أسعد الجبوري

أسعد الجبوري

1893-1930

وجد في ثُعْبان الجنة صديقاً أسطورياً

كان يلَفّ على رَّقَبَته ثُعْباناً أصفر مُرَقَّطاً باللون الأسود ،ويمشي حاملاً حقيبةً صغيرة ،ظهرت منها بعض الجرائد والأغلفة.لم يكن وجهه متجهماً.بينما كانت أصابعهُ بين الفينة والأخرى تداعب الحيوان الموجود حول عُنُقه.وهو من الزواحف الضخمة إلى حد ما.
كل منْ يرى فلاديمير ماياكوفسكي في تلك الحالة الملتهبة بالذَعِر ، يَظُنّ أن الشاعر الروسي،يريد الانتحار ثانية في كبد السماء،كي لا يغادرها إلى مكان أخرى،بعد أن تيقنَ بأنها ليست إلا المسقط الأبدي لرؤوس الكبار والعظماء .
لم تمض لحظات،حتى تأكدنا بأن فكرة الانتحار التي ساورت رؤوسنا،سرعان ما ذهبت فقاعة ً مع الريح . فماياكوفسكي كانت يُحضّر نفسه للمشاركة في حفل موسيقي. وللثُعْبان دور في ذلك،بعد أن تم تكليفه بقيادة جوقة آلات النفخ الموسيقية التي ستنجر تلك الحفلة المرتقبة.
تلك التطمينات، لم تُقنع أحداً.لذا سألنا ماياكوفسكي عن الثُعْبان،وما إذا كان يعدُ طريقةً خاصة يقوم بها شاعر ثوري لإخافة خصومه القدامى. فردّ قائلاً بهدوء:
ـــ هذا ثعبان وجدته على الطريق،وأراد إغوائي بما يخالف حكايته مع آدم وشجرة التفاح .وهكذا وجد في ثعبان الجنة صديقاً أسطورياً مهماً ،أستطيعُ أن أستمر معه بتبادل الفَحِيح النَّاري السَّام .

■ قبل الشعر والكتابة ،نزل ماياكوفسكي في الحوض السياسي مبكراً .هل كانت السباحة سهلة على سطح تلك المياه المتلاطمة؟
ـــ لقد وقعت بمصيدة الأفكار الماركسية،وسرعان ما أخذتني إلى مياهها، وأنا ما زلت مراهقاً في الخامسة عشر من العمر آنذاك.وجدتُ نفسي باخرة ضخمة من الحماسة .لذلك تعلمتُ السباحة بالتمارين الشاقة التي جمعت الشعر بالمسرح بالفكر .

■ تعويضاً عن خسائرك العائلية والمهنية :رحيل الأب الطيب والمضياف من الحياة.طردك 1908من المدرسة لإفلاسك المالي وعدم قدرتك على تغطية نفقات العيش في موسكو ؟
ـــ بالضبط.ولكن ليست لتلك الأسباب وحدها،إنما لأنني وجدتُ غيمةً في سروالي.

■ وما العيب في مثل ذاك التخيّل المجازي ؟
ـــ العيب أن جورجياً من بلدة تُسمى بـ (( بغدادي)) مثلي ،دفعته الرقابةُ إلى استبدال اسم نصّ من نصوصه من ((الحواري الثالث عشر)) إلى ((قصيدة غيمة في سروال)) خوفاً من الانتقادات !!

■ لم تكن قصيدتك وحدها تحت سنابك القياصرة.كانت البلاد الروسية بعمالها وبفلاحيها ومثقفيها وشعوبها ،تئنُ من استبداد القياصرة ونظامهم الغارق بالعبودية.
ـــ لذلك شاركت في المظاهرات السياسية آنذاك.
لقد كنت مريضاً بالاضطهاد الطبقي أولاً وقبل كل شئ.بعد ذلك هبّت عليّ الرياح من كل حدب وصوب.ويمكنك الاعتماد على رأي أختي ((لودميلا)) للتحقق من ذلك.فقد ذاقت عائلتنا المرارة والأسى .كنت أنا والأختين وأمي نعيش بعشرة روبلات هي كل ما نحصل عليه كتقاعد للأب!!

■ ووضعت بعد الفقر تحت رقابة الشرطة !!
ـــأجل كان ذلك بسبب انضمامي إلى حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي،وتوزيع المنشورات السياسية للبلاشفة. وفي شتاء 1909 اعتقلت للمرة الثانية، لمدة أربعين يوماً. ولكن بعد ستة أشهر، أي في صيف 1909اعتقل للمرة الثالثة، حين اشتركتُ في عملية تهريب ثلاث عشرة سجينة سياسية من سجن نوفنسكايا .

■ كنت مهرباً ؟
ـــ أجل.وسجنت بسبب ذلك قرابة عام. ونفي لمدة ثلاث سنوات.

■ متى أطلقت صرختك الشهيرة: «أريد أن أصنع فناً اشتراكياً» ؟
ـــ فور خروجي من السجن،وانتسابي إلى كلية الفنون الجميلة في موسكو.

■ هل شدّ انتباهك نشاطات حركة أو جماعة المستقبليين؟
ـــ لم يدم سحر جماعة المستقلين عندي طويلاً.غادرت عوالمهم الغريبة التي نحت نحو إلى جعل النفور قاعدة للأعمال الفنية عندهم.بعبارة أدق:لم يعجبني شذوذهم في استعمال الكلمات البذيئة ولا في ارتداء الثياب المزركشة الفاقعة الألوان.

■ ربما لأنكَ وجدت نفسكَ في الشعر الإيديولوجي ،لا في الروح الفانتازية للشاعر .أليس كذلك؟
ـــ كنت في ذلك الزمن أشبه بمن يسكب شمساً في شعره إلى حدود إحراق النفس على تلال من الورق.

■ كنت بمثابة داعيّة شعري للماركسية تقصد؟
ـــأجل.وأكثر من هذا وذاك،حاولت دفع العفن عن شعري بتلك الأفكار الحمراء التي بدأت تسطع فوق سماء روسيا العظيمة.اعتبرتُ الماركسية بمثابة مضاد حيوي للوقاية من الملوثات البرجوازية التي كانت تغرق بها البلاد آنذاك.

■ هل هي ردّة فعل ماياكوفسكي على الإحباط العاطفي الذي تسبب بانتكاسة العاشق بالمعشوق،خاصة بعد أن هجرتك ((ماريا ألكسيفنا )) الفتاة الجميلة التي تعلقت بك حباً،ثم سرعان ما هجرتكَ لترتبط بالزواج من أحد رجال المال الروس آنذاك ؟
ـــ فعلت الفتاة ((ماريا ألكسيفنا )) ذلك هرباً من أفكاري التي كانت تخرج من فرن الرأس ،وليس من حرارة السرير أو برد الفراش.كانت الفتاة جزءاً من الفساد المجتمعي الذي طالما تنبأت باكتساحه والانتصار على قيمه الضحلة.

■ هل القصيدة بنظر ماياكوفسكي آلة على سبيل المثال؟
ـــ وأكثر من ذلك بالطبع.فهي بنظري ونظريتي الحتمية ،ليس إلا مجنزرة شبيه بالدبابات تخوض معاركها على تراب اللغة.أنا أفهم الشعر كحركة لا كرسياً للجلوس الكلمات.

■ أنت تأخذُ الشِعرَ إلى التعبير الأقسى .تأخذهُ إلى الصدام بنفسه،فيما لو لم يجد أحداً يتعارك معهُ.ألا تعتقد بأن في ذلك عسكرةً للقصيدة؟
ـــ وما العيبُ في ذلك ،إذا كانت الوردة التي يقدمها العاشقون لحبيباتهم بلون الدم !!

■ ثمة من قال بأن قصيدة( غيمة في سروال ) كانت أشبه بعمل تنبؤي بالثورة الروسية عالم 1916.ولكنها لم تقع في عام 1917.هل تعتبر ذلك القول صحيحاً ؟ما مردّ تنبؤ من ذلك الطراز؟
ـــ كانت شعوب روسيا وقتها تتمرس على الثورة بتمارين مختلفة.ولا أعتقد بأن ما ورد في قصيدتي (غيمة في سروال) كان تنبؤاً،بقدر ما هو توكيد على اشتعال إمبراطورية القياصرة بنيران العمال والفلاحين وأهل الثقافة والمعدمين الفقراء . إنها ثورتي التي كتبت من أجلها المسرحيات وسيناريوهات السينما .طفت بعدها على مدن روسيا ،لألقي قصائدي على الناس في المعامل والمزارع.كما سافر للخارج _ألمانيا وفرنسا وأمريكا والمكسيك لألقن الغرب دروساً في الدهشة البلشفية.

■ ولكنه لقنكَ درساً في الحب.فأي الدرسين كان هو الأقوى برأي ماياكوفسكي؟
ـــ إذا كنت تقصد درس وقوعي بعشق الفتاة (تانيا باكوفلوفا) في باريس عام 1928،فكان هو الدرس الأقوى من الثورة البلشفية التي تسلل إليها الانتهازيون والبيروقراطيون لتدمير قلبها الأحمر.

■ ولكنك لم تتعلم من الدرسين سوى الهزيمة.أليس كذلك؟
ـــ هذا صحيح.فقد كتب بي رجالُ ضالعون بالأمن تقارير تدعي بالانتماء إلى جماعة المستقلين الشعرية التي كان لينين يناصبها الكراهية،فقام بتضييق الخناق على رقبتي.

■ ولمَ لا تعتقد بأن قائد البلاشفة اعتبرك شاعراً برجوازياً يحظى باهتمام الدولة وتطبع له كتبه على نفقتها من جيوب دافعي الضرائب مثلاً؟
ـــ لا.كان فلاديمير لينين بعقل كلاسيكي متعلق بالوزن والقافية ولا يحب إلا قراءة الشعر الروسي القديم،إذا ما سنحت له الفرصة.عندما التقيت به هنا،عاتبته على ما فعله بي على تلك الأرض.بل وكدنا نتبادل الصفعات وسط تلال من التهم القديمة.

■ كل ذلك من أجل الوزن والقافية والإيقاع؟!!
ـــ نعم.فقد أخبرني البلشفي الأول،بأنه لم يكن معجباً بالقصيدة التي كتبتها برثائه !!

■ ربما لأنك دوّنت موته بثرثرة سياسية سخيفة ،لا تتضمن روح الشعر الصافي الخالي من كل فساد عقائدي الذي عادة ما يقوض روح الشعر أفقياً وعمودياً في آن واحد؟!
ـــ أعترف بأنني كنت شيوعياً متطرفاً بحب لينين ،مثلي مثل البعثي عبد الواحد عبد الرزاق الذي كان متطرفاً بعشق صدام.

■ كلاكما كان يدور في فلك صاحبه ،أنت بحب قائد ثورة البلاشفة لينين ،وذاك بحب ديكتاتور صانع المقابر الجماعية .
ـــ سأقول لك شيئاً مهماً بعد كل تلك التجارب التي مررت بها: أن التطرف السياسي ،لا يصنع من الشعر إلا الكعكة السّامة.

■ بمعنى أنك تتراجع عن مقولتك القديمة : «لو كنت ذئباً‏ لقضمت‏ البيروقراطية»‏
ـــ تلك فكرة حققتها بشكل عملي .فالذئب الذي لم يحقق نصراً على البيروقراطيين الجدد، سرعان ما افترس جسده ليحقق لنفسي راحةً ما بالعدم.بالغياب عن الغابة الحمراء التي بدأت أوراقها بالذبول التدريجي البارد.

■ وبأن الانتحار هو الخيار الأخير ؟!!
ـــ وماذا تريدني أن أفعل بعد أن رموا بي مثل سمكة سردين في علبة صفيح رخيص،وقاموا بإغلاقها علىّ بإحكام ؟!
لقد كان الرصاص أفضل سيناريو للانتهاء من رعب الداخل الذي بات وقتها أشبه بتلال رمل تنتقل من هذه المنطقة إلى تلك في جسدي.

■ ولكنك لم تطلق الرصاصة على رأسك..بل على رأس الحلم الروسي الذي ظننت بأنه خدعك.ماذا تعلق على هذا؟
ـــ لم أجد يوماً في جسدي خارطة طريق نحو تلك الثورة، إلا وسلكته بكل جبروت ومراهقة وعناد وتشبث.والذي حدث،هو إننا كنا على مفترق طرق:منا من كان يحمل بيض الأحلام في سلته.ومنا من كان يتمظهر بصورة الديك في مزرعة الثورة .وآخرون كانوا يلتقطون البراغيث من لحية ماركس ،متأملين باحتلال كراسيها هناك ،تقرباً إلى تماثيل البلاشفة الجديد في مختلف دوائر الدولة.

■ ولكن ديوانك الشعري المعنون بـ "صفعة علي وجه الرأي العام" لم تأتِ بالأثر البليغ.كأنه بيان سياسي لإدانة البعض ليس إلا ؟
ـــ بعد ولاية ستالين ،كنت معلقاً بحبال الهواء.وكان شعري يخرج من رأسي أشبه بالبخار من خزان وقود قطار بخاري .وفي النهاية ،وجدت نفسي مأزق وجودي لا يليق بي ولا بالشعر.وهكذا قررت الخروج كالرصاصة من الحياة ،هرباً نفسي التي احتواها اليأس،ولأن الرفاق دخلوا الفرن الأيديولوجي من أجل أن يحترقوا لإضاءة أقدام الطاغية الشيوعي في لحوم الشعوب .

■ هل كان فشلتك بالشيوعية دافعاً إلى تأسيس حركة ((ليف )) التي جاءت اختصاراً لـ «جبهة الفن اليسارية» التي أسست عام 1926-1929 لشعر أو لفن يساري يُغلب روح المدينة على الريف؟
ـــ تجمّعنا آنذاك بعد أن طُردت أنا وصديقي الشيوعي (ديفيد بورليوك) من مدرسة الفنون الجميلة بسبب كتابة بيان مشترك بعنوان “صفعة للذوق العام” .
الأمر الذي دفع بنا إلى تأسيس المدرسة “المستقبلية”. لزج البلاد في المستقبل،وليس لجعلها حاويةً ملوثة بالدم والقمع وجثث الحريات الديمقراطية.كنت واحداً ممن رأوا انحرافاً برأس الثورة ،ولم يقدر على تحمله،فقرر الانتحار.

■هذا يعني إنك لم تنتحر بسبب عاطفي كما أشيع؟
ـــ وهل يمكن لدبّ أن ينتحر رداً على فشل عاطفي؟

■ دببة روسيا مختلفة الأنواع..ولا نعرف أن كنت أنتَ من أي نوع من تلك السلالات ؟
ـــ أعترف بأنني كنت دباً طبقياً ،ولكن بتوحش أقل من الذئاب الرأسمالية.

■ كنتَ دباً،ولم تأكل الشيوعية ؟!!
ـــ حاول القيام بذلك وعجزت.كانت العِظام بالفم أشبه بقضبان الفولاذ.

■ هذا تصوير سريالي.لماذا استعملته مع أنك واقعي اشتراكي ،وتعيش تحت قبة اليسار الثوري الذي طالما دفعتم بعرباته المصفحة إلى اقتحام منزل كلّ مناوئ لكم؟
ـــ ليست الشيوعية هي الحزب الاستثنائي أو الوحيد بمحرك سريالي. كل حشرات التاريخ الايدولوجي تفعل ذلك لصالح البقاء .

■ تقول: حشرات!!
ـــأجل.فمثلما عند البيولوجيات جرذان في الدم،مثلما للأيديولوجيات حشرات تمارس السيرك في العقل وعلى مسارح السياسة .

■ هل حلمتَ يوماً بأن تكون بقعة شيوعية على قميص ستالين؟
ـــ أبداً.بل وأشعر بالذعر من تحولي إلى بقعة حمراء ،سواء على قميص أو في حلم عابر.

■ هل مرَدّ هذا يعود إلى كونك من الشعراء الثوريين الذين شهدوا سقوط إمبراطورية القياصرة؟
ـــ ليس هذا وحسب،أنما لأن الثورة في داخلي بدأت بالخفوت .

■ بسب ضخامة الانتقادات التي كانت توجه لشعرك من قبل الرموز القديمة مثلاً ؟
ـــ بل بسبب النيران التي لم أستطع إخمادها. فمثلما كان شعري في مجرى العاصفة ،كانت الحرائق تشتعل في طوابق جسدي ،وكأنه بناية اندلع ت فيها نيران مقاومة لمواد المطافئ.

■ يوجد في شعرك الكثير من الأسلاك المستعرة بالمشاكل العصبية ،وكأن رأسك ممتلئ بالخفافيش والزواحف والأشباح .ما ردّك على ذلك؟
ـــ على تلك الأرض،كنت أعيش تدفقاً لا نهائياً من الآمال .فالثورة التي انتصرت، لم تكن باقة صغيرة من الورد الأحمر، يمكن أن تحملها بيدك وتمضي فرحاً مع مظاهرات تلك الشعوب .بل كانت طاحونة عملاقة لإعادة إنتاج روسيا.إلا أنك ،وكلما رأيت تعثراً أو توقفاً في محرك تلك الطاحونة،يأخذك اليأس والإحباط ،فتنحرف عيناك خوفاً بالنظر إلى الهاوية،بعدما كنت تنظر إلى أعالي الجبال.

■ هذا إلى جانب الانتكاسات المتكررة على الصعيد العاطفي.ألا تعترف بذلك ؟
ـــ كان لي جسدان:تراب روسيا .ولحمي الذي اختلط بالثورة وبالحب .ومع مرور الوقت،بدأ كل شئ بالتفكك في داخلي.مرة بسبب الثورة التي لم تقلّم أظافر الانتهازيين،ومرة بسبب تحطم قلبي الذي سرعان ما تحول إلى مقبرة لكل من أحببت.

■ كانت آلامك الغرامية كبيرة وصاعقة؟
ـــ خسائري في الحب كانت مريعة.ما أشبهها بالرواسب التي سَدّت مجرى القلب.

■ لماذا مارست النساءُ تلك الأدوار التمثيلية بحق ماياكوفسكي ؟
ـــ هنّ قتلنني عن عمد كما أجزم.وربما بدعم من أحد النبلاء الذي سرعان ما ارتبط بعشيقتي ((تاتيانا )) وتزوج بها بعد أن هجرتني فجأة.

■ وموت لينين الذي كتبت به آلاف الأبيات الشعرية .ألم يكن له الأثر العظيم على انقطاع تنفسك أو انعدام الأوكسجين في رئتيك ؟!
ـــ كل ما كتبته من قصائد بمديح القائد لينين ،كان بالبخار الدموي الذي وجدته يتطاير من خلايا جسمي في تلك الفترة السعيدة التي لا وجود من مثيل لها في حياتي.فلاديمير لينين رأس الفكر ورأس الثورة،وليس باستطاعة المرء عدم تبجيل ذلك القائد .بعبارة أدق:لا يُغْتفر لروسي أن لا يكون خادماً للينينية.

■ لذلك سجلتَ غياباً عن الحياة بعد رحيله عن الأرض؟
ـــ ربما نعم.وربما لأنني حتى اللحظة لا أعرف من قادني إلى الانتحار بتلك الطريقة.كانت مجموعة من العواصف تلَفّني بحيث فقدتُ السيطرة على محرك العقل.انتحاري في كل الأحوال هو

■ كان عليك مراجعة سيغموند فرويد هنا،فربما تجد عنده الجواب على أسباب انتحارك؟لماذا لم تفعل ذلك؟
ـــ لأن ستالين حال دون ذلك.أراد الأخير أن يكون سجل الثورة الروسية نظيفاً من الشوائب والهزائم.ستالين اعتبر انتحاري هزيمة للبلاشفة.وعندما اعترضت على ذلك،سرعان ما قام بربطي بالأصفاد،معتقداً بأنه يستطيع الاستمرار بالحكم هنا أيضاً،لولا تدخل الرئيس خروشوف بتحطيم تلك الأصفاد بالمنجل والشاكوش .

■ هل يمكننا الاعتقاد بأنك ما زالت محبطاً حتى بوجود في السموات؟!!
ـــ لا.لم أعد محبطاً . بوتين أعاد لروسيا ذروّة نارها ،ورفع عن كاهلنا أفدح الخسارات التاريخية المتمثلة بعولمة الكرة الأرضية ،وجعلها محميات في قطار القطب الأوحد.

■ يبدو أنك ما زلت مهووساً بقضايا العالم الأيديولوجي القديم،ونراك تدخنُ بشراهة .لكن لك أن تخبرنا بما في قلبك الآن؟
ـــ من وقت لآخر أحبُ.أحبُّ وأتركُ مغادراً حقول النساء.ما زلت أشعر بالدوار مما لحق بقلبي من أذى.وأكثر أيامي انشغالاً ،يكون يوم اجتماعي بالشاعر الأمريكي (( ألن غينسبرغ )) الذي وجدت فيه فائضاً عظيماً من كراهيته للأسلحة والقمع الجنسي وطغيان الماديات .

■ وماذا يحصل لو اجتمعتما معاً على سبيل المثال؟
ـــ نقوم بزيارات لبعض مناطق الأرض ،نحرض فيها الأقوام المختارة على التمرد والتظاهر وكتابة البيانات والنصوص المضادة لجميع عوامل تفريغ الإنسان من محتواه الروحي.

■ وبأية وسائل نقل تنتقلان من هنا إلى تلك الأرض؟
ـــ لا تخف .توجد لدينا العديد من الوسائل غير المعروفة التي تقوم بقطع مليارات من السنوات الضوئية للوصول إلى هناك. وعادة ما كنا نذهب للمكسيك لتناول أقداح من التكيلا ( Tequila ) بعد أن ننتهي من أعمالنا التحريضية.

■ ألا تعمل شيئاً هنا غير الاجتماعات الحزبية والقيام بتلك الزيارات الكحولية للعالم السفلي ؟
ـــ لقد اقترحت على الإدارة الإلهية القيام بافتتاح محطة إذاعية للناس المتورطين بالذنوب ،نطلق عليه اسم (( راديو التأويل)) .

■ أنها فكرة غامضة !
ـــ ليست فكرة غامضة يا صديقي،بقدر ما ستكون إذاعة محو لكافة التعاليم الخاطئة التي زُرعت بعقول البسطاء ،بتأويلات سخيفة للنصوص ،طالما كانت معادية للمنطق .

■ النصوص المقدسة للأديان والأيديولوجيات والفلسفة تقصد؟؟
ـــ نعم.وتشمل نصوص العاشقين أيضاً.فما من نص خرج من كتاب سماوي أو من رأس فيلسوف أو مفكر أو شاعر،إلا وتناهبته التأويلات المعادية للجوهر الذي أُلفتْ تلك النصوص من أجله.

■ ولكن مهمة من هذا الطراز،لا يمكن أن تُوكل لشاعر شيوعي منحاز لضفة من النهر؟ أعتقد أن ملائكةً أو شياطناً هم من تُلقى على عاتقهم مثل تلك المهمات التطهيرية لمختلف الأخطاء وسوء الظن .
ـــ ربما ما تقوله صحيح.ولكنك لا تعرف بأن غالبية القادمين من الأرض ،سرعان ما يتحولون هنا ،إما إلى أبالسة أو ملائكة.أجل.ويستلمون أعمالهم في أجهزة الأمن وبعض المرافق الأخرى .

■ يمكن خفض صوتك.فثمة زائر قادم إلى هنا.أنظرْ.هل تعرفه؟
ـــ نعم أعرفه.أنه الملحن اليوناني : ميكيس ثيودوراكيس.ستكون ليلتنا اليوم حافلة بالموسيقى اليونانية الباهرة.عليك أن تقرر ،ما إذا كنت ستأتي معنا لحضوره أم لا.

■ ولكن علينا أنجاز الحوار أولاً.
ـــاكتبْ نهايته بنفسك. وإلا فما من حوار وينتهي ببساطة، لا على تلك الأرض ولا في مراتب هذه السموات .