في البداية كان المشروع يهدف إلى نشر سلسلة أدبية بعنوان "الأدب النسائي"، بإشراف مجموعة منتقاة من أبرز الناقدات والنقاد في العالم العربي، لكن بعد أن اتصلت بهم "دار قدمس" ثمة من أبدى حماسا للمشروع، واعدين بالمشاركة به، بينما أبدى آخرون دعماً معنوياً مع عدم الوعد بالعمل فيه. من هذه النقاشات التي دارت، بدا كأن هناك من انكفأ عن المضي في هذا المشروع، ما قاد الدار إلى توسيع فكرتها بضم كاتبات أجنبيات إلى سلسلتها عبر الترجمة.
لكن المشكلات لم تتوقف هنا، إذ يرى الناشر زياد منى أنه: "إضافة إلى ما سبق، جاءت مشكلة العثور على نصوص، عربية أو أجنبية، صالحة للنشر. وكذلك في العثور على مترجمين مناسبين، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بلغات غير سائدة عالميًا، مثل التركية والإيرانية والفنلندية والبلغارية . . إلخ".
المشكلة الأخرى التي واجهت الناشر ارتبطت بمسألة التقيد بمبدأ قراءة كل عمل قبل الموافقة على نشره حيث كان على الناشر الأصلي، أو الكاتبة، العثور على ترجمة لكتاباتها بلغة "أجنبية" يجيدها. لكن الناشر قبل في بعض الأحيان استبدال مقترحات خبراء موثوقين برأيه المباشر".
بعد أكثر من سنة على هذا الإعلان، تصدر "دار قدمس" (من مقريها في بيروت ودمشق) سلسلة أدبية بعنوان "ولادة" ترغب في أن تقدم صورة عن الأدب المكتوب "بلغة نسائية" إذا جاز التعبير اصطلاحا أي الأدب الذي تكتبه كاتبات فقط، وهو موزع ما بين الأدب الموضوع والأدب المترجم.
الهدف من هذا المشروع، وكما يقول الناشر: "تأسيس إطار نشر خاص للمبدعات، وخصوصا للمبدعات باللغة العربية، ووضع خبرة الدار، المتواضع، في مجال النشر والتوزيع، بخدمة ذلك الإبداع وصاحباته، من دون أن تتكلف أي منهن بأي مصاريف. فمن الأمور المتداولة، سرًا، وربما على نحو شبه علني، في عالم النشر، الخفي، أن معظم دور النشر العربية، وعلى رأسها الرائدة في مجال النشر، غالبًا ما تشترط مساهمة المؤلفة/ المؤلف في تحمل التكاليف، التي تصل أحيانًا إلى عشرة آلاف دولار أميركي. ويقول الناشر، إنه، وإن كان لا يعترض على ذلك من ناحية المبدأ، فإن عدم ذكر هذه الحقيقة في المؤلف يعني خداع القارئ الذي يظن أن دار النشر المعنية (المرموقة) قد تبنت العمل المنشور ما يوحي بمنحه مصداقية لدى القراء. "قدمس" تدخل "مغامرة أدبية" تضاف إلى المغامرة الثقافية الأصلية المتجلية بتأسيس الدار".
المجموعة الأولى، التي تنوي الدار إصدارها، تحوي أسماء كاتبات "أجنبيات" من مثل أنّا غافلدا وماري داريسك وفرِد فرغاس من فرنسا، وزلكه شويرمن ودورثويا ديكمن من ألمانيا، وآيفير طونتش وأليف شفق وأصلي أردوغان من تركيا، وشهرنوش بارسي بور من إيران، ولينا لاندر من فنلندا، وبيبي هالدار من الهند، إضافة إلى كاتبات من زمبابوي وبلغاريا والنروج والسويد...
أما قائمة المبدعات بالعربية فتضم كلاً من عائشة بنور من الجزائر، ومنال الشيخ وكلشان البياتي من العراق، ومن سوريا سوزان خواتمي ورواد إبراهيم ومنهل السراج، ومن فلسطين المحتلة حواء سكاس.
وقد بدأت الدار بنشر خمسة أعمال هي:
- أنّا غافلدا: "أود لو أن أحدًا ينتظرني في مكان ما" (قصص قصيرة/ ترجمة عن الفرنسية).
- ماري داريُسِك: "البلد" (رواية/ ترجمة عن الفرنسية).
- آيفير طونتش: "ستزوركم أمي إذا لم يكن عندكم مانع" (سيرة ذاتية، ترجمة عن التركية).
- رواد إبراهيم: "نافذة.. وبنت صغيرة تربط شريط حذائها على عجل" (قصص قصيرة).
- سوزان خواتمي: "قبلة خرساء/ صوت يصعد شجر الحكاية" (قصص قصيرة).
هنا عرض لكتابي أنا غافلدا وماري داريسك.
"لو أن أحداً ينتظرني"
في مجموعتها "أود لو أن أحداً ينتظرني في مكان ما" (ترجمة محمد صبح)، تستعير آنا غافلدا "مواد" قصصها من الواقع اليومي لتتحدث من خلالها عن حياتنا الراهنة والمعاصرة. تبدو شخصياتها، التي تتكلم بلغة كل يوم (اللغة عينها التي نسمعها في الشوارع، لا تلك التي نلتقي بها في الكتب)، قريبة منا، إذ نستمع عبرها إلى أحاديث من هم مثلنا وأصغر منا. أي بمعنى آخر تنقل كتابتها روح عصرنا التي ربما قد تصدم بعضنا قليلا، وذلك من خلال عبارات تتخلى عن أنواع المحرمات، عبر لغة غير متوترة، أي أنها فجة أحيانا، خام، تذهب مباشرة إلى الأساسي بدون خبث وبدون أن تبحث عن أي شكل من أشكال "الاستيتيكا". إنها الحياة التي تعطينا إياها الكاتبة كي نراها، هذه الحياة بكل ما تحمله من حنان وابتذال وعادية وتفاهة. قد لا يكون الفن سوى هذا الانعكاس، من هنا يعكس كتاب آنا غافلدا هذه الحياة التي نعرفها. ربما ليست حياتنا الخاصة، بل هذه الحياة التي أعطيت لنا والتي نراها كل يوم، أي حياة شبان اليوم.
إزاء ذلك كله، نلاحظ عبر أقاصيص آنا غافلدا، كيف تحيا هذه الشخصيات حياتها حيث الهاتف النقال و"اللابتوب" والمجيب الآلي وغيرها من سمات العصر، وقد أصبحت تشكل جزءا من الحياة وتُوقع (من إيقاع) عاداتنا اليومية. في أقاصيص غافلدا، نجد هذه الشريحة الشابة التي تبحث عن الانتفاع، التي تشعر بالضيق والتي لا تفكر بالغد. شريحة، تبدو نساؤها متحررات يتمتعن بحياة جنسية بدون عقبات مثلما يدخلن في لعبة الإغواء من دون أن يشعرن بأي نوع من أنواع الضغوطات. وإذا ما كانت الأمومة مغامرة ما، إلا أننا نجدها في قصص غافلدا وكأنها مغامرة متحكم بها عبر حبوب منع الحمل التي تتناولها بعض الشخصيات، من أجل الاستمرار "بلعبة الحب".
وعبر معرفتنا لهذه العلاقة بين الجسد ومتعته، نقع في قصص غافلدا على هذه الحاجة، التي تظهرها بطلاتها، في العثور على الحب والحنان. أي ثمة مشاعر إنسانية، لا تزال هي نفسها منذ بدء الخليقة. إنها مشاعر الشبيبة في أن يقعوا في الحب، تماماً كتلك الفتاة التي تقول لأختها بأن قلبها ككيس كبير فارغ يستطيع أن يحوي سوقاً بأكملها لكن ما من شيء داخله.
من هنا نجد هذه "الثيمة" التي تعود وتتكرر في قصص غافلدا: ثيمة الحب، الحب بجميع أوجهه، الحلم بالحب، الفقدان، النقص، غياب الحب، الحب الأمومي، الحب القديم، الرغبة... حتى عنوان الكتاب يبدو معبراً عن ذلك "أود لو أن أحدا ينتظرني..." وهو مستل من جملة من قصة "إجازة" التي تروي عن شاب في الثالثة والعشرين من عمره، يكون عائداً إلى منزله لعدة أيام في إجازة. طيلة الرحلة في القطار يكون مستغرقا في التفكير عما ستكون عليه عودته. حين وصل كانت العائلة تقيم له حفلا صغيرا بمناسبة عيد ميلاده، بينما اصطحب شقيقه صديقة له تدعى ماري. خلال السهرة يتنازعان عليها، يتراهنان من يكسب في لعبة "البيبي فوت" ستكون من نصيبه. ويخسر. وحين يخيم الصمت على المنزل وتطفأ الأنوار يجد نفسه وحيداً وعارياً وسط الغرفة وهو يغطي جسده بأوراق الهدايا.
ربما كان يحلم بالفوز، لا بالفتاة فقط، ولكن بهذا الحب الذي كان يحلم به، هو أيضا هذا الحلم الذي نجده في القصة الأولى "ممارسات أهل سان جيرمان"، حيث نجد فتاة جميلة، مهضومة، تحيا وتتأمل بأن تجد الحب الكبير. كانت رومنسية وشهوانية في الوقت عينه، تحب فرانسواز ساغان وبودلير. وذات يوم تلتقي في الشارع بشاب "يلبس كنزة ذات قبة عالية من الكشمير. كنزة قديمة..." فيدعوها إلى تناول العشاء في المطعم. كانت مستعدة لأن تذهب معه في المغامرة إلى أقصاها. على العشاء، يرن جرس هاتفه النقال، تغضب منه، ويزداد غضبها حين تراه يلقي نظرة سريعة على الرسالة التي وصلته. في تلك اللحظة ينقلب كل شيء في حياتها، تبدأ بكره ساغان وبودلير وكل هؤلاء الكاذبين الذين يعدون بالحب الكبير، كما تكره "عزة نفسها" التي جعلتها تترك الشاب بسبب عنادها.
على هذا المنوال تمضي قصص آنا غافلدا، وهي التي تعرف حالياً انتشاراً كبيراً في أوساط القراء الفرنسيين، لتبدو الكاتبة واحدة من أشهر كتّاب الجيل الجديد. ربما لأنها عرفت كيف ترسم صورة حقيقية، غير مصطنعة، عن العلاقات الجديدة التي يعيشها الإنسان المعاصر، وبالتحديد الجيل الشاب الذي تأتي هواجسه وطريقة عيشه بشكل مختلف عمّا كانت عليه هواجس الأجيال التي سبقته.
ربما لا تكتب آنا غافلدا هذا "الأدب الكبير" الذي نبحث عنه في الكتب، لكن لا نستطيع أن ننكر هذه المتعة التي نجدها في أقاصيصها، على الأقل نجحت في إعادة الاعتبار إلى القصة القصيرة التي يتجاهلها القراء عادة. متعة بسيطة، أشبه بهذه "المتع الصغيرة" التي تمرّ بنا في حياتنا ونتوقف عندها بالتأكيد، حتى وإن كنا نقنع أنفسنا بأن هناك ما هو أعظم منها. لكن هذا البسيط هو ما يحمل أكبر قدرة على سحرنا في كثير من الأحيان.
بلاد ماري داريُسك
إذا كان القارئ العربي يكتشف مع كتاب "أود لو أن أحداً..." كاتبة جديدة، فإنه يعود ليقرأ كتاباً جديداً للروائية الفرنسية ماري داريسك، إذ سبق للمترجمة كيتي سالم أن قدمت عام 2001 رواية "ولادة الأشباح" للمؤلفة عينها، صدرت عن دار شرقيات في القاهرة.
داريُسك بدورها، تعتبر اليوم، واحدة من أكثر الروائيات الفرنسيات الشابات شهرة، وقد بدأ نجاحها مع روايتها الأولى Truismes التي روت، في مناخ كفكاوي، عن سيرة تحول فتاة إلى "خنزيرة". مع روايتها الثانية التي نقلت إلى العربية، نحن أمام قصة عادية وبسيطة. ذات يوم يختفي رجل. كانت زوجته تنتظره، وبما أنها لم تستطع أن تحل لغز هذا الاختفاء، تبدأ بالبحث عنه. وفي رحلة البحث هذه ينفتح العالم أمامها لتكتشف بعض أسراره.
مع "البلد" نحن أمام أكثر روايات داريُسك طموحاً. نحن أمام زوجين شابين. كانت المرأة تنتظر طفلاً، لكنهما قررا في تلك اللحظة أن يغيرا مكان إقامتهما، أن يتركا باريس ليقيما في "البلد" الواقع ما بين البحر والجبال. هذا البلد الذي يشبه بلاد الباسك، مسقط رأسها، والتي هي مسقط رأس الكاتبة التي ولدت في "بايون" عام .1969
فترة الأمومة هذه كانت مناسبة لها لأن تعود إلى أصولها، إلى الأمكنة التي كانت مألوفة لديها في طفولتها. وأمام ذلك كله، نبدأ باكتشاف قصتها، قصة عائلتها، الخلافات العائلية... إزاء هذه التفاصيل تقودنا الكاتبة إلى خلفية تلك البلاد التي يسيطر عليها السأم. هي كتابة تقترب كثيرا من لعبة السأم هذه، أي تعرف داريُسك كيف تقول الأساسي عبر جملها المحددة التي تعرف كيف تجعل القارئ يحس بمتعتها.
وكما عادتها، نجد الروائية وهي تتأرجح بين احتمالين، بين فرضيتين، بين عالمين موجودين: الحضور والغياب. وهذا ما يجعل من كتبها ذات سمة خاصة بها في الأدب الفرنسي المعاصر. هذه السمة التي تقف ما بين الفراغ والامتلاء. نحن أمام عالمين إذاً، لكن الثاني هو أكثر ما يشعرنا بالقلق، لأن الغياب ليس محدداً، وليس مساوياً لذاته، بل إنه متعدد ويأتي مختلفاً في كل مرة، يأتي غريباً عن نفسه. من هنا "شجاعة" الكاتبة في سبر أغوار هذا الفضاء، في أن تسكنه في بعض الأحيان. هذه العملية هي التي تقودها لأن ترتبط بسكان هذا البلد، لأن تتعرف على "أشباحهم". تقول في المقطع الأخير من كتابها "هل تؤمنون بالأشباح، لقد وجبت الإجابة كذلك، بتعابير قياسية. كانت تؤمن بها من الصفر إلى العشرة، كان يتوقف ذلك على قلقها وعلى حزنها، كان يتوقف على الأوقات والبلاد، على الكتب والناس، على النهار أو على الليل... لا تطوف الأشباح في اليمبوس. لا توجد إلا في اللقاء. لا مكان لها إلا حين ظهورها. حين تختفي، تختفي كاملة. ليس لها حياة باطنية، لا حياة لها في أي مكان، ليس لها بعد نفسي أو ذاكرة..."، ربما ما تفعله داريُسك في كتابها بأسره، هو استعادة هذه الذاكرة الشبحية التي كانت تقودها من بعيد.
بعيداً عن روايتها الأولى، تأتي رواية البلد لتجسد أكثر من جميع كتبها، هذا "الانتصار" على فكرة الغياب. صحيح أننا لا ننجح في ذلك في نهاية الأمر، إلا أن الكتابة، هي التي تحاول ذلك.
ترسم رواية ماري داريُسك، "البلد"، جغرافية شخصية مليئة بالذكاء والصدق، مليئة بأخبار العائلة، العاطفية والغرامية. هي جغرافية تتأرجح بدورها ما بين الأحياء والموات، أي بين الحضور والغياب، من هنا دور الكتابة في وصل "هاتين الضفتين" ببعضهما البعض. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل من المهم أن نصل إلى إحدى هاتين الضفتين؟ ربما ليس من الضروري ذلك، لأن المهم في نهاية الأمر ان نسكن ذواتنا. هذا ما يبدو من مشروع داريُسك في هذا الكتاب، لقد عادت لتسكن نفسها، عبر الكتابة بالدرجة الأولى، عبر هذا التأمل في معنى الأشياء التي تحيط بنا ولا ننتبه لها إلا عند فقدانها.
السفير
5 – 1 –2007