بسام حجّار
(لبنان)

1

كان أبي دركياً.
تقاعد في سنّ مبكرة (أي عقب عشرين سنة من الخدمة وكان لا يزال فتياً) لا لسببٍ عمليّ، بل لأنّ "الدركيّ، كما قال، فقد هيبته".
كان ذلك في أواخر الستينات. وأعتقد عقب اتفاق القاهرة.
عشرون سنة من الخدمة أعطت أبي الحقّ في رتبة رقيب.
لم يكن أمّياً.
كان يجيد القراءة والكتابة أفضل منّا.
ولذلك علّمنا.
حاز رتبة رقيب وكان راضياً، فخوراً بها.

صورته التي أرهق المصوّر نفسَه في تحسينها، لكي تكون لائقةً برقيب في الدرك ببزّته الرسمية، ما زالت عندي؛
لم أعلّقها على جدار.
لم أحتفِ بها.
لأنني، إن أردتم الصدق، لم أكن في صبايَ، أي منذ دهرٍ من السنوات والأحداث والكوارث، مؤمناً بهذا البلد الذي كنتُ أشارك خلسةً، وفي السرّ من أبي، في تقويضه.

كنت أعتقد أنّه هدر حياته في تعليمنا نحن أبناءه الكثر، أمراً واحداً: احترام القانون.
ولو كان القانون ليس عادلاً.
علّمنا، وهو الحائز، بفخر، على "السرتفيكا"، أنّ العدل والقانون ليسا أمراً واحداً. وأنّ العدل قد يبلغه المرء في السماء. إذا كانت هناك سماء.
أمّا القانون فهو الذي يتيح لنا، وإن لم يكن عادلاً، أن نعيش جماعاتٍ مختلفة، متناحرة، متناقضة، ولكن معاً.
كان أبي الدركيّ مؤمناً بالعيش معاً. ولذلك كان مؤمناً بالدولة.
الدولة.
بلى.
قد يكون اللفظ غريباً اليوم.
ما هي الدولة إذا نلتُ أنا من جهة أو جهاتٍ لا يعرفها أحدٌ، "رخصةً" بأنني مقاوم. أي مقاتلٌ جيّد. لا يخيفني الانتحار؟
إلى جانب المقاومة. والجهاد. ومقاومة المشروع الأميركي. أو الغربي. أو الفرنسيّ. أو أياً يَكُنْ... أو أياً يَكَنْ؟

2

كنت أعتقد أنّ الدولة ظالمة، وأنّ أبي، لأنّه من مأموري الدولة، لا يليقُ بي.
كنتُ أكره الدولة.
وكان يحب الدولة.
وكان أبي يحبّها.
ولم يوفّق في الحفاظ على صورتها.
فاستقال.
تقاعد باكراً من الوظيفة، ومن قناعته، ومن الحياة أيضاً.
عملَ في السنوات الأخيرة من حياته موظّف بنك، ثمّ سمساراً عقارياً، ثمّ مات.
ربّما في آخر حياته كفّ أبي عن إيمانه بالقانون.
ثلاثون عاماً ربّما عشناها معه وهو يسرد، بتحفّظ، على مسامعنا، أهميّة أن يكون واحدنا ملتزماً بالقانون.
أبي رجل نعذره الآن. وهو ميتٌ. منذ سبعة عشر عاماً.
ومنذ سبعة عشر عاماً يُقنعنا أصحاب حقوق لا ندري ما هي، بأنّ القانون ليس الضامن لحياة البشر وأمنهم بل المربّعات الأمنية.
وأقنعوني ولأنني ساذج أصدّق أنّهم بنوا الدولة داخل الدولة في معرض مقاومتهم إسرائيل.
هذا قبل الحديث المطوّل عن الحقّ في تعطيل الدولة.
وجعل الدولة مشجباً لمشاريع قد يكون أحدها التشريع لمربّعاتٍ أمنية هي على النحو الآتي:
مربّعات أمنية لحزب الله. لأنّ مجلس شوراه ونوابه وقياداته من الصفوف كافة وكوادره في خطر محدق، طبعاً.
مربّع أمني لميشال عون.
مربّع أمني لوئام وهاب.
مربّع أمني لناصر قنديل.
مربّع أمني لطلال أرسلان.
مربّع أمني لعلي قانصوه.
مربّع أمني لشقيق ناصر قنديل، العضو في المجلس الأعلى للإعلام.
مربّع أمنيّ للعميد المتقاعد أمين حطيط.
مربّع أمني لدكاترة الجامعة الذين أصبحوا اليوم مختّصين في الشؤون الاستراتيجية والقانونية والذين عيّنوا أساتذةً بفضلِ حارس المجلس التشريعي وسواه.
مربّع أمني للوزراء المستقيلين، السابقين والحاليين في وقت معاً.
ومربّعات أمنية لأنصار هؤلاء. في ساحة رياض الصلح. وفي ساحة الشهداء. وفي عيشنا اليومي. وفي تنقّلنا اليومي. وفي مخيّلاتنا.
ومربّع أمني أخير، في بلدنا، لمهاجر غير شرعيّ، لا يملك أوراقاً، غير أنّه يملك تغطية تلفزيون المنار "وشرعيته المقاومة"، يُدعى أنور رجا.
ويحدّثنا كلّ يوم عبرها.
وينصحنا.
ويهدّدنا.
هو الذي كان أبي، الرقيب في الدرك، ليوقفه على الحدود، منذ خمسين عاماً.

3

الدولة في رئاسة الجمهورية.
الدولة في الحكومة.
الدولة في مجلس النواب.
في المجلس الدستوري. في مجلس القضاء. في أجهزة الأمن. في الجيش.
غير أنّ حقيقة الدولة، لمن لا يدري من المغفّلين، هي في "المربّع الأمني". في المربّعات الأمنية، وأصبحت اليوم كثيرة، حتّى أن دوريات الدرك تعتقل وتجرّد من سلاحها ومركباتها، لا بل وتُقتاد للتحقيق معها.
كان الرقيبُ في الدرك الذي هو أبي ليقضيَ غيظاً.
الآن أحمد الله أنّه توفي. أحمد الله أنّه توفي قبل سنوات، لكي لا يرى اليوم، ما آلت إليه المؤسّسة التي طالما كان فخوراً بها. لا بل مزهواً بها.
لسائق السيّارة ماذا نقول؟ إذا أوقفك الدركيّ لا تمتثل. وإذا كنت تمتلك سلاحاً اعتقله. وسُقه إلى التحقيق. ثمّ افرج عنه عقب تدخّلات سياسية.
لِمَ؟
لأنّك مقاوم.
أو الأحرى لأنّك تنتمي إلى حزبٍ جعل المقاومة خروجاً على القانون.
جعل المقاومة مبادئ، واضحةً وجليةً وعمليةً، للمروق.
وبعد الخروج على الدولة، ربّما، في وقت لاحق، تكفير الدولة.
يستطيع أي "عقيدٍ طيّار" كشاكر العبسي (ولا أحد منّا يعلم من أعطاه الرتبة أو رخصة الطيران) أن يقتل من قوى الشرعيّة اللبنانية (الجيش) العشرات، وأن يتسبّب بجرح المئات منهم. وأن يسعى إسلاميون، بتغطية مقاومين، إلى إيجاد حلّ سياسيّ للمشكلة.
أولاً هذه ليست مشكلة. هذه جريمة.
وثانياً لا حلّ لسلاح أحد أو فريق أو جهة، إلاّ بتسليمه كاملاً. والتحوّل، إذا كان نزع السلاح يتيح التحوّل، إلى قوّة سياسية "لبنانية".
كان أبي الرقيب في الدرك اللبناني ليصرّ على شروط مماثلة. وما كان ليعترف بوساطة أبو فلان من الجهاد الإسلامي، أو الشيخ كذا من رابطة علماء فلسطين، وما كان بالتأكيد ليخشى خشية الداعية فتحي يكن من أن تكون "فتح الإسلام" قد أصبحت تحت قيادة "القاعدة العالمية".
لا نفهم ما هي قيادة القاعدة العالمية؟ هل يعرف الداعية فتحي يكن؟ وإذا كان يعرف لِمَ لا يخبرنا؟
كان أبي، الرقيب المتقاعد في الدرك، ليغضبَ من وساطات "الجهاد الإسلامي"، وتوسّط "عصبة الأنصار"، وتصريحات مسؤولي "حماس" (في لبنان)، في سعيهم المستميت وراء بقاء لبنان، ساحةً لخروجهم على القانون، وعلى منطق الحقّ الدولي، وتعاطفهم (الوجداني) مع سلطة المخابرات السورية، ومع التمويل الإيراني الذي نكتشف اليوم أنّه يزوّد سوريا بسلاح متطور (من روسيا) بمليار دولار باتفاقية من دولة إلى دولة.
وكان أبي، الرقيب في الدرك، أن يغضب لأنّ بضعة ملايين من الدولارات هرّبت، سرّاً، في حقائب اسماعيل هنيّة لمؤازرة (انقلاب) حماس. وأن بضعة ملايين أخرى، سرّبت في حقائب، لتعويضات منكوبي الضاحية الجنوبية لبيروت آنذاك.
كان أبي، الرقيب المتقاعد في الدرك، ليغضب غضباً شديداً. وما كان ليحمل سلاحاً. أو يرمي قنبلة. أو يفخّخ سيّارة. معاذ الله.
كان ليحزن.
ويعتزل الحياة.
ويموت موتاً لشدّة حزنه.

4

لا أحد منّا يدري الآن كيف يواصل حياته فيما آلت إليه حالنا.
آخرون قد يعلمون. أنا شخصياً لا أدري.
لا أفهم الآن ماذا يقول السياسيون.
ولا أفقه شيئاً من فلسفة المقاومة، اليوم.
الغبيّ الذي هو أنا (وكثير من الناس مثلي أغبياء) لم يفهموا بعد لِمَ علينا، نحن اللبنانيين، أن نقف دائماً على الحافّة؛ وأن نختار، بعكس المتوقّع، القفز من فوق الحافّة إلى الهاوية.
الهاوية في نظر البعض هي الجنّة.
والهاوية في نظر البعض هي محلّ المساومة على القدر الأقل من الحياة.
والهاوية في نظر البعض، وأنا منهم، هي الجحيم.
منذ ثلاثين عاماً نعيش في حفرة. تحمّلناها. لم يتحمّلها البعض. والبعض تحايل عليها.
أمّا الهاوية، فمن لم يختبرها، ويأنسُ، ويطمئن، إليها، فعليه، بالسرعة القصوى، أن يستشير طبيباً نفسياً.
أو يستشير ملاكاً رحيماً. وهذا ما فعله كثيرون من اللبنانيين عقب "حروب التحرير" المتوالية التي أطلقها أوّل (اللاجئين إلى ملاذ آمن) الهاربين من عقباها.
الملاك الرحيم. قد يغفر. ربّما.

5

منذ شهرين أو أكثر، دعيتُ إلى مأتم قريبٍ لي في منطقة حاصبيا؛ مأتمٌ رسميّ أقيم لعسكري شاب كان من عداد الحرس الجمهوري، وقتل في معركة التحرير (13 تشرين المجيدة ـ وللملاحظة كلّ حروب العرب المجيدة في تشرين) التي شنّها الجنرال ميشال عون ضدّ السوريين، وضدّ الرئيس لحود، وضدّ الجميع.
أي منذ نحو عشرين سنة. وليصحّح أحد التواريخ لأنني لا أحفظها.
شاب في العشرين. عازب كان. لم يتزوّج. كان عسكرياً متحمّساً.
سلّمت لذويه عظامه التي قيل، نتيجة فحص الحمض النووي، إنّها له.
لم تصدّق مريم، امرأة خالي، وهو شقيقها، إنّه هو.
طوال عشرين عاماً أو أقلّ، كان الجنرال يعدّ زعامته في المنفى، وكانت جثّة قريبي في مكان ما لا أحد يعرفه.
خالي ميكال توفي قبل أن يستلم عظام الجندي في الحرس الجمهوري، يوسف الحاصباني،
خصوصاً أنّه كان يشاهد الجنرال كلّ يوم على شاشة التلفزيون مخاطباً اللبنانيين كأنّه الجنرال شارل ديغول.
شارل ديغول آخر هموم خالي ميكال، وامرأة خالي مريم.
كان همّهما أن يعرفا من الجنرال مصير يوسف.
الجيش كان حاضراً في التشييع. المطران. وحشد من أهالي المنطقة مسيحيين ودروزاً وسنة وشيعة. المحبّون. المتعاطفون طبعاً.
أنا لم أكن حاضراً بالطبع.
الحزن أكبر منّي دوماً.
وإذا كان الحزن أكبر منّي أكون غاضباً.
لا أدري لِمَ يدعوني الظلم إلى حزن، وإلى غضب.
كنتُ غاضباً وصبيانياً وسخيفاً.
وينبغي أن أستشير طبيباً نفسانياً.

لكن الجيش كان حاضراً.
ولم يكن حاضراً الجنرال (السابق) ميشال عون.
ربّما لأسباب أمنية.
فنحن نعلم جميعاً أن حياة الجنرال عزيزة عليه، وعزيزة علينا، وعزيزة على أهل الذين ماتوا لأجلِه قبل اللجوء بملاّلة، إلى السفارة الفرنسيّة. ومن ثمّ إلى المنفى "الماسيّ" الشاق، والمحزن، والظالم، الذي يذكّرنا به في كلّ إطلالة له، صهره القائد في تيّاره، جبران باسيل. كأنّ المنفى الطوعيّ الوفاقي الإجباري في فرنسا هو "حكايات الكوليما" لفارلام شالاموف، بَعيدُ الشبه والتشبيه.

6

لم يكن مقالاً. كان بوحاً على نحوٍ ما. في أمورٍ كنت أحرص على أنّها أمور شخصيّة.
فقط كنت أتذكّر والدي الدركي.
وقريبي في الحرس الجمهوري للجنرال السابق.
وأتذكّر آخرين كثراً حتّى لم يستعد أهلهم رفاتهم. بفضل الجنرال وغير الجنرال. وبفضلِ سكوتنا عمّا جرى.
على الأقلّ مريم، الحبيبة، لم تسكت.
وربّما هذا ما يجعلني قادراً على الاعتذار من أبيّ... الدركيّ.

المستقبل
الاحد 24 حزيران 2007
العدد 2653 - نوافذ