ناظم السيد
(لبنان)

ناظم السيدنحن الآن على الأوتستراد: أنا وأخواي وصديقتي وعمتي وفيروز التي لم يكلّفنا صوتها مقعداً زائداً. فيروز طبعت صباحات اللبنانيين والعديد من العرب بصوتها. ولكثرة تداخلهما يحتار الواحد منّا، من يطلع قبل: الصوت أم الضوء؟ وفيروز مقياس اليمينيين في الانتماء إلى لبنان مثلما كانت أم كلثوم مقياس القوميين في العروبة. نستمع إلى فيروز يعني أننا لبنانيون وأننا نتقاسم - نحن الشيعة – مع بقية الأقليات هذا الفولكلور المشترك. الشيعة والموارنة والدروز أبناء ريف لهذا يملكون ذائقة غنائية متشابهة. السنة والأرثوذكس يميلون إلى الطرب، وتحديداً المصري، بسبب عيشهم في المدن التي كانت على تواصل مع الحواضر العربية. ملاحظة تذكرتها حين "نحن والقمر جيران/ بيتو خلف تلالنا" تخرج من الراديو لتتفرق بالتساوي على آذاننا العشرة. تذكرت أيضاً أنَّ أغاني فيروز تصلح للحرب والسلم، مثلما تناسب الليل والنهار. كان صوت فيروز يملأ الصمت الذي رافقنا في طريقنا إلى بنت جبيل لنرى بيتنا المدمّر. شخصياً، لم يكن لدي سوى هدف: أن أضيف هذا الدمار إلى تلك الذاكرة الشبيهة بمستودع خردة لكثرة ما حفظت من مشاهد حملتها معي من هجرة إلى هجرة في حروب متواصلة ومتقطعة عشتها منذ ولدت مع الحرب. الأحرى، كنت توأم الحرب. لقد كلّف مجيئي إلى هذا العالم حرباً أهلية كما كان أهلي يرددون منذ طفولتي. السيارة ومخيلتي تتسابقان على الطريق. وكلتاهما كانت تبطئ عند كل جسر مدمّر أو منزل مهدّم أو محطة وقود محترقة. في داخلي كنت أعرف أنَّ هذا الدمار ليس إلا تمريناً على الدمار الآتي. الدمار الذي كان عليَّ أن أكتشفه بقدمي. هناك دمار تراه وهناك دمار عليك أن تجده. الدمار لا تستطيع أن تراه مرة واحدة. ينبغي أن تعيد المشهد كما في الجرائم المصوّرة لتضيف تفصيلاً سها عنه نظرك. حين تدمّر بناية تشطب نظرة. لكن حين تدمّر مدينة تمحو ذاكرة.

تبدأ بنت جبيل بمرتفع صغير يدعى "صف الهوا". اسم لم يلفت انتباهي من قبل. وحده الخراب ذكّرني بالمعنى المنسي لأسماء الشوارع والقرى. المرتفع الذي يطل على البلدة مكشوف للهواء. الهواء الذي كان يحرّك مخيلة البيوت الغارقة في منخفض تحيطه الجبال والتلال من جهات مارون الراس وعيترون وعيناثا وعين إبل. من هذه المرتفعات كانت البيوت تبدو كأنَّ السيول جرفتها باتجاه نقطة الوسط. كانت الكثافة السكانية تبدأ من "جامع نص الضيعة" والساحة القديمة باتجاهات عشوائية نحو الحقول والتلال والوادي الذي كنت أظنه في طفولتي نفقاً يصل إلى فلسطين. لا شك في أنَّ رحلة البيوت هذه من الوسط إلى الأطراف استغرقت مئات السنين. فكرت في هذا عاقداً المقارنة بين سنوات تمدد القرية وأيام تدميرها. إذاً، تبدأ بنت جبيل ومن حيث تبدأ دمار على الجانبين. بيوت وبنايات صغيرة جلست مكومّة على نفسها. بدت كأنها تستريح بانتظار من يساعدها على الوقوف. لكن التدمير والبناء ليسا مسألة تبديل أحجار بأحجار. حين نعيد بناء بيت نفصله عن سيرته. إننا نستحدث له هوية جديدة وعمراً آخر. في كل حال، يحق للبيوت أن تستريح ولو كلّف ذلك حرباً. لا يمكننا طوال الوقت أن نتكلم نيابة عن الأحجار مثلما لا يمكننا أن نتحدث عن شعور القرى بعد تدميرها. ومع ذلك، أستطيع الادعاء أن البلدة لم تقابلني بخدين منتفخين من الغضب وشعر منفوش من العار وساقين مكشوفتين من الركض. كانت صامتة. وكنا نقلّد صمتها ونحن نتقدم إلى السوق.

سمعة بنت جبيل من سمعة السوق. في القرى المحيطة يطلقون على أهالي البلدة "سُوَقة"، أي أهل سوق. وكل أهل سوق يُفترض أن يكونوا بخلاء. بالتأكيد ثمة بخلاء في البلدة. لكن الكرم أيضاً إحدى عاداتهم. بنت جبيل مدينة، وفيها ما في المدينة من تناقضات: شعراء وأدباء وصحافيون وأساتذة جامعيون وسفلة وسكارى ومتدينون وأطباء ورجال سياسة وأحزاب وطنية وعملاء لإسرائيل وبسطاء ومجانين. وسوق بنت جبيل ليس للتجارة فقط. إنه مكان اجتماع الناس كل خميس. في هذا اليوم كان رب البيت يشتري حاجياته للأسبوع القادم. وكان الناس يتلاقون والتحية ترفع أياديهم ببطء مقصود. ولم يكن اللقاء بين أهل البلد فحسب بل كان فرصة لمشاهدة وجوه التجّار والباعة من القرى القريبة والمدن البعيدة من صور والنبطية وحاصبيا ومرجعيون. وكان السروال الأسود وغطاء الرأس الأبيض الذي يميّز المشايخ الدروز دليلاً على أنَّ هذا الزيت أصلي وذاك التين بلدي من دون الحاجة إلى فحص هذه البضائع. في الماضي كان هذا السوق يرتبط بفلسطين أكثر من ارتباطه ببيروت. وكانت "كراجات حيفا، يافا، عكا" دليلاً على الحركة اليومية من والى القرى والمدن الفلسطينية. أبي ذهب إلى فلسطين قبل أن يتم العشرة أعوام. ظل فترة لا يعلم أحد عنه شيئاً فظن أهله أنه مات. أقاموا له مأتماً. وعندما عاد كان عليه أن يعيش حياته التي بلغت اليوم السابعة والسبعين على أنها فائض. كان الموت الفكرة التي لا تفارقه. لم يتعلم الصلاة. لم يصم رمضان. كره الحرب والميليشات. أحب كميل شمعون وانتخب علي بزي النائب والوزير الشهابي. لقد احتفظ طوال حياته بتلك المسافة الباردة بينه وبين أي حدث ثوري. زوج عمتي قصته مختلفة. لقد تزوّج أخت أبي أياماً معدودة ثم ذهب إلى فلسطين ولم يعد. عمي انتسب إلى المنظمات الفلسطينية ولم يأتِ عنه خبر منذ عام 1978. أخوتي الثلاثة الكبار مشوا مع الفلسطينيين. الأكبر فقد ساقيه ويده بقذيفة في السنة نفسها. الذي يليه سُجن سنتين ونصف السنة في سجن فلسطين السوري. والأخير سُجن سنة ونصف السنة في معتقل الخيام الإسرائيلي. ابن عمتي حمل أيضاً سلاحاً مع "فتح" واستشهد. ضريبة دفعتها العائلة عن موقع البلدة القاتل. بعد سنوات عرفت أن أحد أجدادي قتله فلسطيني بسبب تجارة المواشي. عائلتي مجرّد نموذج لهذه العلاقة بفلسطين. لقد قدّمت بنت جبيل شهداء للقضية في معركة المالكية في الـ 48 وأثناء ثورة الـ36. ويخبر أهلها بفخر أنهم قدّموا أول شهيد في تاريخ المقاومة من لبنان عام 69: الأخضر العربي. ويسردون بالفخر نفسه كيف أن جثمانه نُقل إلى الشام ليعود إلى البلدة في رحلة استغرقت ثلاثة أيام احتشد لها المواطنون في معظم المدن والقرى التي مرّت بها. تاريخ البلدة من تاريخ القصف الإسرائلي الذي كان يوقع كل مرة قتلى: 1969، 1970، 1973. لكن المجزرة الأقسى حدثت في الـ 76 حين قصف الإسرائيليون السوق نهار الخميس. مرة أخرى: السوق ليس للتجارة فقط. هنا كان عباس البعلبكي صرّاف البلدة الوحيد يبدّل العملات اللبنانية والفلسطينية والسورية. وهنا كان الشيخ علي يقرأ قصائد ابن أبي الحديد في مدح الإمام علي مقابل المال. وهنا كان العميان يأتون من الجوار للبيع والشراء وإنجاز المعاملات أمثال علي الفلسطيني وخليل الطيري. وهنا كان القبضايات يتعاركون ويتصالحون ويهرمون أمثال حتيت (من تبنين) وأبو علي كربه (من عيترون). كل ذلك حدث قبل نكبة فلسطين. وبعدها سوق آخر: ذهبت "كراجات حيفا، يافا، عكا" والليرة الفلسطينية ليأتي الفلسطينيون بأنفسهم هذه المرة. كانت بنت جبيل أقرب المدن إلى فلسطين. وكان نصيبها من النازحين أكبر من بقية القرى والبلدات اللبنانية الأخرى. أبو مفيد الذي عاش مع عائلته في البلدة سبع سنوات حين أتاها مهجّراً قال لي حين عرف أنني من بنت جبيل "ياي، إنت من بنت أم جبيل". لم ينسَ أبو مفيد هذه الضيافة الطويلة. عندما دُمّرت البلدة سأل عن العائلة التي سكن عندها واستقبلها في بيته طوال هذه الحرب. تذكرت أيضاً أن الفلسطينيين يضيفون كلمة أم بين بنت وجبيل. فكرت: إنهم يجعلون بلدتي أماً لأنها كانت جزءاً من نكبتهم. النكبة التي أوقفت جدّي عن الذهاب إلى فلسطين لشراء المواشي. عندها عمل جزّاراً هو الذي حارب في صفوف الجيش الفرنسي. كان يذبح الغنمة ويعلّقها على عمود كهرباء في السوق. هنا تماماً حيث أضع يدي الآن. يدي التي بلغت الحادية والثلاثين لن يعود في مقدورها استرجاع تلك الحيطان والبيوت التي انكمشت من الخوف حتى وقعت مشلولة تماماً. البيوت تبدو في شكلها الجديد كأنها تختبئ كساكنيها من القصف. هذا ليس تشبيهاً. البيوت تشبهنا في أشياء كثيرة على الأرجح.

من قديم الزمان تقف بنت جبيل على رجل واحدة فوق تلك الأرض الواسعة التي اسمها التاريخ. لقد تنازعتها الممالك والدول بحكم موقعها. وهي نفسها لم تستطع أن تحسم خيارها فظلّت محكومة لعقدة الجغرافيا. لا ولاة نابلس أقنعوها ولا أمراء الشهابيين. وفي كل مرة كانت تدفع ثمن هذا الشك في الانتماء. عام 1478 دفعت ثمن ولائها لآل علي الصغير فدمّرها والي نابلس. وفي عام 1729 واجهت الشهابيين بسبب ولائها لظاهر العمر وناصيف النصّار. وفي عام 1787 انقلبت على جمال باشا الجزّار بعدما أعدم سلمان بزّي الذي تعاون مع العثمانيين. وبعد العام 1839 ناصرت المصريين مع الشيخ حسين السلمان. وفي عام1909 انضمَّ زعيمها آنذاك محمد سعيد بزّي إلى "جمعية الاتحاد والترقّي" فسجنته السلطة العثمانية. وعام 1920 رفضت بنت جبيل "لبنان الكبير" مطالبة بالاستقلال مع سوريا في مؤتمر وادي الحجير الذي ضمَّ أعيان الشيعة. وفي العام نفسه ظهرت فرقة محمود أحمد بزّي التي قاومت الفرنسيين على غرار فرقتي أدهم خنجر وصادق حمزة. عندها سجن الفرنسيون من سجنوا وأعدموا من أعدموا. وفي عام 1926 قامت ثورة ضد الفرنسيين لتتكرر الثورة عام 1936. لكن البلدة انضمت إلى لبنان من غير أن تنسى تلك العلاقة غير المفهومة للآخرين مع فلسطين وسوريا. لم تكن العلاقة مع فلسطين تبادلاً تجارياً في الفواكه والمواشي، مثلما لم تكن العلاقة بحوران استيراد قمح فحسب. إنها لعنة الموقع الذي يولّد كلَّ مرة انتماء وأحزاباً تدافع عن هذا الانتماء من "النداء القومي" إلى "البعث" إلى "الشيوعي" قبل أن يتسلّمها "حزب الله" مرهقة من رهانات خاسرة. هكذا جلست بنت جبيل على تخوم الدولة الجديدة، الدولة التي قطعت يدها منها منذ عام 1970. لو كانت الدولة حاضرة لظلّت سينما "ساحة النبية" التي كنت أراها مغلقة في طفولتي قائمة. كانت السينما المقفلة دليلاً على انسحاب الدولة من البلدة وتسليم أهلها إلى الأحزاب المتعاقبة بهدف واحد وصياغات متعددة. كانت السينما المهجورة والمعتمة من الداخل عبارة عن جملة شهيرة لطالما أرّخت بها الميليشات حضورها في مكان ما. هذه الجملة: "لبنان مرَّ من هنا". الصلة الوحيدة الظاهرة بين الدولة وبنت جبيل كانت ذلك المخفر الخجول في السوق. المخفر نفسه الذي قال رئيسه للشاعر موسى الزين شرارة إثر محاولة اغتياله عام 1947: "لو كان عندنا كلاب بوليسية لعثرنا على الجاني فوراً"، فردَّ الشاعر: "لو كان عندنا كلاب بوليسية لعثرنا على الدولة أولاً".

ما زلنا في السوق. عمتي وأخواي يتحدثان مع رجلين لا أعرفهما. أنا أقف جانباً وأستمع إلى صدى الحكايات التي حفظتها. هنا وضع أخي الكبير مسامير أمام موكب "البيك" أحمد الأسعد واعتقل لتخرجه سكين الأم الطويلة التي شهرتها في وجه الدرك. وهنا أيضاً رفعت "البورة" الحذاء أمام "البيك". وهنا كان البعثي العراقي أبو جبران الذي مات وهو يحلم بالوحدة العربية يقود المتظاهرين بجسده البدين وصوته العريض من الغضب. كان أبو جبران يسحب الرجال خلفه، واضعاً على كرشه يافطة تقول: "بطني دائماً على حق". وهنا كان سوق اللحمة بدكاكينه على الصفين. من الصعب أن تجد في البلدة نباتياً. أهل بنت جبيل أكلة لحوم حمراء. وهم يفاخرون بأنهم لا يرمون من الغنمة أو المعزاة أو البقرة إلا جلدها. حتى إنَّ أحدهم ذبح ذات مرة حماراً وباعه. إنهم يأكلون كل شيء بدءاً بالمصران والكرش والطحال والرأس وانتهاء بالقوائم. حتى العظام يطبخونها مع الطعام لإضفاء نكهة عليه أو يفرغون لبّها ويتناولونه مع الخبز والملح. وبسبب هذه العلاقة مع اللحم تراهم يسخرون من أولئك الذين يشترون اللحم خالياً من الدهن. كان الدسم الموجود في اللحم معيارهم في الوفاء لهذا الطعام الذي ورثوه من آبائهم في الغابة الذين افترسوا الحيوانات انتقاماً من الموت. الآن بعد تدمير السوق هل سيتوقف أهل البلدة عن أكل المواشي بهذه الطريقة؟ كنت أسأل نفسي عارفاً أنَّ أهل بنت جبيل يحملون معهم عاداتهم أينما رحلوا. حتى في ميتشغين حيث يعيش أكثر من عشرين ألف نسمة منهم يتصرفون كأنهم في بلدتهم: لحوم وشحوم وكبة نية وزعتر بلدي وأساطير حفظوها عن الآباء والأمهات. لا بل إنَّ الواحد منهم رغم عيشه المديد في أميركا لا يزال يمطُّ كعادة أهل البلدة البلاغية حين ينادون ويسألون ويتعجبون وينفون ويؤكدون ويستنكرون. ربما كان مطُّ الكلام عندهم متأتياً من علاقتهم بالشعر أكثر من سكنهم في منطقة جبلية قاسية وتاريخ عنيف زادا من علو أصواتهم في أبسط النقاشات وأكثرها تعقيداً. شعراء كثر خرجوا من هنا أو تناسلوا من آباء تركوا البلدة باكراً. ولكثرة حضور الشعر فيها ترى ناسها حين يتكلمون يخلطون المحكية بالفصحى. والفصاحة القريبة من الفذلكة التي كان يتقنها أميو بنت جبيل بمن فيهم أبي الذي يعتقد أنه يؤلّف الشعر، هذه الفصاحة تبدو كأنها امتداد للأحزاب القومية التي ربطت لسان البلدة بلغة واحدة موزونة ومسجّعة.

وصلنا إلى "ساحة النبية" في آخر السوق. يُقال إنَّ الساحة سُمّيت بهذا الاسم بسبب النبية التي دُفنت فيها. لا يذكر تاريخ الأديان أنَّ الله أرسل نبية إلى عباده. الله لا يثق بالنساء تماماً كالرجال. لكن من الجيد أن يخترع أهل بنت جبيل نبية ويدفنوها في إحدى ساحاتهم. ليس الأمر مستغرباً. إذا استثنينا أن كلمة بنت جبيل تعني بيت شمس أو بيت صناعة الخزف هناك رواية أخرى تقول إن إحدى الأميرات نزحت إلى البلدة نتيجة ظرف ما. هكذا نصبح أمام ثالوث مؤنّث في البلدة: الأميرة والنبية والشعر. خلف محطة البنزين هذه كانت القهوة (المقهى). لكن القهوة المبنية فوق قبر النبية لم تكن تضمُّ غير الرجال وبينهم أبي. كان أبي يلعب القمار هنا. وكنت في الثامنة من عمري حين سألته: إلى أين؟ قال: إلى بيت الله. هكذا ظننت أنَّ القهوة هي نفسها بيت الله. ومنذ ذلك الاكتشاف كنت أباغته في القهوة لأحصل منه على المال. من الأفضل أن تكون بيوت الله مربحة بهذا الشكل. وهنا أيضاً يعيش إبراهيم نعيم بزّي الذي تجاوز السادسة والثمانين من غير أن يتخلّى عن يساريته. تعرّفت إلى هذا الرجل قبل سنتين. أخبرني أبي أنَّ أحدهم يريد أن يراني بسبب مقال كتبته عن الوالد في هذا الملحق تحديداً. دخلنا داراً ضيقة ثم غرفة عالية ومظلمة. وقف بزّي بسنواته كلها وأناقته التي تشبه شوارع كوريا الشمالية. قال لي: أسلوبك يشبه مكسيم غوركي. الرجل الذي كان صديقاً لكل شعراء بنت جبيل ومعظم شعراء جبل عامل الذين من عمره سألني عن "ملحق النهار". أخبرني أنه يتابع ما يكتبه الشباب. حدّثني عن البلدة التي تخلّفت بعدما تركها اليسار واستلمها الأصوليون. خبّرني عن الناس الذين يفقدون كلَّ يوم حسَّهم النقدي مسحوبين خلف الشعارات. الغرفة العالية والمظلمة سقطت على الأرض. لم تحتمل كل هذا الضوء الذي يحدثه القصف. نجا إبراهيم بزّي لكنه أضاف خسارة جديدة إلى تلك الخسارات التي جمعها وهو يتأمل بنت جبيل في مسيرتها البطيئة إلى الخلف.

نترك السيارة في السوق وننحدر مشياً في ما كانت نزلة صغيرة تؤدّي إلى حارة "عين الزغيرة" حيث بيت عمتي سابقاً. البيوت مبعثرة كلعب الأطفال. الحيطان المهدّمة رفعت الطريق أكثر من عشرين سنتم. خطر لي أنني أمشي على بيوت القرية. هذه البيوت التي كانت تحتفظ بأسرارها الداخلية انكشفت فجأة أمام الفضوليين أمثالي. قبل بيت عمتي بخمسة أمتار رائحة كريهة. من المؤكد أنها رائحة جثة تحت الردم. بدت الرائحة كأنها يد خفية ضخمة تشير إلى نفسها: ها أنا. لكن الرائحة كانت تبالغ قليلاً في هذه الإشارة التي رسمتها أمام الأنوف. الموت نفسه قد يكون مبالغة. خطر لي أنَّ الجثث ترسل الرائحة لأنها فقدت قدرتها على الكلام. عمتي أمينة تصعد درجات بيتها الثلاث متكئة على الحائط الأمامي للبيت. تفتح الباب. الباب لا يصل إلى الغرف وإنما إلى كومة أحجار بعضها كان في السابق ظهراً لبيت عمتي وبعضها كان بيت الجيران. وبيت الجيران المسوّى بالأرض يتصل دماره بدمار بيت الجيران الآخرين. دمار متصل ببعضه من أول القرية إلى آخرها. كأن البيوت حين تقع تصبح أكثر تعاوناً ومؤازرة ومودة في ما بينها. من النادر أن تجد بيتاً مدمّراً على نفسه بطريقة أنانية. حارات بكاملها أعاد خلطها الدمار. تذكرت أيضاً أن عائلات بكاملها أبيدت. شيء يشبه التضامن في الموت. كذلك البيوت وقعت كلها متكاتفة (من الكتف إلى الكتف) بعضها مع بعض. تخرج عمتي صوراً وتعطيني إياها. إنها صور شوقي ابنها الذي استشهد في "انتفاضة 6 شباط". لقد فقدت زوجها ثم ابنها. عمتي الأخرى فاطمة ضاع زوجها في فلسطين بعد زواج دام أياماً كما سبق. لا بد أن عصابات الهاغانا اليهودية قتلته. حبلت عمتي في هذه الأيام القليلة وأنجبت بنتاً. لم يعد الزواج أمراً وارداً بالنسبة إليها. قد يعود الزوج المفقود منذ الـ 48 في أي لحظة. لكنَّ المسألة لم تنتهِ عند هذا الحد. لقد فقدت حفيدها في عملية لحزب الله لاحقاً. وأخيراً، كان على العمتين أن تُحاصرا في البلدة مع عدد قليل لم يحالفه الحظ في الهرب. كانوا يفرّون مع بضعة محاصرين من بيت إلى بيت. وكانت البيوت تتساقط وراءهم. في النهاية اختاروا بيت السيد علي الحكيم. ربما ظنّوا أنَّ بيت رجل الدين سيكون آمناً إذا حرّفنا الآية القرآنية "للبيت ربٌّ يحميه". لكن الربَّ كان مشغولاً بفيضانات طارئة في الهند. لقد وقعت الغرف جميعها باستثناء الغرفة التي تكوّموا فيها وسقط جانب منها فقط. كانوا نحو 18 شخصاً. لا طعام ولا ماء. الخروج مستحيل. الخوف يشلُّ الأعصاب. كانوا يأكلون البرغل مع الزيت. السيد يفتح القرآن ويقرأ "قل أعوذ بربِّ الناس/ ملك الناس/ إله الناس/ من شرِّ الوسواس الخنّاس". حرف السين مناسب كثيراً للخوف. إنه يذكّر بالأسنان التي تصطك في البرد. الذهاب إلى الحمّام مستحيل أيضاً. لا مفرَّ من هذا القرار. إنهم يبوّلون رجالاً ونساء في أمكنتهم. لقد انتهى زمن الخجل. ربما أعادهم الخوف أطفالاً. ربما كان الموت الحدَّ الأعلى للخجل. هل هناك خجل أكثر من الموت تحت الركام؟ أصوات قذائف المدفعية وصواريخ الطائرات تختلط بأصوات جرحى ينزفون تحت الردم. لا أحد يستطيع مساعدة أحد. موقف شبيه بيوم القيامة كما تصفه الكتب الدينية. أحدهم يحمل مسبحة ويستخير الله إذا كان يسمح له بالهروب من البلدة. انتظروا النتيجة بأعصاب مشدودة تماماً كالذين ينتظرون نتيجة فحص الأيدز في المختبرات. النتيجة سلبية. عمتي أمينة تصرخ في وجهه: إبقَ أنت. سنذهب. السيد علي يقول لعمتي: "بحياة بيّك يا أم شوقي، قولي للصليب الأحمر يوجد أحياء في البلدة". وهكذا خرجت مع بضعة نساء عجائز. مشين حتى أول البلدة حيث المستشفى الوحيد والخالي. إحدى العجائز لا تقوى على المشي. تستعير عمتي كرسياً للمعوّقين من المستشفى لتحمل المرأة عليه. أعمى يجرُّ أعمى كما يقول المثل. لا بدَّ أنهن بدون أمواتاً عائدين من المقبرة بعد خطأ بسيط في الحسابات. على الطريق الجبلية كنَّ يمشين بخطى متثاقلة من التعب. وجدت عمتي قنينة فيها بعض المياه. شربت. استردت شيئاً من قوتها المنهكة. سرن حتى أول تبنين. أي ما يقارب العشرة كيلومترات. وهناك التقوا بعناصر الصليب الأحمر. عمتي رفضت الذهاب في الإسعاف. عادت معهم إلى البلدة لتدلّهم على من بقي على قيد الحياة. استطاعت عمتي النجاة من دون الاعتماد على السفارة الأميركية هي التي تحمل الجنسية الأميركية ولا تعرف من الإنكليزية إلا كلمة ألو.عندما تزورنا اليوم في البيت تجلس صامتة تماماً كما يفعل الأبطال الجالسون داخل تماثيلهم في الساحات العامة.

وصلنا إلى الساحة القديمة. بيت أختي وقع نصفه. دخلت من الحائط لا من الباب. تذكرت أنَّ الأشباح في أفلام الرعب تدخل من الجدران. أفلام الرعب حقيقية. صاروخ طائرة كبير وقع قربه. انفجر البيت من الداخل. تخيّلته يريد أن يهرب لحظة وقوع الصاروخ. نطح جدرانه ثم وقع في حضنه. مقابل بيت أختي كانت جدتي تفرش قطعة قماش وتبيع السكاكر والبزورات وأشياء من هذا القبيل. ظلّت جدتي حتى الخامسة والتسعين تعمل في أرض جدّي وتبيع في الساحة. لا أعرف لماذا ذكّرتني البيوت المهدّمة بأسنانها في هذه اللحظة. فعلاً تشبه هذه البيوت أسنانها. لا تشبهها فحسب. بيوت البلدة من عمر أسنانها تقريباً. هذه الدكاكين الصغيرة كانت مصانع أحذية. هنا يكاد معظم الناس يتحدّرون من إسكافيين. وهنا يتباهى صانعو الأحذية بجودة عملهم التي يضاهون بها الأرمن. ولهذا السبب يضعون على مدينة بنت جبيل في الخريطة الصناعية للبنان حذاء. أصعد الطلعة الصغيرة الموصلة إلى بيت جدّي، ملتفتاً إلى ماكينة خياطة تجلس على كومة أحجار كبيرة. الطلعة الصغيرة كانت في الماضي عبارة عن أحجار مصقولة بعناية. كنت في طفولتي أزحط كلما مررت بها. ويمكن القول إنها كانت اختباراً جيداً لنعل الحذاء الأصلي. إذا وقعتَ يكون حذاؤك أصلياً. وإذا عبرتها ولم تتعثّر يكون نعل حذائك مغشوشاً. البيت دُمّر نصفه. الدار اختفت كلياً. الغرفة الصغيرة المطلية بلون أزرق أصبحت ركاماً. بقيت عمتي فاطمة في هذه الغرفة بعد موت جدّتي. كنت كلما زرتها تقول لي: "يا عمّتي هالغرفة عم تنش مي بالشتا". وكنت كلما قالت لي هذه الجملة أعتقد أنَّ النش يأتي من اللون الأزرق للغرفة وليس من الخارج. الغرفتان الداخليتان ظلتا واقفتين. لقد كشف الدمار حولهما مدى علوّهما. معظم البيوت القديمة في البلدة كانت أسقفها عالية. لا أعرف إذا كان الأمر يتعلق بالحرارة والبرودة. لكن بعض هذه الغرف كان يُستعمل لنشر أوراق التبغ المشكوكة بخيط طويل. كانت هذه الخيوط تُعلّق في السقف ليجفّ التبغ ببطء. هذا يعني أنَّ هؤلاء الناس كانوا يقضون حياتهم مع التبغ: في النهار يعملون في حقول التبغ، وفي الليل ينامون تحت أوراق التبغ المتدلية كالخفافيش من السقوف. قرب بيت جدّي المدمّر تكّوم بيتا عمّي جميل الذي خُطف كما أخبرتكم وعمّي عبد الحسين الذي قُتل طعناً بسكين. وخلف بيت جدّي الخربة التي انفجرت فيها قنبلة كان يلهو بها أبناء وبنات عمّي. واقفاً على تلة الأحجار هذه أجريت حساباً لخسائر عائلة جدّي. جميع أبنائه وبناته فقدوا إما زوجاً وإما ولداً وإما الاثنين: عمتي فاطمة: زوج وحفيد. عمتي أمينة: زوج وابن. عمّي أمين: ابن. عمّي عبد الحميد: ابن. عمّي جميل: خُطف. عمّي عبد الحسين: قُتل. أبي: إصابة أخي الأكبر. تذكرت حكاية أبي عن الدير. تقول الحكاية: بيت جدّي مبني على دير قديم. إنها لعنة الدير إذاً. هذا يعني أنَّ الله يحبُّ المسيحيين وليس منحازاً دائماً إلى المسلمين. لكنَّ تفكيراً كهذا أمام دمار كهذا يقودنا إلى السؤال الأكثر تورطاً: ماذا لو كان الله يهودياً؟

أقف في أعلى الزاروب الموصل إلى بيتنا. أقف على حارة كاملة. أنحدر على الأحجار باتجاه البيت. هنا إلى اليسار بيت السيد هادي. في طفولتي كان البيت مهجوراً. كان قبر السيد هادي يتوسط الغرفة الداخلية. وكنا نتسلق سطح البيت الطيني ونمدُّ أعناقنا من الفجوة الكبيرة في وسط السطح لنرى القبر. كان هذا الفعل مزيجاً من الفضول والشجاعة. لكنَّ الجرأة لا تلبث أن تصبح خوفاً ما أن يحلَّ الظلام. الآن فقط أفهم معنى أن يوصي أحدهم بدفنه في بيته. إنه يريد أن يظلَّ في البيت الذي عاش فيه حياته. يريد أن يكمل موته في هذا الكوكب الصغير الذي تقاسم معه عمره. الفراعنة فعلوا شيئاً من هذا القبيل. إنه الإيمان بالحياة بعد الموت. إنه الإيمان بالبيوت بعد الموت. بيتنا المؤلّف من غرفة واحدة ومطبخ وحمّام أصيب بقذيفة. الأغراض التي فيه تناثرت في الشارع كأحشاء حبلى. القذيفة سقطت مكان القذيفة التي أصابته قبل ثلاثين سنة. كنت وقتها في السنة الأولى لمجيئي إلى الدنيا. لم تنفجر القذيفة لكنها أوقعت علينا أحجاراً كبيرة. كنا ننام أنا وأخوتي وأخواتي العشرة وأمي وأبي في هذه الغرفة. لم يُصب أحد. نجونا بمعجزتين: الأولى عدم انفجار القذيفة والثانية عدم موتنا بالأحجار. ناظراً من السقف الذي وقع نصفه أقول ممازحاً نفسي: القذيفة التي وقعت قبل ثلاثين سنة انفجرت الآن. في هذا البيت حُوصر أهلي سبعة أيام: أبي جالس تحت قنطرة السقف يتمتم قرآنه الخاص. أبي الذي كان يفاخر بأنه أول من يهرب في الحرب، حرمه الإسرائيليون هذه المرة من هذا الفخر. أمي التي سلّمت أمرها لله منذ زمن بعيد تسقي النباتات بوجه مطمئن. أخي الأكبر لا يُظهر الخوف في أصعب الظروف. الأخت الكبرى ما زالت خائفة حتى الآن. أختي الأخرى أكثر تماسكاً. ابنة أخي تنهار في اليوم الأخير، يرفعونها فترتخي بين أيديهم كجسم سُحبت منه العظام. جارنا يصرخ: أريد أن أموت على الطريق. جارتنا تقول: إفتحوا القرآن على سورة "الحديد". الرجل التسعيني الآخر ظلَّ يسير في الطرقات مطلقاً شتائمه. أخيراً وجدوه ميتاً من الجوع. قافزاً على كل ذلك الرعب، أعود من حيث أتيت. كنت أمشي مطروداً بالذكريات التي أودعتها تلك الأمكنة التي ذهبت. هنا جارنا المجنون الذي كان ينهرنا بعصاه. وهذا المدمّر سقف بيته الذي كنت أقفز عنه حين نظر إلي فوقعت عن السطح وكسرت يدي. لم يعد هناك سطح يكسر يدي. وهنا كانت المدرسة التي هربت منها سنتين. وهذا بيت العجوز الطرشاء التي كانت تستعيد سمعها فقط عندما نسخر منها بأغانينا الوقحة. وفي هذه النزلة كانت تمشي المرأة المجنونة التي تتكلم طوال الوقت مع رجال الجن شاتمة ومترجية. وهذه البركة التي ظنها سكان البلدة أنها بحرهم الخاص. بدت وسط هذا الدمار مجرد عين مفتوحة على السماء. وهنا قرب هذا الحائط المدمّر كنت أنتظر حتى الليل أن يعيدني أبي إلى البيت بعد هربي طوال النهار من المدرسة والأم. وهنا أشعلت أول سيكارة في حياتي. وهنا المقبرة التي "صارت مدينة". وهنا كانت بنت جبيل التي أغادرها الآن والى الأبد. لقد تركنا البلدة مرات كثيرة. والآن جاء دورها لتتركنا.

ملحق النهار الثقافي
17 أيلول 2006


إقرأ أيضاً:-