كتابة وحوار: أسعد الجبوري

أنسي الحاج

في تلك اللحظات العاصفة من الريح والمطر والبرق، كان أنسي الحاج يقطع الطريق من الأوتيل إلى السينما هرولةً، وهو يحمل مظلةً صفراء، بالكاد تحمي جسداً من جنون ذلك الطقس ومضاره السيئة.

لم نر تعباً على وجه الرجل. اغتسالهُ بتلك المياه، جعلته نشطاً داخل ذلك الجلباب الأزرق الذي تعلوه نظارة شمسية سوداء، تغطي المساحة العظمى من الوجه.

عندما أوقفناه على باب السينما، وسألناه عن الفيلم الذي كان يرغب بمشاهدته، ذكرَ لنا فيلماً باسم (النساءُ الحالمات بالدبابات) !!

لم نعلّق بشيء على ذلك العنوان الغرائبي المفزع، ابتلعنا الصدمة بهدوء، وطلبنا منه إجراء حوار عن حياة ما بعد الموت، نستعرض فيه منجزه الشعرية وشيئاً من زمنه الأرضي وما بعد الغياب، فوافق بعد صمت طويل، وقام بتأجيل مشاهدة الفيلم لوقت لاحق، خاصة وأنه كان ينتظر الشاعر الأمريكي (هيو أودن) لمشاهدة الفيلم معاً.

آنذاك. . رفع أنسي الحاج أصابعه في الهواء الطلق كما لو تكون أصابعه خلية لاسلكي، وتحدث مع أودن معتذراً.

بعد ذلك أخذنا إلى مشتل لزراعة الياسمين، قال أنه عادةً ما يلجأ إليه بأوقات النشوة وتلمسّ صندوق الذكريات، لأنه لا يكفّ عن التفتيش بأوراقه القديمة، من أجل اختراق أحداث العمر على الأرض في الزمن الأول.

جلسنا صامتين. المصورُ يلتقط له صوراً، فيما ملأت خلفية المكان أكوام أخشاب مفككة. قال أنها كانت صلباناً، فقدت مع مرور الوقت ضرورة أن تكون على هيئتها القديمة، لأن السيد ما كان مصلوباً إلا في أذهان مرضى اللاهوت.

«كنت تصرخين بين الصنوبرات، يحمل السكونُ رياح صوتك إلى أحشائي.

كنتُ مستتراً خلف الصنوبرات أتلقى صراخكِ وأتضرع كي لا تريني. »

س/ هل تتذكر متى كتبت هذا ؟

ج/ أجل. دوّنتُ ذلك بكتاب «لن» .

س/ كنت تختبئ خلف الصنوبرات على الأرض، وفي السماء، نراك تختبئ وراء الياسمين. هل ثمة سرّ . ثمة معنى. ثمة علاقة ما بين الصنوبر والياسمين؟

ج/ أجل . ثمة سرّ . ولكن ليس بالنباتات، بل بفكرة الاختباء .

فأنا، وعندما أكتب شعراً، عادة ما أختبئ خلف نبات يقيني من شرورٍ، طالما تظهر لي في أثناء العمل أو الانخراط بالتأليف الشعري – الشيطاني.

س/ هل أفهم بأنك نباتي بطاقتك الشعرية، ولا علاقة لك بالكهرومغناطيسية، كطاقة لتدمير الكيانات اللغوية المستعصية على الحداثة مثلاً ؟

ج/ لا لست نباتياً بتكويني الشعري، إلا أنني ضدّ البعد الإرهابي لقواميس اللغة ومعاجمها القاسية.

لذلك كنت أكتبُ، واختبئ ولو مؤقتاً خلف شجرة أو جدار أو حجاب، من أجل أن أتفادى ردّة فعل اللغة على تلك الكتابات الشعرية الحادّة وغير المحصنّة بتيار وعي الحداثة آنذاك.

س/ هل واجهتك اللغةُ ذات يوم باعتراض على شعرك؟ بمعنى هل سبق وأن أسمعتكَ مرّة، وهي تقول:ما تكتبهُ يا أنسي ليس شعراً ؟

ج/ ليس من حق اللغة أن تقول ذلك لأحد .فالخوف من اللغة، ليس قراراً بإلغاء أعمال التأليف، أو استبدالها بممارسة مهن أخرى. ولولا الشعر، لأصبحت جميع اللغات مدافن للشعوب.

س/ هل لأن الشعر سرّ اللغة ؟

ج/ الشعر كما أظن هو القدر الأعظم لكل لغة في التاريخ. أنه يتقدم على اللغة ذاتها. وهو خلاصة حواسّها الطاردّة للموت والتصحر والترمل. أي، كأن الشعر يقول للغة:أنا كلكّ. وأنتِ دوني مجموعة خردّوات. ومن الطبيعي أن كلاماً من هذا النوع، لا يناسبها البتة.

س/ هل يمكن اعتبار أنسي الحاج حاملاً لظلال الآخرين شعرياً ؟

ج/ يمكن أن يكون ذلك صحيحاً، ولكن بقدر محدود. فأنا لم أكن شجرة على قارعة الشرق، لأرسم ظلالي بنفسي على الأرض. بل دخلتُ الغابة الشعرية عن طريق عاصفة خاطفة، لأكون شجرة تأخذ من بقية النباتات الظلال والطبائع وأصوات أغاني الريح.

كلّ ذلك حدث. وكلّ ذلك أدى إلى شحني بالطاقات الخلاقة التي سرعان ما أغدقت القوة على نصوصي، وجعلتها أكثر تعبيراً عن ظلال شعراء كانوا من الشخصيات المؤثرة في ديمومة روح الغابة الغربية.

س/ هل سبق وأن اعتقدت بوجود شروط تخص التأثر بالآخر؟

ج/ أن تتأثر دون انحناء. ففي الشعر مواد خام من السحر، وعليك أن لا تستعمل ذلك التأثر عن طريق الحشو بتلك المعادن.

س/ وهل ما فعلته على الأرض، كان انصهاراً بخامات شعراء آخرين مثلاً ؟

ج/ لم أكن أحبّ التنقيح في الشعر. وكنت خائفاً من أن يتحوّل ذلك التأثر ما بين الشعر وبين نفسي إلى ما يشبه جدار برلين القديم. إلا أنني سرعان ما محوت ذلك الجدار العازل، مُحرراً أشباحي من مختلف القيود والتابوات.

س/ أنتَ بدأت الكتابة بما يشبه الغزوة. ففجأة وعلى حين غرّه، اقتحمت الرمال الشعرية بغير ما يسمى بسفينة الصحراء –البعير- . فهل كان كتاب «لن» طيراً خُصص لاقتحام المجال الجوي للقصيدة العربية أم ماذا؟

ج/ أنا فضلت عدم التكيف مع التصحر منذ بداية الحبر . بعبارة أدق، اندفعت بالقطيعة مع مخلوقات الماضي ورماله وطقوسه، من أجل أن لا أضحي بنفسي الشعرية قرباناً للتكرار . وربما لأجل ذلك كسرّتُ صندوق التكتّم في رأسي، لأنمو حرّاً مع عناصر اللغة الأكثر جرأة بالتناقض مع الوصف القديم، والأشدّ حماساً للطيران فوق الأراضي الملتهبّة.

س/ هل كان ذلك بدافع فك العزلة عن الينابيع الخفيّة للشعر مثلاً؟

ج/ لم تكن تلك عزلة بالمعنى الدقيق. كان الشعر مجموعة ينابيع مطمورة تحت الرمال، وكانت ثمة رغبات جامحة عندي وعند آخرين، لتفجير تلك الآبار، وتهيئة الأوضاع الجيولوجية، من أجل أن يأخذ الشعر دوره التدفقي في مجرى الحداثة.

س/ جرى هذا قبل مرحلة التطهير اللغوي للشعر أم بعده؟

ج/ بالطبع فان ذلك لم يحدث كله قبل مرحلة تكوين منظومة الأحلام. لأنك دون وجود قوة سامية في دم اللغة، لا تقدر على كتابة نص مغاير.

س/ هل تعني بالسمو، هو وصول الشعر إلى مرحلة الروحانية؟

ج/ لا أظن ذلك. فما يمكنني قوله، هو أن السمو لا يبدأ قبل إعادة هيكلة القارئ.

س/ وهل تعتبر القارئ حارساً للغة؟

ج/ لا . أبداً. القارئ مخرّب لغوي بالدرجة الأولى.

س/ وإذاً. . لماذا إعادة هيكلته ؟

ج/ من أجل أن ينخرط مع الخراب العام الذي أردناه للشعر العربي بعد مئات من القرون التي صبغت الشعر بالجاهليات المتعددة. هذا هو الاختراق الذي حدث.

س/ ولكن إلا تجدون أن سلفية القارئ لا تزال تفرض سيطرتها على ذهنه، وأنكم لم تتمكنون من جرّه إلى النص الجديد أو إلى طقوس الحداثة؟

ج/ ربما يجوز قول شيء من هذا القبيل، ولكننا في نهاية المطاف أمام قارئ مُبطّن. متعدد. فصامي. لا يمانع من التشرد مع النص الثوري، ولكنه لا يرفض في الوقت نفسه النوم في سرير الجاحظ أو العيش في كهف .

س/ أين ذهبت بمرضك يا أنسي؟

ج/ لا أتذكر أنني مرضت بغير الشعر. أما المرض الآخر، فهو ظل للمرض الأول ليس إلا. وأتذكر أنني وضعت مرضي داخل نفسي، ورميتها علبةَ حديد إلى أعالي البحار. هذا ما حدث معي بالضبط.

س/ كأنك تريد القول : بأن الشعر مُتحد بدورة الماء في الطبيعة، وأن لا مرض ينال منه ولا جفاف؟

ج/ الخوف على الشعر غير مبرر. ومن يخافون على الشعر من (النشفان) ربما هم جنس يعاني من نقص في التهوية. لا يصل الأوكسجين إلى منابع الخيال برؤوسهم.

س/ كل الشعر معافى من التصحر برأيك؟

ج/ أنا أنظر إلى الشعر بوصفه قديساً أو سحراً يمكن أن يحوّل الجملة المريضة إلى كلام لا يعاني من أي نوع من الاضطراب اللغوي.

س/ شعرٌ مُعدّل وراثياً تقصد؟ أم أن الاضطراب العقلي يأخذ الشعر إلى مدار الغبار واللا معنى؟

ج/ أقصد بقداسة الشعر أن يكون مؤلفه من تربة لغوية متشربّة بالإيمان ليس إلا .

س/ الإيمان اللاهوتي حسب تعبيرك ؟!

ج/ كل مقطع شعري متناغم من الأرواح العظيمة في الكون، يمكن اعتباره جزءاً من كتب الله. أنا أرى ذلك وأعتقد به.

س/ هل تعتبر الإله شاعراً يا إنسي؟

ج/ نعم. فالرب منتج اللغات ومالك قواميسها وموسع محيطاتها.

س/ أنت توسع من النظام الشعري، فتجعله مثيلاً للنظام الشمسي.. من يدفعك إلى ذلك؟

ج/ كنت جزءاً من حركة الأقيانوس المتداخلة ما بين مياه الذات ومياه اللغة. لذلك كنت أسعى لإدخال القصيدة إلى المجرى الزمني المفتوح. وربما نجحت إلى حد ما .

س/ أنت حررت الشعر من الأقفاص في البدء. ولكنك وقعت في مطبّ الخواتم. ألا تفرض كتابات من ذلك القبيل، نمطاً لا ينسجم مع الرؤية الانفتاحية الأولى مسيرتك الشعرية التي بشرت بها ؟

ج/ في بدايات حياتي، عشت مراهقة شعرية نادرة. كانت اللغة عندي مجموعة أسماك تتقافز في سلّة الرأس فوق بعضها.

وكنت ميالاً لضرب كل المخاوف التي عادة ما يخشاها الشعراء، تلك المتعلقة بالأوزان وبالقوافي وبالرتابة والنمطية. وهكذا مضيتُ دون أن ألتفت لأحد.

س/ هل جرى ذلك بفضل الاتكاء على شعراء من الغرب الأوروبي مثلاً؟

ساعدوك في تثبيت تلك النظرية الشعرية الخاصة بقصيدة النثر؟

ج/ نعم. لقد وفرّ لي الكثير منهم الحجارة لتعبيد الطريق إلى الشعر؟

س/ والطيران! أليس الشعر طيراناً؟

ج/ بالتأكيد. وطالما تفعل طيور الشاعر الداخلية ذلك بدلاً منه. فاللغة دون فضاءات، هو تجريد للشعر من أهم خصائصه وتجلياته.

س/ حتى اللغة الدينية التي سبق وأن أثقلت بها كاهل نصوصك يا أنسي؟

ج/ أنا لم آتِ بالمسيحية لشعري، بل هي التي سرّبت ينابيعُها إلى نصوصي بهدوء، حتى أكملت إغراقي .

س/ ولكنك لم تطلب النجدة من نوح ولم تركب سفينتهُ !

ج/ الشاعر سفينة نفسه كما أعتقد. وعندما رفضت الصعود إلى ظهر السفينة، فذلك تعبير مني، بأن الشعرَ كائنٌ استثنائي واحد ووحيد، ولا يليق به الصعود مع حيوانات مستنسخة من كل زوج اثنين.

الأفضل برأيي أن يستغرق الشاعر بطوفانه اللغوي لاهوتاً أو رومانساً ونحيباً وكوارث . لا يمكن للشاعر أن يكون منتدباً لقص روايات غيره. فمهما أطال الزمنُ بعمر الشاعر، تجده مشغولاً باستعراض أرواحه وشياطينه ومخلوقاته وكلماته في مهرجانات مسرحية غير منتهية الصلاحية .

س/ ألا ترى في ذلك وهماً تؤكدهُ الهوة الواسعة ما بين القارئ ومنتج النصّ؟

ج/ ذلك يحدث عندما يستعمل الشعراءُ الشعرَ شرفة للإطلالة على القاع وبالعين الضبابية. ثمة فكرة تتعلق بعدم الاكتراث بالقارئ.

س/ أليست ثمة قسوة في ذلك، كأن لا يكون القارئ من مصادر الإلهام مثلاً؟

ج/ لا علاقة للقارئ بهذا الإلهام المجازي الذي تتحدث عنه. القارئ مُلتهِمٌ لأغلب محتويات النصوص وأثاث الشاعر اللغوية، وليس ملهماً إلا لسيوف النقد التي عادةً ما يستنهض جل قواه للتحريض على قتل النص أو تشريحه أو إرهابه.

فالقارئ العربي مصدر من مصادر إرهاب النصوص الحارقة الخارقة .

س/ هل للكلمات عند إنسي الحاج روائح يمكن استنشاقها بلذّة. يمكن طردها من أمكنة الحواسّ بعنف. يمكن الوثوق بها في أثناء الكتابة؟

ج/ كل كلمة عندي بمثابة قميص يمكن الارتواء من عطره بالضد من الحرمان. وكل كلمة عندي بمثابة منطاد يمكن الطيران به أعلى نقطة من العدم. وكل كلمة تمر بخاطري، كأنها نجمة بيضاء على شجرة الميلاد.

لذا فالاستنشاق اللغوي خلاصة لنظرية التأمل بمجرى الكلمة. فنحن عندما نكتب هذه الكلمة أو تلك على الورق، ونغادر الصفحة، لا نعرف كيف تقضي تلك الكلمات حياتها بعد أن تفترق عن مؤلفها.

أغلب الكتّاب يستهلكون الكلمات كأحرف ميتة. يقومون برميها على الورق، ويغادرون لقبض ثمن الاستكتاب. فيما الكلمات ومنذ ظهورها على الأرض، كانت تفعل العكس تماماً. لذلك يمكن أن نستنشق عطر الكلمات حتى بعد مرور آلاف الأعوام من الزمن.

س/ هل وجدت في الآخرة شعراءً يؤمنون بعطر اللغة مثلاً ؟

ج/ ما من شاعر هنا إلا ويناضل ضد تكوينه السابق، أقصد ضد مكوناته القديمة. قد تسأل لماذا يحدث ذلك هنا بالضبط، وقد تسمع أحدهم يقول لك: أن الآخرة هي المكان الأفضل للشعر من الأرض.

س/ هل لأن الشعر في الآخرة، يصبح ممارسة روحية خارج دائرة الموت ؟

ج/ الرب هنا ضد التضييق على الحريات. وكل من حاولوا النيل من الشعر في الدنيا، كندّ لكتابته، لم يجدوا من يؤازر أفكارهم التحريضية ضدّ الشعر على طول السموات وعرضها.

وهذا باعتقادي، يبرهن على أن مختلف الأطراف، لديها رغبة بإحياء دور الشعر ومنع إصابته بالتبددّ الروحاني.

س/ كم تبدو متمسكاً بهذه الرؤية الرومنطيقية إزاء الشعر. هل يعود ذلك بسبب وقوعك في مجرى الغناء؟

ج/ لقد أدخلتُ صوت فيروز إلى شعري، ليكون بمثابة الجذر التكعيبي لكل حرف يتحرك في عموم النص، حتى أنني تأكدت بأن شعري ليس إلا ترديداً لذلك الصوت المنبعث من خلايا البلور أو الياقوت.

س/ ألهذا سكت إنسي الحاج بعد ديوان « لن و «الرأس المقطوع»

و«ماضي الأيام الآتية»

و«ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟

وديوان «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع وديوان «الوليمة»

لتنتهي بكتاب «كلمات كلمات كلمات» وكتاب خواتم؟

ج/ قد لا تليق الخواتم بالشعر. فالنهايات أمرٌ مفجع بالنسبة للشاعر الحداثوي، لأنه يشلّ حركة الكلمات، ويعدمها بالخاتم أو بالخاتمة.

لكن ذلك من ناحية أخرى يقود الشعر للفيضان . فبمجرد أن تغلق مجرى النهر، أي أن تضع نهاية له، فإنك تدفع بمياهه للارتفاع . أنا دفعت بالمياه إلى الطغيان النثري فيما كتبته بالخواتم، وهذا عكس ما ورد في السؤال.

س/ ولكنك قلت في بيانك الذي افتتحت به كتاب (لن) بأن «ليس في الشعر ما هو نهائي». فكيف تفسر الخواتم التي وضعتها بعد ذلك البيان الذي أكدت فيه على أن «شاعر قصيدة النثر شاعر حر، وبمقدار ما يكون إنساناً حراً، أيضاً، تعظم حاجته إلى اختراع متواصل للغة تحيط به، ترافق جريه، تلتقط فكره الهائل التشويش والنظام معاً ».

ج/ أنا استثمرت التمرد في بداياتي الشعرية، وحتى انعدام الحدود ما بين المعقول واللامعقول.

كنت لا أمارس الكتابة كما يحدث عند الآخرين، إنما كنت أقفز وأنط وألعب السيرك على خيوط الكلمات. فالقصيدة التي كنت أنتجها، لم تأتِ من القاموس فقط، بل من حركة الدم في الجسد.

س/ هل كان دمك مرتبطاً بحركة اللغة مدّاً وجزراً كما أظنك تقصد ؟

ج/ بالضبط. أضف إلى ذلك العنفوان الذي تلبسني بشكل مبكر. كنت أشعر بأنني قائد مراهقٌ لحملة شعرية، يطوقها جند الأسلاف ومئات من قطاع الطرق الذين كان وجودهم يتعارض مع الحداثة وقصيدة النثر بالضبط.

كل حلم بمثابة مدّ في جسم الكتابة. هذه الصورة دائمة الحضور في ذهني اللعوب. كما أن أي فقر بالتصوير أو بالصورة، هو جزر ينتج عنه الاختناق برمال اللغة وحوادثها الإيديولوجية على طريق الاتوستراد.

س/ ولكنك لم تنم على السرير الأيديولوجي يوماً!

هل كان ذلك بسبب التصادم ما بين الشعري والسياسي مثلاً، أم أن تطهير الشعر من التلاطم الفكري تخليصاً للنصّ من غبار الشوارع؟

ج/ لقد قاد نفوري من السرير الأيديولوجي إلى معارك صاخبة وصامتة على حد سواء. ولكنني في نهاية المعارك، سرعان ما أجمع عظامي في كيس وأخرج من الميدان لإعادة هيكلة الجسد.

س/ تنفر من الأيديولوجيات وترضخ للاهوتيات . كيف يمكن صياغة معادل موضوعي لهذين النقيضين المتضادين عند أنسي الحاج؟

ج/ ربما لأن الخطيئة في علوم الايدولوجيا، تقود الشاعر أو المرء للمعتقل أو تدفع بالرأس إلى المقصلة، فيما تفتح لك الديانات أبواب الرحمة، فيما لو ارتكبت معصيّة أو خطيئة ما.

س/ مع أنك غير متدين، إلا أن نصوصك في غالبها العام مرفوعة بطاقة مسيحية تصل في بعض الأحايين إلى الغلو الذي يقع به أصحاب بعض التيارات الإسلامية. فهل يعتبرك المسيحيون شيخ طريقة صوفية على سبيل المثال؟

ج/ أنا من عمال يسوع، لا من عمالة المسيحية، أو أعمال الدين بنصوصه التي يعلوها الغبار.

بعبارة أدق: أنا نادم على جعل شعري طقساً كنيسياً مشوّباً بظلال أرواح السلف الضالّة.

س/ هل تعني بهذا أنك تلك الإيقونة المهشمّة التي تتوق لفضيلة الشعر دون الدين؟

ج/ لقد اضرّ بي (ت. س. أليوت) كثيراً. ولا أعتقد بأنني سأغفر له يوماً على تأثيراته اللاهوتية التي التصقت بفكري وحياتي.

س/ والحب عند أنسي الحاج. هل كان بعد موت زوجك ليلى ضو شرّاً فراغاً ندباً، وتدربّت على أن تسدّ رّمقه بالكتابة وحدها؟

ج/ كان سباتاً فقط.

س/ وبعد أن انتقلت إلى هذا الملكوت هنا؟

ج/ لم يأتني أحد الملائكة بالكاتولوغ العظيم، لأطلع على صورة امرأتي الدنيوية، وكيف أصبحت بعد كل ذلك الغياب.

س/ ما زلت رصيناً.. فهل هذا من شروط الآخرة هنا؟

ج/ نحن نعيش في هذا العالم دون شروط. بالأمس كنت أتحدث مع جبران خليل جبران عن البوصلة التي توصلنا بالنبي. فضحك منا عبد الوهاب البياتي وقال: خذوا النسرَ تاكسياً، ليدلكم على مجرّة الأنبياء مجتمعين.

س/ وفعلتم بفكرة البياتي ؟

ج/ كلا. فقد اعترض أندره بريتون على ذلك الاقتراح، مفضلاً الذهاب إلى حانة (ليلى والذئب) من أجل إعادة كتابة البيان السوريالي بديلاً عن كل الكتب التي أنتجت على مر التاريخ.

س/ وستقوم بإرسال البيان الجديد بواسطة البريد السماوي، لنشره في جريدة النهار .

ج/ لا. لست متأكداً من أن يُنشرَ على صفحات النهار في قادم الأيام.

س/ هل بسبب إخراجك المؤلم من جريدة بذلت جهداً استثنائياً في تطوير قدراتها الرصينة، أم أن عقلية أندره بريتون ما عادت تتناسب مع ورق جريدة النهار، ولا مع مزاج وراقي هيئة التحرير ؟

ج/ رأسي فارغ من أية إجابات.

س/ هل هو الخوف من الفضائح التي قد تعيد للحدث النيران القديمة، أم هي رغبة أنسي، كأن يستمر بالحفاظ على سلوكه المشبّع بالهدوء وبالرصانة وبالأخلاق البابوية التي عادةً ما تتجنب التجريح وفضح الرموز؟

ج/ أنا الآن في ذروة التجلي، ولا تشغلني حرائق الزمن القديم. وإذا كان لا بدّ من التعرف على ما حدث سابقاً، فيمكنك طرح هذا السؤال على الشاعر شوقي أبي شقرا.

س/ وإذا ما تركنا النهار جانباً، ودخلنا مبنى جريدة «الأخبار» فأي صورة لأنسي كانت وستبقى؟

ج/ ليست (الأخبار) بديلاً عن (النهار) أبداً. ثمة فرق ما بين حقل زعرور أحادي المدقة،  وما بين كروم عنب متعدد الاستعمالات.

س/ هل يتعلق الأمر بالجلوكوز كمنتج للطاقة؟

ج/ بل بتلك القرارات التي حوّلت النهار إلى مساحة معتمة، أراد البعض من ورائها أن يفتح لي على ورقها مدفناً، ويقوم بتأبيني يوم كنت حيّا. أما الآن، فأغلب تلك الخفافيش تتمظهر بالبكاء على غيابي.

س/ نحن نحاول الالتزام بخطوط الحوار الافتراضي ليس إلا.

ولكن قل لنا: هل كتبت بعد سنة من رحلتك؟

ج/ أحاول إعادة كتابة «لن» بروح (لم) .

وربما بالاعتماد على لغة أخرى، لغة صافية من الألم، ولا تجر خلفها شعوباً من الورق. فالشعر الذي سأتعلمه هنا، خالٍ من أي تاريخ، ولا يعتمد على حكمة الاختزال.

س/ هل اجتمعت ثانية مع أحد من شعراء مجلة (شعر) هنا ؟

ج/ أنا أريد أن أتكيّفُ الآن مع الشعراء الراديكاليين فقط.

س/ ولماذا ذلك التكيّف مع الراديكاليين دون غيرهم؟

ج/ ربما لأنني لم أكن على الأرض إلا سائحاً متنزِهاً بين الآلام، دون أن أحقق أصلاحاً حقيقياً بخصوص العدل والحرية والثورة.

س/ تعني أنك كنت رومانسياً في الكتابة ليس غير، وتريد دفع كفّارة عمّا لم تقدر على تغييره هناك؟

ج/ شيء من هذا القبيل. فالشيطان الذي طالما سكن في جسدي على الأرض، وظننته من الذين أسسوا الطقوس لتلك «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، تعرفت عليه هنا مزيّفاً، واعترف بأنه كان السبب بخداعي، عندما رمى بي في آبار «خواتم» ليقنعني بأنها من مياه الشعر.

(( مجلة نزوى))
http://www.nizwa.com/%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84…/