ما أن تقع عيناي على اسم عناية جابر على صدر ديوان أو قطعة نثرية حتى أعرف أنني بصدد تلك الحال التي تملكتني حين قرأت ديوانها "ثم أنني مشغولة". حال الرهافة الآسرة. الكلمات العادية اليومية البسيطة التي لا تعرف معها من أين تنفذ السهامُ إلى صدرك. فتصدق أن قطرةَ الماء تذيب الصخرة التي يحتار فيها نصلُ الفأس. على أنها في ديوانها السابع "جميعُ أسبابِنا" الصادر مؤخرًا عن دار "شرقيات" بالقاهرة، تنهج نهجًا مغايرًا. إنه تجريب الشعراء الذي يأخذهم إلى مجاهل لا يعرفونها، لكنهم رغم ذلك يتوقون إليه ويسعون مثلما البطل الإغريقي القديم.
لطريق لا الوصول. ربما لأنها آمنت أن السمكة الميتة وحدها تسير مع التيار فاختارت أن تحيا. والتيار ليس بالضرورة يعني تيار "الآخر" الجمعي القار، بل الأصعب هو مخالفة تيار النفس. سيما إذا كان هجرانَ الشاعر أرضًا ضرب فيها حصنا وأثبت فيها نجاحا. والتجريب جرأةٌ تُحسب للشاعر في كل حال. لن تأخذك الحال ذاتها مع هذا الديوان الجديد. نعم، الرهافةُ ذاتُها هناك، والكلماتُ البسيطة العادية التي أثبتت دومًا أن عناية تمتطي اللغةَ ولم تسمح للّغةِ أن تمتطيها وتنسج خيوطَها العنكبوتية حول صوتها الشفيف فتخمده. لكن شيئا ما غاب برغم ذلك. الطاقةُ الحارقة التي تخترق روحك بعدما تنتهي من النص. سوى أن هذه الطاقة لم تغب عن الديوان بل تشظّت عبر نصوصه. وعليك كقارئ أن تجهد كي تلملم ذرّاتها وشذراتها من الفقرات ثم تبدأ في نسجها على مهل. تحوّل خيطُ الطاقةِ المستمر النافذ كالكهرباء إلى زخّاتٍ خفيفة تلسعك لجزء من الثانية، وتقف. على مستوى النص الواحد، غاب الحبل الحريريّ الرابط بين مفاصل الفقرات، الخيط الذي يجعل الخيمة تكتمل. فتجد نفسك أمام خيوط منتثرة هنا وهناك متابينة الطول واللون والملمس ما يكوّن في الأخير حفنةَ من نثار الحرير قد لا تصلح أن تصنع منها نسيجا متماسكًا، لكن جمالها يبقى في ذاتها وليس في وظيفتها. مجموعة من الصور الشعرية الجميلة هنا وهناك: "وينبت صوتٌ كصيحات الإوز- مثل بيضتيْن مهروقتيْن في صحن بورسلين/نترنح في وحدتنا- الغيمةُ البعيدةُ كلبةٌ بيضاءُ ترضعُ من أمها"، لكنها تظل صورًا شعرية منبتّة الهيكلة، ذاك أن المشهد الكليّ لن يكتمل أبدًا في نص واحد. قصيدة واحدة فيها عاود الشاعرةَ الحنينُ إلى مملكتها القديمة التي برعت فيها. مملكة الرهافة الآسرة التي تتعلق فيها الكلمات في عنقود لا تنفصم عراه. قصيدة "لحنٌ يُعزف بيد واحدة" حيث لم يهرب هذا النسغ الذي يدكك أوصالَ النص حتى ينضح بالشعرية، تقول: "أنتَ بيديكَ الفارغتيْن/ خطرٌ جدًّا عليّ/.../ تومئ لي/ تعاليْ؟/ أنا صغيرةٌ يا سيد/ ولا أجيد الحب/ تعالَ أنت/ متأملان معا في العتم/ اقطعوا هذا الليل/ كي نرى الفجر الفضي/.../ قل كلمة كي أصنع منها قصيدة/ وحيث أننا لن نتقابل ثانية/ فلا تقبلني/ لا نعقد الموضوع/ لا نلتقط الصور/ ولا نتذكر/ يأتي الصباح/ ونتحول حجارة/...".
على أن الديوان في مجمله يمتح، مضمونيًّا، من تيمة شعرية بامتياز: الحضور الغائب أو الغياب الحاضر. هو معالجة لحال انتظار أبديّ للذي لا يجيء. الحبيبُ الغائبُ فيزيقيًّا الحاضرُ وجوديًّا. البعيد الذي آلافُ الأميال تفصله عنا لكن حضورَه أكثف من حضور مجالسينا. "مع فارق الوقت بين أمريكا وبيروت/ الأرجح، أنت نائمٌ الآن/ مع إنك تنتصبُ في غرفتي كملاك.- أتجول بكنزة ضخمة وأعرف أنك هنا/ ثمة ذلك الحفيف الذي يدفئني/ أسمع لهاثكَ بين الغرزات الصوفية- إنكَ تنتشرُ في الكلمات/ وفي التنفس." إذن بوسع المرأة أن تستدعي الحبيب البعيد (رغم أنفه) مهما اتسعت الجغرافيا بينهما. وهذا دور الشعر والخيال. ذاك أن الفراق قرارٌ وليس حتما مقدورًا. التوحّد مع الحبيب حدّ أن ينمحي المكان. ألم يقل السري السقطي: لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر يا أنا. والوحدةُ غير الشعور بها. وحده الشاعر قادرٌ على أن يشعر بالوحدة وسط الجمع، كما بوسعه أن يخلق الصحبة في وحدته. فتقول: "إنني وحيدة/ ويختلف الأمر حين أشعر فعلا بوحدتي." وحدَه الشاعرُ يطوّع العالمَ على النحو الذي يريد. ولذلك تستحضر الذاتُ الشاعرة حبيبها الغائبَ لأن: "أن تكون معي يعني أن أملك فكرتي/ أن آخذك بأسناني/ أن لا يكون غيابك كرةَ معدنٍ ثقيل." وعلى النقيض من ذلك: "ثم إنه غيابَك/ الجلدُ الميت على القلب." ثم: "ليتني الآن في حضنك وحبيبتك/ كما الشجرةُ شجرةٌ/ والقمرُ قمر". كأن عناقَ الحبيبين هو منطقُ الأمور وسلامتها من أجل أن تُسمي الأشياءُ بأسمائها. كأن الحبيبين نصفان لو تعانقا لاكتمل الواحدُ الصحيح. شجرة. قمر. لهذا: "حين تغادر/ ليس الإحساس/ بل اليقين بأنني خُدعت." تنتظرُ الشاعرةُ نصفها الآخر، على أنها لن تخبرنا أبدا أيّ لون من الانتظار تنسجه له. أهو الانتظار المحِّب، مثل انتظار بانيلوب لعوليس؟ أم الانتظار الغامض، كالرفيقين لجودو؟ أم الانتظار الخائف، كالأثينيين للبرابرة، حسب كفافيس؟ أم الانتظار الواهم، كالكولونيل لخطاب بريدي؟ أم الانتظار الحُلم، كالبشرية للمخَلِّص؟ ذاك أنها تارة تعدُه بالحب والعناق، وتارة أخرى تتوعده بالتمزيق بالأسنان. ولذلك: "لمستُ رائحتَكَ ليلا/ مثل زوجة أب." لم تقل "مثل أم"، لأن تلك الرائحة تعذبها، تحبها وتحتاجها لكنها تحنق عليها أيضا. إنه الحب الملتبس الذي بين الضعف والشراسة، بين الشوق والتربص، وهو أرقى درجات الحب. ولذا طبيعيٌّ أن ينتصب على الغلاف ظلالُ امرأة تمتشق قوسا ورمحا وتشخص نحو الحبيب البعيد.
تلعب عناية على الصياغة اللغوية فتنحت طرائق جديدة للقول. فكثيرا ما نجد جملة اسمية من مبتدأ وخبر، حيث الخبر جملة فعلية. على أنها تفصل بين المبتدأ وخبره بحرف العطف (و)، فتتخلق شعرية من طريق كسر الإيقاع المعتاد: "جسدي ويتعبك في الخطوة- ليلةُ العشق ومكسوّة بطقمها الأسود." كذلك سنجد جملا مبتورة غير مكتملة المعنى. ومن قال إن الشعر معنى؟ إن هو إلا طاقةٌ لا مرئية تستهدف الروح وليس العقل والوعي وحسب. مثل: "لتأتِ/ بما أن الوقت." على أن عناية جابر تكمل في هذا الديوان "مسيرتها المِلْحِيّة" نحو تطويب الضعف الذي هو كلُّ قوة الأنثى. فنجد القصائد جلَّها تقول المجد للضعف: "ضعفي الرائعُ/ أنامني على باب بيتك." لنعرف في الأخير أن "جميعَ أسبابنا" ليست تلك الرائحة كما زعمت القصيدة، بل أنها جميعَها تدعونا لانتظار الحبيب الغائب، بكل ضعفنا. بكل شراستنا.
الحياة