إنت وهو حاتخدوا باسبوراتكم من أول كونتر.
هذه أول جملة سمعتها في المطار حين وصلت القاهرة. كل اللبنانيين، أمثالي، أخذت منهم جوازات السفر، قبل أن يُقادوا إلى زاوية في المطار. وهناك تم إدخالهم فرادى إلى مكتب يضم رجلي أمن لسؤالهم بضعة أسئلة حول زيارتهم مصر وسبب الزيارة والمهنة وغير ذلك. نظرت إلى صديقي الذي بدأ ينفعل تدريجياً بسبب هذه الإجراءات مازحاً: إذا كان الضابط بتلات نجوم عم يقول لـ يلي قاعد جوا يا باشا، قولك مين يلي بدو يحقق معنا. الظاهر إنو رئيس الحكومة. على كلٍّ، لم يكن رجل الأمن يشبه رجال الأمن الذين تصوّرهم الأفلام المصرية إلا في كتفيه العريضين وصوته الجهوري الحريص على إخراج الحروف واضحة وممتلئة. كان لطيفاً بقدر ما تسمح له مهنته.
أخيراً، دفعنا ثمن هذا الإجراء ساعة ونصف ساعة من الانتظار لنخرج من القاعة الكبيرة التي شغلها عدد كبير من رجال الأمن والشرطة بعضهم كان يشرب الشاي وبعضهم كان يفترش فجأة الأرض ليصلي الظهر بمن فيهم الشخص ذو القميص الأسود والابتسامة الساذجة والذي كان سعيداً بتكليفه بمهمة السير أمامنا حتى الزاوية المقابلة من القاعة. خارج القاعة استقبلنا الشخص المرافق للسائق الذي جاء ليقلنا. لكن السائق اختفى فجأة. كان علينا أن ننتظر عشرين دقيقة أخرى في انتظار عودة السائق. لاحقاً عرفت أن ما جرى لم يكن سوى بروفة على انتظارات القاهرة وزمن المصريين.
أول إصلاح لازم يبدأ فيه المصريون هو الالتزام بمواعيدهم. هكذا قلت لجيهان عمر التي تحمّلتْ طوال الوقت ملاحظاتي المصرية بقدر ما تحملتُ تأخرها الدائم عن الموعد. في آخر موعد لنا تأخرت قاصداً أن تنتظرني هي هذه المرة. مع ذلك وصلت قبلها وانتظرتها كالعادة. التأخر عن المواعيد ظاهرة في مصر. تقول الصديقة إنها حين تواعد شخصاً عند الساعة الثانية من بعد الظهر مثلاً فهذا يعني أنها ستنطلق من بيتها الساعة الثانية من بعد الظهر. يعني مسافة الطريق يتحلمها دائماً الشخص الآخر. و'مسافة السكة' هذه مصطلح كامل في مصر. لا تتصل بشخص مصري تأخر عن موعده إلا ويجيبك الإجابة نفسها: مسافة الطريق. لكن مسافة الطريق مسألة مطاطة. والدليل ما جرى لي حين سألت أحدهم عن الوقت اللازم للذهاب من القاهرة إلى مدينة الإنتاج الإعلامي من أجل عمل تلفزيوني يتطلب دقة في مواعيد الوصول. قال لي ما بين الساعة ونصف الساعة. قلت له بلهجة لبنانية غاضبة قليلاً: في فرق بين ساعة وساعة ونص. لكن الرجل من دون أن يعير انزعاجي من عدم الدقة أي اهتمام أجاب: يعني إذا طلعت الساعة سبعة حتوصل الساعة تسعة.
المصريون يتأخرون دائماً. قلت لحسني صاحب دار شرقيات. بابتسامة هي قطعة من وجهه قال لي: الذين يلتزمون بالمواعيد موجودون أيضاً لكن لن تجدهم بسهولة. لهذا السبب بت أعطي مواعيدي في المكتب. وحسني هذا إضافة إلى كونه شخصاً لطيفاً ومبتسماً على الدوام، هو مثقف ممتاز. طريقته في سوق الكلام وزاوية النظر التي يرى منها إلى الأمور وجملته الخاصة تضمر تحتها قارئاً حقيقياً. في مكتبه في تلك البناية القديمة، حيث تشم رائحة بويا لا تنسجم مع قدمها، التقيت بحسن حمّاد وسيد محمود. وسيد هذا عبارة عن شخص مؤلف من الطيبة. نظارته وابتسامته ومبادرته إلى الكلام ورغبته في تعريفك بالمقاهي وبيوت المثقفين والفنانين تبرز هذه الطيبة وتضخّمها. حين تركنا حسني، سيد وجيهان عمر وأنا، جلسنا في 'الندوة الثقافية' أحد المقاهي الثقافية في القاهرة. راح سيد يشرح لي: هنا في الطابق الرابع يسكن عادل السيوي، وهناك في تلك البناية تسكن رضوى عاشور. بدا دليلاً ثقافياً وهو يحتسي الشاي عاكساً على نظارته بنايات وشوارع وأشخاصاً يمرون مثقلين ومتباطئين.
البطء. مفردة تعبّر عن المصريين الذين يتأخرون في المواعيد. افترضت أن هذا التأخر الذي لا يلائم أجدادهم الفراعنة البارعين في الهندسة المعمارية وأصحاب الدقة في الحسابات ومخترعي الآخرة، افترضت أن له سبباً غير مصري. إنه الانتظار. انتظر المصري القديم بناء عمارات بحجم الأهرام. انتظر فراعنة مئات السنين حتى يفرغوا من الحكم. انتظر محاصيل ومواسم وأزمنة قحط وجوعاً. احتال على الجفاف ورافق النيل حتى مصبه. ولم يفارق هذا النهر منذ وُجدا معاً. الحضارات القديمة كلها نشأت قرب المياه وتوسّعت لاحقاً. وحده المصري لم يقوَ على فراق النيل. عدم القدرة على المغادرة جينة لا تزال إلى اليوم تشدُّ المصريين إلى بلدهم كلما ابتعدوا عنه. نحن في لبنان بعكس المصريين أخذنا الهجران عن الفينيقيين واعتدنا عليه. المصري أيضاً انتظر العودة من موته حين كان يتم تحنيطه متروكاً آلاف السنين مع بعض الأطعمة والأواني والأغراض الشخصية. كانت المومياء المصرية قادرة على تحمّل ملامحها آلاف السنين. هذا درس في الصبر على الذات. حتى الغبار الذي يكسو شوارع وأبنية القاهرة جزء من التاريخ. جزء من ذلك الصبر. الغبار والتاريخ يتبادلان الصمت في هذه المدينة الهائلة. واليوم لا يزال المصري ينتظر حلولاً كثيرة ليس لديه يد في تغييرها: تبدل الحياة السياسية، تبدل الوضع الاقتصادي، حل أزمة السكن والمواصلات والكثافة السكانية التي تزداد في المدن الكبرى. فكرت: ربما هذا ما يجعل المصريين يتأخرون. من ينتظر كل هذه الحلول لن تقدّم أو تؤخر عنده ساعة بالناقص أو ساعة بالزايد. لهذا تكثر لدى المصريين عبارات شبيهة بتلك التي وردت. لكن أبلغ هذه العبارات وأوضحها هذه العبارة التبريرية: مستعجل على إيه؟
التأخر عن المواعيد لا ينسجم مع الطريقة التي يقود بها المصريون سياراتهم. السائقون دائماً مسرعون حتى في الأماكن المزدحمة. من النادر أن تجد سائق سيارة يتوقف لتقطع الطريق. لا يتوقف السائقون حتى للنساء والعجائز. سألت نفسي: إذا كانت كل هذه السرعة لن تأتي بمصري في موعده فما هي ضرورتها؟ هل هو الازدحام؟ هل هو السعي المتواصل لتحصيل لقمة العيش؟ هل هي مجرّد عادة؟ أياً كانت هذه الأسباب فإن هذه السرعة التي لم تنفع في حسابات الالتزام بالمواعيد تنجح يومياً في قتل عدد من الأشخاص وجرح العشرات. لم يمرّ يوم من فترة مكوثي في القاهرة من غير أن أقرأ في الصحف عن ضحايا حوادث السير. المصري إما يصل متأخراً وإما لا يصل أبداً. وبين التأخر وعدم الوصول أسلوب حياة وأسلوب موت.
القدس العربي
2009/05/08