب يطيش بين يديه الاسم | غلاف كتاب جنازة الغريب |
القبس 25-ابريل 2011