حاوره :زكي الصدير

عبدالله السفر الكتابة عنده ذروة من النضج واشتداد التجربة والتبصّر العميق بجماليات القول والخبرة بأدواته وأساليبه. لا يحبّذ الصخب ويفضل الهدوء والعزلة عن ضجيج المناسبات والتنافس على صدارة المناصب والمؤسسات. الشاعر عبدالله السفر ذو تجربة متميزة ومثيرة للاهتمام، أساسها اللغة وقوامها الخيال؛ “العرب” التقت بعبدالله السفر، وتحدثت إليه عن تجربته الإبداعية وعن مواقفه من المشهد الثقافي اليوم في السعودية.يصفه الشاعر السوري معتز طوبر بقوله: «عبدالله السفر، مسكون باللغة ونصف طيف لها». وهو من مواليد قرية الجشة في الأحساء عام 1960. أصدر عددا من المجموعات الشعرية منها “يفتح النافذة ويرحل” و”جنازة الغريب” وكتاب “اصطفاء الهواء: القصيدة الجديدة في السعودية” و”حفرة الصحراء وسياج المدينة: الكتابة السردية في السعودية” و”دليل العائدين إلى الوحشة” و”يذهبون في الجلطة”.

النص المتلبس

في أعماله “يفتح النافذة ويرحل” و”جنازة الغريب” و”يطيش بين يديه الاسم” كان عبدالله السفر يراهن دائما على النص المفتوح في وجه “حراس جمارك الأدب”، حتى ذهب البعض إلى اعتبار هذا قطيعة ثقافية مع التراث بوصفه ذاكرة للّغة، عن هذا الموضوع يقول السفر: «القطيعة ليست مع التراث، إنما مع حرّاس الجمارك الذين انقطعوا عن الحياة وتحوّلاتها وتأثيراتها الممتدّة على أكثر من صعيد؛ فباتوا أسرى ما وجدوا عليه آباءَهم في الكتابة وجعلوه معيارا لاكتساب صفة الأدبيّة من عدمها. مهمّتهم حفظ نقاء الأنواع وسلامة الجنس الأدبي. لا يأتي إليهم قلقٌ من بين أيديهم ولا من خلفهم. لديهم حالة من الاطمئنان والانضباط والصرامة تتعدّى الشكل و”عمود الكتابة” إلى تقليب محتوى المكتوب وتعريضه للأشعة تحت الحمراء لضمان انتسابه إلى فضائهم المعرفي والأخلاقي. هؤلاء ما أنا على قطيعة معهم ومع فهمهم الذي لا أجد نفسي ملزما به ولا أجد حاجة في التوقف أمام حواجز تفتيشهم».
وعن علاقة نصه المتلبس، أحيانا، بالقارئ، والوصول إليه متوسلا بجملة من التقنيات، يذهب السفر إلى أن النقي سليم العرق والحائز على سلامة الشكل، ليس دائم الوصول إلى القارئ، يقول: «أتّفقُ معك أنّ “خربطة” الميثاق الصنفي وانخذال أفق الانتظار؛ اللذين يضعان الشكل على عتبة القبول من عدمه؛ الإقبال على النص أو الانصراف عنه تبعا للاهتمام. لكن هذا عند الوهلة الأولى، وحال التحقق من جماليّة النص ومدى نجاحه إبداعيّا بغض النظر عن اللافتة التي يحملها؛ أتصوّر عندها يجري التخفّف من صرامة الميثاق، ولن يكون ثمّة حرج في التقبّل والتفاعل. فالمعوّل عليه عند القارئ المهتم ليس النوع الذي تقع تحته الكتابة بقدر أن تكون هذه الكتابة جديرة بمسمّاها وتنطوي على جملة من العناصر تبقيها حيّة في ذاكرته».لا أدعي أنني مررت في كتابة زاويتي بـ"حقل ألغام" بسبب من طبيعة الزاوية التي كان أغلب ما أكتب فيها يأتي منسجما مع مهنتي

الذائقة الشخصية

اشترك عبدالله السفر في “يصرون على البحر” مع محمد الحرز في كتابة أنطولوجيا مصغّرة لشعراء وشاعرات من السعودية. وقد اعتمدا على معايير، ذهب البعض إلى اتهامها بالمحاباة والتقصير في اختيار الأسماء، حتى أصيب العمل بالشللية، عن هذه المسألة يقول السفر: «يُنسَب إلى العماد الأصفهاني قولُهُ “إني رأيتُ أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه، إلا قال في غده لو غُيّر هذا لكان أحسن ولو زُيِّد كذا لكان أفضل ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل” فالثغرة تلاحق أي عمل منشور سواء من صاحبه بحرصه على مقاربة أفضل الصور التي يريدها لعمله، أم من الآخرين الذين يلاحظون النقص ويسجلّونه على الكاتب. وهذا المنطق لا تخرج عنه أنطولوجيّة “يصرّون على البحر” التي جمعتْ نحو أربعين شاعرة وشاعرة من السعوديّة في مجلّد مؤلّف من 350 صفحة فقط». ويضيف قوله: «المساحة المحددة لهذه الأنطولوجيا فرضتْ نفسَها في العدد المحدود الذي لا يمكن تجاوزه تبعا لرؤية جهة الإشراف، وزارة الثقافة، في الجزائر الذين تفضلوا مشكورين بتبني إخراج سلسلة أنطولوجيات عربيّة ضمن احتفاليّة “الجزائر عاصمة الثقافة العربية للعام 2007″. وعليه كان الحرج الشديد في الاختيار والفرز والانتقاء، ولم يكن من مخرج سوى اللجوء لـ”الذائقة الشخصية” التي تشربّت حداثة الثمانينات في ساحتنا المحليّة وما بعدها التي أحبّ أن أطلق عليها “القصيدة الجديدة” دون إغفال الرموز التأسيسية لهذه الحركة الشعريّة. وبشكل عام فإنني أتفهّم وأقدّر النقد الذي واجهه الكتاب، وأعتذر عن السهو الذي طالَ بعض الأسماء».

عزلة القصيدة

يرى بعض النقاد أن الشعر، وقصيدة النثر بالتحديد تعيش عزلة أشبه ما تكون بالقطيعة المعرفية مع قارئها، قبالة المدّ الروائي وسطوة السرد على المشهد الثقافي. إلا أن السفر يقلل من حدّة هذه المسألة ويبقى متيقنا من دور الشعر رغم تصدّر الرواية، يقول: «ليس جديدا تقدّم الرواية إلى صدارة المشهد؛ مقروئيّة وانتشارا، وليس جديدا أيضا أن الشعر لا يحظى بتلك المقروئية ولا ذلك الانتشار إلا فيما ندر، ولم يخرج عن هذه القسمة في تاريخ النشر العربي سوى نزار قبّاني ومحمود درويش، وأدونيس وسعدي يوسف إلى حدّ ما. غير أنّ انخفاض توزيع الكتاب الشعري لا يعني عزلة الشاعر وعزلة نصوصه بخاصّة ونحن نعيش فضاءات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية المعنيّة بالشأن الإبداعي. هناك فسحة كبيرة ليس للمقروئية فحسب، ولكن للتواصل بين الشاعر وبين قرائه وزملائه وأصدقائه بما يعني أن حكم العزلة ليس صحيحا في جميع الأحوال، وما يصحّ على الكتاب الورقي لا يصحّ في حالته السائلة الإلكترونية». من المعروف عن عبدالله السفر أنه ناقد لا يكتب إلا عمّا يحب، وهذا نقيض ما يريده البعض اليوم، من الذين يريدون من الناقد أن يكتب ما يكره، فهل هذا ممكن؟.في كتاب "يطيش بين يديه الاسم” راهن الكاتب على النص المفتوح
عن هذا السؤال يجيب عبدالله السفر قائلا: «أستطيع القول أن متابعاتي التي أكتبها في جريدة الوطن السعودية منذ سنوات تصدر عن المتعة وعن الدهشة وليس لديها حساب تقييمي. أدوّن متعتي وأسبابها أو مصادرها أو ما لفتني بشدّة في تلك الكتب، وكلّي أمل بهذه الإشارة أن أحرّض القارئ المعنيّ بالشعر والسرد على اقتناء ما تيسّر له منها أو في الأقل جلب انتباهه إلى ما تنشره الأسماء الإبداعية التي أتناول تجربتها الكتابية. لذلك لا أميل إلى الكتابة السلبية عن الكتب التي لم تلبِّ توقّعي أو تشبع ما كنتُ أنتظره أو بالأحرى ما مثّلتْ لي خيبة، وللتاريخ فقط فإنني لم أكتب بسلبية إلا عن روايتين، ولم أدرج المقالتين عنهما في كتبي». كتب عبدالله السفر زوايا أسبوعية في الصحافة السعودية الرسمية لأكثر من عشر سنوات، وقد تعرّض إلى عديد من المواقف التي جعلت من حقل كتابته ألغاما، مردّها مزاج عين الرقيب، في هذا الشأن يقول: «مزاج الرقيب، أفهمه جيّدا، وأي كاتب في صحافتنا المحليّة لديه “رقيب صغير” كبُرَ معه منذ بدأَ الكتابة الصحفيّة. هذا “الرقيب الصغير” هو أسوأ من الرقيب الرسمي؛ لأنّه صار متربّعا في الداخل ويقوم بمهمّات الرقيب الرسمي ويسهّل عليه أداؤها.
“الرقيب الصغير” يزوّد صاحبه بمعجم غريب وبخارطة طرق التفافيّة يطمئن لها الرقيب ومزاجه، وفي الوقت نفسه تُشيع عند الكاتب حالة من الذكاء أنّه تجاوز الرقيب وبلغ ما يريد أن يقولَه ولكن ـ وبصراحة ـ لا يعرف أنّه “يغمز في الظلام”!. بهذه الخلفيّة، أتصوّر أنني كنتُ في غنى عن الغمز في الظلام، ولا أدّعي أنني مررت في كتابة زاويتي بـ”حقل ألغام” بسبب من طبيعة الزاوية التي كان أغلب ما أكتب فيها يأتي منسجما مع مهنتي؛ معلّما ومرشدا طلابيّا».

مظلة حماية

تدعم الأندية الأدبية والمراكز الثقافية في المملكة بمخصصات تقدّر بالملايين. لكننا لا نلمس هذا التدفق المادي على أرض الواقع. فلا مسارح، ولا دور سينما ولا موسيقى ولا مهرجانات ذات بعد ثقافي صرف، فأين الخطأ، يجيبنا السفر عن هذا السؤال بقوله: «أيّ ملايين،الجهة الثقافية الحقيقية والمسؤولة عن إشاعة الثقافة كحالة اجتماعيّة تتعدّى الكتّاب والكتب، هي جمعيات الثقافة والفنون في المملكة. ينبغي أن نعترف بأن الدعم الرسمي للأندية والجمعيات الثقافية ضعيف جدا
هذه الجمعيّات التي لها الدور الكبير موسيقيا ومسرحيا وفوتوغرافيا وتشكيليا وفنونا شعبية، وأدبيّا أيضا، كم تتصوّر ميزانيّتها؟.. والله، إنّه رقم مخجل. فقط “300 ألف ريال” وهذا الرقم معرّض، ربّما، للتقشّف والضمور هذا العام. الدعم الرسمي السنوي النظامي ضعيف سواء الموجّه لجمعيّات الثقافة والفنون، أو الأندية الأدبية.
ينبغي أن نعترف بهذا. ناهيك عن البنية التحتيّة “المرعبة” حقّا والتي لا يصلح بعضها حتّى للسكنى، ولا حتّى تغامر بالقول أنّها بنية أكل الدهر عليها وشرب، لأنّ هذا الهرّ الطيّب الكسول لم يجد الفرصة لا للأكل ولا للشرب».
يرى عبدالله السفر، أنه لا بدّ من توفير حماية لاتحاد للكتاب السعوديين، ورصد إمكانيات تكون لهم مظلة جامعة يستطيعون من خلالها التوافق على آرائهم الشعبية والتعبير عن أنفسهم بشكل واضح دون شتات. يقول السفر في هذا الشأن: «أعتقد بضرورة توفير مظلة لاتحاد الكتاب السعوديين، وأجد أنّه مطلب طبيعي ومن البديهة بمكان. لكنّ غيري يتأنّى ويتأنّى ، ويضع في الأدراج وينسى حتّى غدا اتّحاد الكتاّب نسيا منسيّا. العقليّة التي تتوجّس من الثقافة والمثقفين وتناصبهم العداء وترى إلى أنهم خطر ومصدر شرور لا تنتهي، ما تزال للأسف تعمل لدينا وهي التي تعرقل وتسعى دوما إلى إغلاق الأدراج على المطالب وتأجيلها».

العرب-2014\02\06