المقدمة:
كلّما قرأتُ لجمال الدّين بن الشّيخ، تَحْضُرني مشاهد من عرض شِعريّ، كان قد استلهمه من "مجنون إلزا" لأراغون، وقامَ بتصميمه وإخراجه، وقدّمه رفقة زوجته، السّيّدة كلودين جيني بن الشّيـخ، وأشخاص آخرين، في أحد أيّام مارس 2002 ، في قاعة "الأوديتوريوم" بمعهد العالم العربي بباريس.
كان بن الشّيخ قد تكفّل، في ذلك العَرْض، بإلقاء قصائد المَجنون، الذي «استقدمه» أراغون الشّاعر إلى غرناطة، والذي يجمع في شخصيّته بين قيس بن ذريح والشّاعر الفارسي جامي والأمير خسرو الدّهلوي.
كان جمال الدّين بن الشّيخ يُكِنّ لأراغون تقديرا خاصّا، وقد شارك في كتاب جماعي عنه يحمل عنوان: "أراغون، الحركة الدّائمة"، ( دار ستوك، باريس). ولم يكن أراغون وحده من اهتمّ به بن الشّيخ، بل كان هنالك، أيضا جان سيناك، ونيرودا، ومجنون ليلى، والعديد من شعراء العربية الآخرين. وكانت هنالك، بالطّبع، شهرزاد
وُلِد بن الشّيخ في الدّار البيضاء، بالمغرب، لعائلة جزائرية، تلمسانية الأصل، سنة 1930 . دَرَسَ في كُلّية الطّبّ بمدينة ليون سنتين، ثمّ انصرف إلى دراسة الأدب، وأصبح، بعدها، أستاذا للأدب العربي القروسطيّ في الجزائر ثمّ هاجر إلى فرنسا في أواخر ستينيات القرن الماضي، وهنالك اشتغل كباحث في المعهد الوطنيّ للبحث العِلميّ، ثمّ أصبح أستاذا في جامعة باريس الثّامنة، وبعدها في جامعة باريس الرّابعة.
وقد اشتهر بدراساته عن الشّعر والنّقد العربيين، ونشر في هذا النّطاق كتابا معروفا: "الشّعريّة العربيّة" ( غاليمار، 1998)، كما خصّ "ألف ليلة وليلة" بدراسة بعنوان: "ألف ليلة و ليلة أو القول الأسير" (غاليمار، 1988)، وأعاد ترجمتها رفقة أندري ميكال ( صدرت "ألف ليلة وليلة" في هذه التّرجمة عن سلسلة لا بلياد، غاليمار). وقدْ نقل إلى الفرنسية عددا من الأعمال لشعراء عرب معاصرين.
في مجال الشّعر، نشر عددا من المجموعات، من أهمّها: " كان الصّمتُ قد لاذ بالصّمت" (الرّباط، 1981)، " خيميائيات" (بويغرام، 1991)، "الأعمى ذو الوجه البَرَدِيّ" ( جاك بريمون، 1999) وله رواية اقتبس فضاءاتِها من عوالم ثورة الزّنج: " وردة سوداء بلا عِطر" (ستوك، 1998)
وقد توفّي في غشت (آب- اغسطس) 2008.
فيما يلي، بعضٌ من قصائده، مختارة من مجموعتين: " كان الصّمتُ قد لاذ بالصّمت"، و"الأعمى ذو الوجه البَرَدي".
مبارك وساط
القصائد:
1
لا أنسى شيئا
لا أنسى شيئا
أنا جاثٍ أمام باب مُفْرغ
الظلال التي تُفَتّشني هي المطوّقة بالعزلة
وليس أنا
حكمة الأغصان تعيدُ كتابة الأفق
لا يزال هناك
قليلٌ من الوقت يَجدر ربحُه
وشكلُ الصّداقة على شفتين
وضجّةُ برعمٍ تُوَسِّعُ النّهار
لا أنسى شيئا
الأشجار تُشير إلى الفجوة
التي يُمكن الانفلات عبرها
لكن يَجِبُ قطْفُ
العلامة المـخَـلِّـصة
الشّرارة تُفلحُ في إقلاعها
فلأمسك بالخيط الرّابح من بين الخيوط
المتشابكة وستنكشف حِـشْـمَة النّدى
المستورة
أحتفظ بـنـظرتك بأناتك
لأُحَصّل زادا قي طرقاتي
حيثُ تنعدم العدالة
عند الفجر ستُكَوِّرُ فجوةٌ في الغابة
صورةَ قَـمـرٍ
أضع يدي على ظلّك الذي يسبقك
أحسّ فيه خَفْق الولادات
لا أنسى شيئا
2
في الشّرفة السّعيدة
في الشّرفة السّعيدة تنقلب امرأة
على ظهرها
الضّوء ينطوي في هيئة عناقيد
بعيدة الغَور
اليوميّ يُحكمُ مطابقة نفسه على الحُلم
فيما ينابيع الجسد
تتجاوب
بين الأهداب تتأجّج
مفاجآتٌ
اعترافُ العُضو الجِنسيّ يصقُل الزّمن
يتدفّق الخمر من حدقة
مثلما قطعة نسيج مُخرّمةٍ
حول الرّسغ
ويُفرغ شلال نفسَه
من رَبيعه، بأناة
من مرجانٍ هو الفضاءُ بأكمله، قُرْبَ
الأفق
الكلمات تغسِل وجوهها اللامرئيّة
عِطرٌ يحرثُ شفقا، كفّ
تستبقي الليل
وفوق تموّجات نهد
يتهاوى فتات نجم
هرجا ثابتا، يَنضغطُ العالم
في راحة اليد
غدا أُوجَد
3
مدينة الآخرين
أسيرُ على امتدادِ هذا الشّارع النَّسَّاء. أمتصّ الكلمات المنتفخة
في لغة أجنبيّة. كلّ خطوة تقتلعني من جذر
ويداي تلامسان أحجارا من دون أصداء.
كلّ شيء يعيدُ تشكيلي و يفتُّ في كبريائي. نظراتٌ ملساء
تُرْبِكُني. لا شيء يَدل عليّ، كل شيء يُشير إليّ.
أتعلّم التّواضع من بلّورةٍ تُركتْ للأصابع،
أنفكّ من علاماتي. زائغا عن ذاتي،
مبعَدا عنها، مُدمَّـرَ القِلاع،
أعقد العزم على أن أكون واحِدا.
أتقدّم في مرآة يُلْهِبُها زَبَدٌ حيّ.
4
الرّيح تُشكّل
الرّيحُ تُشَكّل نَـايَـاتِـهَـا الأرجوانيّة
لا حَظّ لي في العَيش إلا بين ظواهر
سحريّة واقعية
أنجرف على نسوغ النّباتات
عند الغروب شلالاتٌ تفكّ إسار مجموعة أولى
من صخور الشاطئ الزرقاء
التي هي أوراق في غابة، أبدا
لن تَـنْـفَـد
أباغِتُ التّاريخ في كلّ وَمـضة تَـنْـزو
على السّماء
بالسّكين أخلّص في اللحاء أقنعةً
الحقيقة عجبٌ عُجاب
5
ذكرى
سأصقل بلساني ملح
جفونك الممزّقة
ستولد شمس من أهدابك
وعلى مهل أفكّ الطّحالب
من حول قدميك
فلا يبقى عالقا بهما
سوى ذكرى رقّة الزَّبَد
6
دكان
هنا، لِصفيح القُدور
بسمة عمياء
رصينة هي حركة البائع
التي تأسر السّماء بين الزّنجبيل والكمّون
أثمّة أمر يتطلّبُ الكياسة أكثر
من وزن أُوقِـيَّـة شاي
حين يكون النّعناع قد اكتسى بالقرمزيّ، لونِ الدّم
الذي تصاعدَ حتّى جفوننا. الفلفل الأخضر يمسك بأسنانه
دَ فّة القَدَر
7
يقظة
من أحمرَ ثرثار يولَدُ شكلٌ مُجدّدا
المستنقع تحت الجفون
يجعل السّماء أبعد غورا
وَالصّورةُ طَمْـأَنَـتْـهَـا
وُعودُ النّار
عمّا قريب سيُقال
إنّ سيولَ ماءٍ سريعةً تنبجس
من خواصرِ الكلمات
نسيانٌ سيّدٌ مبسوط، مثلما شرشف نقيّ
على سطح الأكاذيب
من كلّ رَعْنٍ مُتمسّك بالصّيف
تنبجس
قرابين الدّم
8
جَمال
أقتطعُ من النّهار ما أكسو به إنسانا
أُحْكِمُ مطابقة الأفق على وركيه
بالدّبابيس أشدّ إلى كتفيه
حِصّة من الفضاء تناسب بدقّة جسده
مُضَخّما جسدا و روحا
ينعتِقُ جماله
9
الفلاح الذّاهب إلى الحقل و في يده منجل
إنّه يُوجّه النّهار نحو الأعشاب
حيثُ انتقى الجليد خندقه
يُميلُ المساء نحو عزلةِ
فَرْعِ كرمة
يُبْقي نبتة الرّتَم على البعد الكافي
لتنفتح للرّيح منافذُ السّماء
10
من النّبع
أعلّق ضحكاتي إلى كعوبكنّ
يا فتيات يا بنات عمّي بِتَـغْـرَارتْ
وفيما عشيقتي تُشَمّر رداءها
على تخوم ليلها العموديّ
أشرب من النّبع
صورة عُرْيِها
11
أزيحُ أوراق شجرة لأحِبّك
على ساعدكِ بِلّورُ الرّيح
النّدى يشتعل على خِصْرِك
وفي اتّجاه قوسِ قُزَحِ نَبْعِك
ترْسُمُ أصابعُك، حالمةً
فمَ قرنفلة مستكين
بغتةً أنفذُ إلى نظرتك
أزيح أوراق شجرة
لأحِـبَّـك
12
أنهار
أنهار مديدة تنساب، ليليةً، على خصرك
13
منحتُ اسمك
منحتُ اسمكِ إلى الأبد لكلّ طفولة
14
طفل
قريبا من البحر بأقلّ من أريج
بدأ جسمُه يَسْهَرُ على الرّياح
فمه صار ابتِسامةً للزّبد
15
سعادة
الرّيح تعيدُ إلى القطيع
الآلام المائلة
ما يفصل قرميدة عن أخرى
هو قوّة المِلح
في قبضة الشّمس، لا يكون الانتحار
سوى تكرار
للحياة
لكنْ بين يدي الطّفل
تتعرّى السّعادة
16
العائلة المُقَدّسة
في عينَيْ شيخ يَموتُ جالسا
على أحد أرصفة بومباي•
ليس هنالك الأبديّة
هنالك ذباب
بين ذراعي امرأة تضحكُ جالسة
على رصيف بِبُومباي
ليس هنالك الحبّ
هنالك جنين
بين ساقي رجل يرتعشُ جالسا
على رصيف ببومباي
ليس هنالك الرّغبة
هنالك الجذام
في القبضة المنخورة لطفل جالس
ما يزال به حراك
على رصيف في بومباي
ليس هنالك السّماء
هنالك الخوف
في المرّة القادمة ربما يُسعِفهم الحظ
ليكونوا فئرانا
17
أمسِكُك
أمسككِ مثلما ذرّة لقاح
أو فتات تساقطَ من شجرة لوز
أدنى تسرّع يمكنه أن يصير شبيها
بِعَصفة ريح
فيَقذفَ بكِ نحو الفضاء
ويقودَ الصّديق الواهن القوى
نحو اسمكِ الجديد
إذن، أَثني أصابعي
فَتَخْتَفين في ليلي
بومباي: المدينة الهِنديّة المعروفة، و هي اليوم: مومباي (ه.م)
عن (كيكا)