غالبا ما تساءلنا ماذا نريد من الشعر، أو بمعنى آخر، لماذا نكتب الشعر. كثيرة هي الأجوبة التي أعطاها الشعراء عن تساؤلهم هذا. أجوبة، هي أيضا، متنوعة بتنوع الحياة التي نعيشها.. من هنا، ومهما حاولنا، فنحن لن نجد إجابة واحدة، إذ لكلّ شخص رؤيته ونظرته الخاصتين للحياة. ألا يمكننا بذلك تفسير استمرار هذا النشاط الكتابي والميل إليه، على الرغم من قدمه في التاريخ، وعلى الرغم من كل ما نقوله عن موت الشعر وانتهائه؟
إزاء هذه الزاوية العامة، يمكن للشعر أن يكون بمثابة تجربة حياتية خاصة، بمثابة رؤية تفترض بالتالي نوع كتابتها، من دون البحث عن أي مسوغات، أو أي منمقات أسلوبية. أي يمكن للشعر أن يأتي عاريا من كل الأساليب التي نعتقد أنها تقود القول إلى مراتب أخرى. يمكن له أن يأتي من أعمق أعماق الكائن ليذهب وحيدا وسط ضجيج العالم المحيط به. يأتي ليقيم في هذا الحيّز ما بين الروح و...الروح، ليؤسس حضوره وليُسمعنا كلماته.
بهذا المعنى تكتب سوزان تلحوق الشعر. تريد منه أن يكون صوتا داخليا يحمل إلى الخارج كل هواجسها وكل نظرتها إلى الحياة، أي أن يحمل كل تفاصيلها، الصغيرة منها، والكبيرة إذا جاز القول لتعلقها كلوحة أمام الآخرين، ليأتوا، لا فقط ليروها، بل ليسمعوا تنفس الألوان فيها، عندما تشيّد حضورها، الذي لا بد أن يترك عندنا حرقة ما، الذي لا بد أن يشدنا إلى هذه الروح التي لا تريد أن تبقى عالقة في مكان هلامي، بل أن تجد أرضا ثابتة، كي تقيها "خفة الكائن غير المحتملة".
بعد كتاب أول، صدر منذ سنوات قليلة وربما تعتبره الآن أنه كان بمثابة تمرين ما، إذ صح التعبير مارست فيه سوزان تلحوق "هوايتها" في إقامة هذه العلاقة بينها وبين الكلمات، وبين الكلمات وهذا الآخر، الذي هو نحن القراء، تعود الشاعرة اليوم، مع كتابها الثاني، أكثر حبّا إلى الكلمات التي غادرتها لفترة. مغادرة لم تكن نهائية، بل لنقل إنها كانت فسحة لتعيد تساؤلاتها التي أرقتها مرارا. فسحة للبحث عن مصدر آخر لقول الذات بكل انشطارها وبكل تفتتها، كي تعيد ترميمها وكي تعيد صوغها بكل هذه العذوبة التي تسيل منها.
شعر سوزان تلحوق يقيم على حافتين، بل لنقل إنه يقيم في عالمين، عالم غائب تحاول أن تستعيده، وعالم حاضر تحاول أن تكتبه كي لا تفقده، ليصبح نوعا من ذكرى تحاول الركض خلفها، وإعادتها إلى ما كانت عليه. وبين هاتين المحاولتين، ثمة مساحة لقول الوجع والألم والفقدان والانهيار، لكن أيضا ثمة مسافة لقول الحب والأمل والتماسك. إنه سحر الكلمات الذي يجعلنا نعتقد بأنها تستطيع بعد ما لا يستطيعه أي شيء آخر.
ما أكتبه في هذه "المقدمة"، ليس نقدا أدبيا بالتأكيد، بل هو محاولة للتساؤل مع الشاعرة حول جدوى الكلمات بعد، في زمن لا يريد أن يبقى شعريا، في زمن يدفعنا إلى الابتعاد عن معنى الكلمة في ظل ما يحيط بنا من موت وتعب وانهيار دائم. لكن هل فعلا نستطيع التخلي عن هذا الحلم الذي يدفعنا إلى الركض وراءه؟
ربما الكتابة بأسرها، ليست في نهاية الأمر، سوى هذا الحلم. ربما لأن الحياة بدورها ليست أيضا سوى حلم آخر. بهذا المعنى يجتمع الحلمان، على أرض واقعية جدا، هي الكتابة نفسها. أي هي هذا التناقض المستمر، هذا الذهاب والإياب، هذا الصعود والنزول. هي كل شيء، وفي الوقت نفسه ليست شيئا. وعلينا عندها أن نختار إلى أي جانب نريد أن ننحاز.
(*) المقدمة التي كتبها الزميل اسكندر حبش لديوان "لست امرأة واحدة" لسوزان تلحوق الصادر حديثا عن "دار الساقي"
24 ديسمبر 2008