أيسر السُبُل إلى إلغاء الدولة، أن تجعلها (ولك آلاف مؤلفة من المؤيدين) مارقة.
أيسر السبُل أن تستقوي عليها، خاصّة إذا يُسِّر لك، من قبل الدولة، والجيش الذي تمرّس على بطولتك أنتَ، غافلاً بطولته، ومن قبل الدولة الوصيّة عليك، أن تكون مارقاً.
غير أنّ أصعب السبل إلى امتداحها يكمن في أن تبقي تدبيرها المعلّق ذريعة لاستمرار سعيك وراء أن تكون (أن تبقى) الدولةَ رهينة معيارك السياسيّ، وبذلك تجعلها مارقة.
ما هو السبيل لأن تغدو مارقاً؟
أن تؤمن أولاً بأن السيادة التي تكفل عيشَك الكريم الحرّ في بلدك هي سيادة مطلقة (أرضاً وجواً وبحراً وعِرضاً وقراراً ومزاجاً وحَمقاً).
وأن تؤمن بهذا النوع من السيادة الذي ما عاد موجوداً اليوم ولا يطبّق إلاّ من قبل أميركا بوش، لأنّك تعزو فوزك بها إلى القدرة، كليّة أو جزئيّة، في جعلِ كلّ أرض، بما في ذلك أرضك، خراباً.
أن تؤمن كلّ الإيمان بقوّتك؛ وأن تقوّي إيمانك هذا بها باستعراضها على الدوام مواكبَ وجوقات ومجسّماتٍ وخطباً رنّانة. ليقينك أنّ القوّة تحتاج إلى مَن يخشاها، ولعلمِك أنّ الخشية منها تزداد بازديادها.
والقوّة حاجةٌ لأنّ في المعيار السياسيّ المُضمَر إمّا أن يكون السوى عدواً وإمّا أن يكون صديقاً. والعدوّ ليس المضاهي أو المنافس أو الخصم، بل هو ذريعة اجتماع القوم (وهنا نقصد قومك) على قضيّة أو عصبيّة. والصديقُ ليس المؤازر أو المؤيّد أو الموالي أو المرحّب معترِفاً، بل من يُظهر استعداداً للمخاطرة بحياته في سبيلك.
معيار يُنسَب بأية حال إلى كارل شميت.
وقد يُنسَب أيضاً في التطبيق العمليّ، ولكن من دون سَبْقٍ، إلى مزاولي السياسة بمعيارٍ إلهيّ. أي معيار إلهيّ؛ كما قد يُنسَب إلى أصوليات وإلى عصبيّات كلّيانية.
ما من سبيلٍ واحد إلى أن تغدو مارقاً، بل سُبُل وقد يكون أبرزها:
ألاّ تكفّ، وأنت القادر، عن امتداح قوّتك، حقيقة كانت أم افتراضاً، وأن تصدّق، في معرض امتداحك قوّتك، أنّها غالبة لا محالة فلا غالب لها.
ألاّ تكفّ عن التذكير باعتراف خصمك بقوّتك.
ألاّ تكفّ عن اتهام الخصم، وعن تقويض صفته خصماً لكَ أو منافِساً أو مزاحماً في صراعٍ قد لا يكون متكافئاً (ولصالح أحد الطرفين حتماً) لكنّه مشروعٌ بالتأكيد.
اتهامك الآخر في "أخلاقيّات" خوض الصراع يُحيل المنافس لا إلى خصم بل إلى عدوّ. فيُحذَف إذاً من مشروعيّة الصراع الأهليّ، السياسيّ، ويُعامَل بحسب ما تقتضيه معايير الحرب أو المنازلات (أو الجهاد).
معيار حرب.
أن تكون قويّاً ومعتدّاً بقوّتك.
أن تكون قويّاً بالفعل، أو أن تكون أقوى في الاعتقاد.
أن تكون قوياً لا مُستَضعفاً.
أن تستضعِفَ لأنّ قوّتك تجعل استضعاف الآخر في متناولك. لا أن تقدر على الأمر لأنه متعيّن عليك وواجب، بل أن توجِبَ أنت الأمر وتعيّنه لأنّك قادرٌ عليه.
أخلاق السياسة، ولكن معكوسة.
كُل واشرب واطعم ودبّر شؤون حياتك وحياة من أوكلوا مصيرهم لقوّتك، بمشيئتكَ أنتَ التي لا تأتمرُ بمشيئة أخرى أو ترضخ لها. كُن السيّد المطلق على سيادة مطلقة تظلّل مشيئة مطلقة.
ففي المُطلَق تكون أنت المارق إطلاقاً.
كُنْ كما تريد وكيفما تريد: فريداً، متفرّداً، صاحب رؤيا أو صاحب خطّة أو صاحب حلمٍ يُبدّد ما عداه؛ أو كُنْ الحرّ المتصرّف الآمر الناهي الباتّ الحاسم العصيّ المقاوم الممانع المقرّر الرّاعي الواعد الوفيّ (حتّى لأخطائه) المخلِص (حتّى لقيوده) المبشّر المتوعّد الضامنُ الكفيل الوكيل الوليّ المتولّي القادر القدير الصادق الأمير المُنتظّر الموعود الحافظ الحارس قدوة الدنيا وحارس الجنّة؛ أو كُن الصائب المستقيم النظيف الباذل المُضحّي الشهيد العَلَم العليم المعصوم (محيلُ الخطأ صواباً)؛
كُن هذه كلّها، في الحياة والسياسة، وأنتَ إنسان تبلغ مقاماً قد يكون هو الأقرب إلى المروق.
لعصور سحيقة، ولكن طويلة جداً، كانت تسمّى "ليل العالم"، بقي المقدّس مقدّساً بالأضحيات. وبقي ما بقيت الأضحيات. ثمّ زال المقدّس عن الحجر والبشر. ونجت الأضحيات من اسمها ومصيرها.
"بالروح بالدم". أو "لبّيكَ...". أو "الموت لـ ..".
هتاف الدم. هتاف الموت.
ولعلّه أكثر ما يليق بديموقراطيّة توافقيّة تُكتَب أصولها اليوم. أصولها، بلى. لأنّها تسمية حديثة لمبدأ قديم جداً سابق للحريّات الفرديّة والعامّة، هو مبدأ الإجماع.
كيف تقوم ديموقراطيّة على إجماع؟
وهل تختلف (لا) ديموقراطيّة التوافق عن (لا) ديموقراطية الإجماع؟
لعلّها ديموقراطية المساواة من دون حريّة.
المساواة في الفقر وفي القهر.
ديموقراطيّة التكافؤ بين الأغلبيّة والأقليّة.
كيف يستقيم هذا التكافؤ حقّاً في ذهن الناخب الذي أجرى اختياره وفازَ سياسياً لكي يتولّى إدارة البلاد لفترةٍ من الزمن. لكي يطبّق مشروعَه. وعلى أساس التطبيق والمشروع يُكافأ أو يُعاقب في الانتخابات التالية؟
الأغلبية فازت ولم تَغلب. وقد تخسر من دون أن تُغلَب. لذلك ربّما من الأجدى أن نسميّها من الآن فصاعداً أكثريّة.
أما الطعن في صحّة "أكثريّتها" فأمرٌ لم يستحدثه أقلّيون لبنانيون، بل يرقى إلى أساس النظم الديموقراطيّة التي طبّقت فعلاً وقيض لها أن تبقى.
في جميع بلدان العالم تبقى الأقليّة مقتنعةً بأنها تمثّل الأكثريّة. لماذا؟ لأنّها غالباً ما تضيف إلى رصيدها تمثيل الأعداد التي أحجمت عن الاقتراع، التي امتنعت عن التصويت. وغالباً ما تصدّق زعمها بأنّها تمثّل مَن لم يجد ممثلاً يستحق منه عناء الذهاب إلى صندوق الاقتراع.
ثمّ إنّ الأقليّة أكثريّة حتماً لأنها "معارضة"، أي خارج السلطة، والناسُ، بطبيعة الحال، معارضون، لأنّ السواد الأعظم من الناس خارج السلطة، بحصر المعنى، وهي حالُ السواد الأعظم من الموالين.
والأقليّة أكثريّة لأنّها تستخدمُ حقّها القانوني في الاجتماع وإنشاء الروابط والاتحادات والجمعيّات. فإذا كان معيار الأكثر والأقل هو العدد، فإنّ العدد الظاهر في اجتماع يدلّل على أكثريّته. لأنّ كلّ اجتماع هو أكثر. كلّ اجتماع هو أكثريّ.
الناس إذا ساروا أو أقاموا عفواً في ساحةٍ أو ميدان، ومهما بلغ عددهم، ليسوا أكثر أو أقلّ. هم أناسٌ وحسب. أمّا الحشدُ في ساحة أو ميدان، فهو بالتأكيد أكثر. لأنّ الحشدَ يحيل الناسَ ذوي السير الفرديّة والمساعي المتفرقّة، إلى كتلةٍ بارزة الثقل.
والأرجح أن الحشد يتألّف، في جزء لا يُستهان به، من أناس لا يُعطيهم القانون الحقّ في الاقتراع، أو لم يبلغوا بعد السنّ الذي تخوّلهم الاقتراع.
كلّ أقليّة هي أكثريّة بهذا المعنى. والأقلّيون سياسياً لا يرون في أفقِ التمثيل السياسي المفتوح إلاّ هذا المعنى.
والأقليّة أكثريّة لنوازع نفسيّة معقّدة، منها الاعتقاد بأنّ الناخبين مخدوعون أو مرتشون أو متآمرون أو أغبياء لا يقيمون وزناً لمصالحهم الحقيقيّة. باعتبار أنّ الأقليّة أقليّة فقط لأنّ ناخبيها هم من الفئة المنزّهة (النظيفة) التي لا صلة لها بالفئة السالفة الذكر. ومنها أيضاً الاعتقاد بأنّ الاعتراض هو خبز الناس اليومي، وأن ما يصبو الناس إليه كلّ صباح هو أن ينزلوا إلى الشارِع مجدّدين الولاء لمحرّريهم ومخلصّيهم وأولياء نعمتهم.
والأقلّية أكثريّة لأنّها تشعر بأنها ليست معنيّة بالمؤسّسات التي تطمح بالاستيلاء عليها ما بقيت المؤسّسات خارج سيطرتها هي. الأقليّة طليقة اليدين وليس من النادر أن تجعل الحيلة أو الابتزاز فنّاً مستحدثاً من فنون الديموقراطيّة. ناهيك عن التهديد. والإصبع المشهورة. والصراخ. والشتيمة. وفبركة التهم. والنعوت. والسوقيّة التي ترى كلّ أقليّة سياسيّة أنّها لغة شعبية، أو أنّها "اللغة الشعبيّة" التي يفهمها الناس.
ثمّ إنّ الأقلّية لا تحتاج إلى الأكثريّة لعقد أي تسوية. الأقلّية منتصرة. ولها مواردها. ولها تنظيمها (التيّارات والروابط والجمعيّات والأحزاب) ولها فانوسها السحريّ الذي يجعل الردّ على الابتزاز إجراءً "غير ميثاقي"، أي باطلاً، ولو كان دستورياً. وبالعكس.
فانوسها السحريّ هذا ابتكر، في غضون الأسابيع الخمسة أو الستة المنصرمة، قاموساً من المفردات سارياً على الألسن يتردّد حتّى في صبحيات ربّات المنازل وفي المقاهي وفي المدارس ولا ندري إذا نجت منه حضانات الأطفال لأنّ الكلام ليس سائراً فيها.
الأقلّية هي الحقّ والموالاة هي الباطل. جاء مثل هذا القول المأثور على لسان مواطنة من النبطيّة اتصلت بإحدى محطات تلفزة الجهاد صارخة بحماسة: "خَلَص بقا، مبيّن إنّو هنّي الباطل..."، هنّي، أي هم، تعني حكومة السيّد فؤاد السنيورة وحركة 14 آذار.
الأقلّية هي الجوع والأكواخ (أين في الرابية؟) والأكثريّة هي التخمة والقصور. جاء عقد المقارنة على لسان أحد خطباء ساحة الاعتصام (ساحة رياض الصلح)، الذي بقي في نظر السواد الأعظم من اللبنانيين أو اللبنانيين عامةً، خطيباً مجهولاً، عندما صاح قائلاً: "بين تخمتكم وجوعنا، بين قصوركم وأكواخنا".
الأقلّية تمثّل بيروت كما كانت، والأكثريّة تمثّل بيروت التي "غيّروها"، عن لسان أحد خطباء تيّار المردة: "بيروت، نتعرّف إليك اليوم بعدما غيّروك". والحقّ أن القول ملتبس: هل يعني الخطيب أنّه يعرف بيروت دماراً وغيّرتها "سوليدير" ثم جاء الخطب "المارد" ليعيدها إلى ما كانت عليه كما عرفها؟ لا أدري.
الأقلّية (السياسيّة) هي التحرير والأكثريّة هي الاحتلال. كلامٌ لأحد خطباء حزب الله؟ طبعاً لا. بل لخطيب من التيّار العوني الذي ردّد قائلاً إنّ التيّار العوني أخرج سوريا وإسرائيل من لبنان. (حسناً إذاً، متى يُكمل فضلَه علينا ويُخرجنا، نحن اللبنانيين، من لبنان؟)
طبعاً في صفوف الأقلّية السياسيّة الحالية بعثيون وسوريون قوميون وشيوعيو خالد حدادة وناصريو كمال شاتيلا وغيرهم.. غير أنّ هؤلاء لا يحتاجون حتّى إلى الاعتقاد بأنّ الأقلّية أكثريّة، فالأكثر الأكثر، على ما تدعو عقائدهم، مجسّد بالزعيم. والزعيم لا يرتضي لدوام حكمه إلاّ الإجماع، مهما كان الثمن.
المستقبل
الاحد 14 كانون الثاني 2007
إقرأ أيضاً: