حين حازت الروائية الفرنسية بول كونستان، جائزة «غونكور» العام ,1998 عن روايتها Confidence pour confidence)) جاء الأمر بمثابة «فضيحة» في الوسط الثقافي الفرنسي. لم تتناول التعليقات، على هذه الفضيحة يومها، مدى جودة الرواية أو مدى استحقاقها أن تكون بين الروايات الفائزة ذلك العام، وإنما شطّ الحديث إلى أمر آخر: لم تكن الرواية موجودة على أي لائحة من لوائح ترشيحات الجوائز المختلفة، لسبب بسيط وهو أن الرواية كانت قد صدرت في بداية ذلك العام، أي انها حُكمًا كانت خارج المنافسة، لأن الرواية التي تُرَشَّح لإحدى جوائز الخريف، عليها أن تكون صادرة في بداية الموسم الأدبي، أي أن تنتمي إلى الروايات التي تصدر مع بداية شهر أيلول من كل عام، عن مختلف دور النشر الفرنسية.
عند هذا الفارق الزمني، ما بين بداية العام وآخره، وجدت الصحافة مادة دسمة لشن حربها الدائمة على تقسيمات الجوائز الأدبية، لتعتبر أن الأمر بمثابة فضيحة إضافية، تضاف إلى لائحة الفضائح التي ترشح من أعضاء لجان التحكيم، المتهمة دائما بأنها تفضل الكتب الصادرة عن الدور التي تنشر لأعضائها. لا غرابة في الأمر، فكتاب كوستان هذا صادر ـ كما باقي كتبها ـ عن منشورات «غاليمار» التي لم تكن قد حازت أية جائزة «غونكور» قبل كونستان بعدة سنوات. من هنا، ربما، فضلّت «أكاديمية غونكور» أن تختار كتابا غير متوقع، ترضية لـ«غاليمار»، كما أن تختار كاتبا لم يكن موجودا، لحظتها، في العاصمة الفرنسية، أي انه بدوره لا يتوقع أن يكون كتابه بين الفائزين (كانت كونستان يومها في بيروت للمشاركة في «معرض الكتاب الفرنسي»، وما إن سمعت الخبر حتى قفلت عائدة إلى بلادها، متخليّة عن كل النشاطات التي كانت ستشارك فيها في العاصمة اللبنانية).
على كل حال، وبعيدا عن هذه التفاصيل الغارقة في فرنسيتها والتي تشير إلى بعض جوانب الحياة الثقافية الفرنسية، تتيح لنا المترجمة العراقية مي عبد الكريم محمود أن نقرأ اليوم، بالعربية، ترجمة لهذا الكتاب الذي تعطيه عنوان «لعبة البوح» والصادر عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، لنكتشف روائية إلى جانب كبير من الحضور الروائي وإن كانت لا تُشكّل طليعة الروائيين الذين يسمون المشهد الكتابي الفرنسي. أي ثمة كتّاب أكثر «احتراما» وأكثر تألقا وأكثر قدرة على صوغ عوالم تجد امتداداتها العميقة في الأدب المعاصر. لكن هل يعني هذا أن كونستان روائية عادية جدا؟
اللعبة الداخلية
تتيح لنا الترجمة العربية، وعلى الرغم من بعض هنّاتها القليلة في الواقع، بأن نكتشف عالما مختلفا، ربما لا يتقاطع بدوره مع قسم كبير من الروايات الفرنسية الراهنة التي تنحو عميقا إلى ما يُعرف بتيّار «التخييل الذاتي»، أي اننا هنا أمام رواية تبني عالما متماسكا، لتعمل عبره على رصد شخصيات و«كاركترات» تتحرك في هذا الفضاء المرسوم حولها، لتقدم لنا عملا، لا يقف عند حدود «الأنا» فقط، بل هو عمل يحاول أن يرسم «الآخر» و«الهو» و«الأنت»... أي نحن أمام رواية، كما نفهم كلمة رواية بالمعنى المتعارف، الشائع، وإن كنت لا أقصد بذلك أنها تنتمي إلى المفهوم الكلاسيكي الصرف، إذ ان «مونولوغاتها»، المتعددة والمتشابكة، تعطيها هذه «السمة الحديثة»، تعطيها هذه اللعبة الداخلية التي تقرّبها كثيرا من البوح، أي الانسحاب أكثر إلى أعماق الكائن البشري في جميع تجلياته.
البرودة اللاذعة
«لعبة البوح» هي الرواية الثامنة لبول كونستان وهي روائية وباحثة وأستاذة جامعية في جامعة «إكس ـ مارسيليا الثالثة»، وهي تقدم فيها ما يشبه المسرحية «الكوميدية» الممزوجة والمتماسكة جيدا. يبدأ كل شيء في أحد أيام الربيع. يوم مشرق على الرغم من البرودة الكبيرة التي كانت تلفه وتلقي بظلالها على كل شيء. نحن في «ميدلواي»، في «أوكسفورد» الصغيرة بمدينة «كنساس» الأميركية، داخل منزل حديث جدا، يبقى بابه مقفلا بواسطة «عقل» (نظام) الكتروني، يقع في مواجهة البراري وحيث ـ بعد الخروج من الكنيسة ـ كان بعض المعمدانيين يُسبّحون باسم المسيح الذي قام من الأموات. هذه التفاصيل هي التي تشكل «ديكور» رواية كونستان هذه. أي اننا، ومثلما يبدو، على النقيض من المناخات المدارية الخربة والتالفة، المناخات الكابوسية الرطبة، المريرة التي وجدناها في روايات سابقة لها، وبخاصة رواية «ابنة الحاكم». لكن وعلى الرغم من ذلك كله، نعود ونجد في روايتها هذه ذات العنوان «الوردي»، ذلك الميل إلى «مذاق الخراب»، إلى تلك القسوة اللاذعة، إلى تلك الاحتفائية بالأسود. كما أننا، ولا في أي مرة، وجدنا الروائية على هذا القدر من «الوحشية»، الاغتباطية، التي ترسم عبرها صورها الاجتماعية كي تكشف من خلالها «الجحيم الحميمي». كما أنها لم تكن يوما، على هذا القدر من «السخرية» الكوميدية. إذ ان «لعبة البوح» ليست في النهاية إلا هذه الكوميديا الشرسة، ذلك الترفيه الذي لا يرحم.
نحن أمام أربع نساء مجتمعات غداة مؤتمر في ميدلواي: غلوريا باتر (مؤسِسة برنامج «الدراسات النسوية»)، أورور أمير (روائية فرنسية)، لولا دول، (ممثلة نرويجية جاءت إلى الجامعة لتقرأ نصوص الكتاب المبرمجين في المنهج التعليمي)، وأخيرا بابيت كوهين (رئيسة قسم الآداب الأوروبية). كان عليهن في واقع الأمر، أن يحترمن بعضهن البعض، أن يساعدن بعضهن البعض، إلا أنهن لم يفعلن شيئا إلا مواجهة بعضهن البعض، لتستغل كلّ واحدة منهن، أبسط نقطة ضعف عند الأخرى حتى لا يتركن أي هامش، ولو كان واهيا، لأنفسهن، معبرات من خلال ذلك عن أدق لحظات غضبهن وقسوتهن، وما في ذلك إلى التعبير الحقيقي عن هذا اليأس الداخلي العميق الذي يتأصل في دواخل ذواتهن.
كأننا مع رواية كونستان، أمام تنويع آخر من مسرحية إبسن: «منـزل الدمية»، إلا أن المنزل هنا، يتحول إلى حلبة صراع. من هنا ينقل إلينا الكتاب «قرقعة» هذه «الزريبة»، هذه الطعنات المصوبة إلى قلوبهن حتى وإن امتلكت الروائية لباقة أن لا تنجر إلى سهولة مشهدية عمليات تصفيات الحساب أو بالأحرى إلى تلك المشهدية التي نراها في الملاكمة حيث يطرح الواحد الآخر بالضربة القاضية.
تأخذ بابيت على غلوريا أنها سوداء ومرتبكة في حبها المفرط لابنتها كريتال ذات البشرة الأفتح. أما غلوريا فتحاول أن تغلق على بابيت داخل دور يتلخص في أنها عنصرية لا تعرف الرحمة، وإن كانت هذه الأخيرة لا تتوقف عن الإعلان بأنها يسارية وتقف إلى جانب الشعوب الثائرة على الرغم من أنها لم تقبل يوماً استقلال الجزائر التي توجب عليها مغادرتها العام ,1962 لذلك لم تتوقف عن لعن النساء اللواتي شاركن في ما مضى في التحرير.
بيد أن ثمة عقدة أخرى تكمن وراء هذه الغيرة الكبيرة التي تجتاح الجميع: الكتابة والإبداع. كل واحدة منهن كانت تعتقد أنها ستؤلف كتابا كبيرا سيجلب لها الشهرة والمجد أي سيكون السبب بأن «تصبح ذات شأن اجتماعي».
رواية جميلة، تنجح فيها الكاتبة بأن تصور لنا هذا التدهور العاطفي لبطلاتها الغارقات في ماضيهن، هذا الماضي الذي لا ينفك عن العودة في كل لحظة ليشكل نقطة صراع لا تنتهي ما بين البشر حيث كل واحد يبحث عن معنى لوجوده.
السفير
20 فبراير 2007