أسمع ضجة هذه العظام ولا أشعر بالخوف ولا الرغبة
كأن «الحلم المتوسطي» في الوحدة، الذي تحدث عنه بعض السياسيين منذ سنين قليلة، لا يمكن أن يتحقق، إلا عبر الأدب، وعبر الشعر تحديدا. هكذا تبدو لي «الأنطولوجيا» الشعرية التي أصدرتها منشورات «غاليمار» مؤخرا بعنوان «شعراء المتوسط»، ضمن سلسلتها الشعرية «شعر / غاليمار».
حلم وحدة، لن يتحقق، على الأقل ما دام هناك كيان غاصب يحتل جزءا من أراضي المتوسط هذا، من هنا، تأتي هذه المختارات لتجمع، في من تجمع، العديد من التناقضات، السياسية بالطبع، ولكن أيضا الشعرية، إذ تتراوح مسارات الشعراء ومناخاتهم الكتابية، لتطل بنا، على هذه الدول التي تحيط بهذا البحر الذي عرف أقدم الحضارات. مناخات وأساليب، تشهد على تنوع القول الشعري، الذي يتراوح من «كلاسيكية» ما إلى معاصرة ما، وأقصد بذلك هذه الكتابة، التي لا تقف على نظرة واحدة للأمور. بالتأكيد، يشكل ذلك متعة قراءة، إذ متى كان الأدب، يقف على النقيض من التنوع؟ ليس الأدب، في النهاية، إلا هذه النظرات المختلفة التي تأتي لتخبرنا عن أعماق الكائن، عن انشطاراته وعن نظراته؟
تضم هذه المختارات قصائد لشعراء من اليونان، قبرص، تركيا، سوريا، لبنان، إسرائيل، مصر، تونس، ليبيا، الجزائر، المغرب، البرتغال، اسبانيا، فرنسا، إيطاليا، مالطة، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة، صربيا، الجبل الأسود (مونتينيغرو)، ألبانيا، مقدونيا. شعراء متنوعون، لا يقولون «أشياء غير طبيعية» عن هذا البحر المشترك بينهم، بل يحاولون قول واقعهم المتنوع والمتشظي، هذا الواقع الذي ورثوه من هذه الثقافة المتوسطية.
كل أنطولوجيا، تحمل بالتأكيد مفهومها الخاص، من هنا لا تشذّ هذه المختارات عن ذلك. صحيح أنه يمكن لنا أن نوجه إليها الكثير من الأسئلة والتساؤلات، عن خياراتها، كأن يستثنى مثلا محمود درويش من الشعر الفلسطيني لأنه غاب عن الوجود، بينما تحاول المختارات أن تقدم الشعراء الذين ما زالوا على قيد الحياة (فقط عفيفي مطر يرد اسمه إذ كان الكتاب قيد الطبع حين رحل)، وكأن الغياب المادي يقود بالضرورة إلى الغياب المعنوي. وهذا أمر صعب بالتأكيد. في أيّ حال، نستطيع في النهاية إلا أن نقرأ وأن نذهب في هذه الرحلة «الأوديسيه»، حيث ينقلنا هؤلاء «العوليسيون» في ملاحمهم الحديثة.
من الشعراء العرب الذين تم اختيارهم: شوقي بغدادي، أدونيس، نزيه أبو عفش (سوريا)، صلاح ستيتيه، أنسي الحاج، فينوس خوري – غاتا، عباس بيضون، عيسى مخلوف (لبنان)، طه محمد علي، وليد خازندار، غسان زقطان (فلسطين)، عبد الرحمن الأبنودي، أحمد عبد المعطي حجازي، محمد عفيفي مطر، عبد المنعم رمضان، إيمان مرسال (مصر)، محمد الفيتوري (ليبيا)، عبد الوهاب مؤدب، منصف اللعيبي، طاهر بكري، محمد الصغير أولاد أحمد (تونس)، حبيب طنغور، ربيعة الجلطي (الجزائر)، عبد اللطيف اللعبي، الطاهر بن جلون، محمد بنيس، محمد الأشعري، حسن نجمي (المغرب).
بالتأكيد سيثير هذا الخيار العديد من التساؤلات والنقاش، لكن هذه هي حال الانطولوجيات، التي يعدها أحيانا أشخاص لا يعرفون فعلا المشهد الشعري بأكمله، بل أسماء قليلة تتواتر من هنا ومن هناك.
من هذه المختارات، نقدم بعض الأصوات التالية.
تيتوس باتريكيوس (اليونان)
الجبال
بداية كان البحر.
ولدت محاطا بالجُزُر
أنا جزيرة ناتئة لزمن، كي أرى
النور، قاسيا مثل الحجرة
ومن ثم أغور.
جاءت الجبال لاحقا.
اخترتها.
كان يتوجب أن أتقاسم الثقل
الذي يسحق هذا البلد من عصور.
سيفنوس أو لعبة النرد
فصول طفولتي الصيفية
عشتها بين مكعبين.
فوق مكعب المنزل الأبيض
وتحت قدميّ الصهريج
مكعب غير مرئي ومليء بالليل.
ميخاليس بييريس (قبرص)
مارا بـ تيسالونيك
لم يكن حلما، عدت لأجد نفسي في المدينة
التي حفظتني بأحشائها
عشر سنوات. المدينة التي قضمت
جسدي الأفضل. سرت
ببطء على الرصيف، وليلا
كنت أصعد نحو الأسوار. جئت إلى هنا
مجددا، كنت أتقدم شفافا
مثل بخار، هنا حيث بددت
سنوات ضعفي، حيث جُردت
من كلّ قوة ومن كلّ سُلطة
وهبت نفسي للشهوة.
شهوة مدينة مماثلة.
أنطونيو راموس روزا (البرتغال)
صوت
أريد أن أنتمي إلى القبة الغامقة مثل عاشق
أعزل
أن أصبح نفحة الصمت على أكتاف الغيوم.
أريد أن أنتسب إلى ظلّ كلمات أوراق الشجر
وأن أفهم الأرض في حرير الرغبة الوحشي.
كازيميرو دو بريتو (البرتغال)
نهار أحد
أجلس على ضفة المدينة وأسمع
ضجة الدماء، تآكل الصلصال
كما لو أن كل هذا الغموض لم يكن شيئا سوى
البحر
أمام جسدي القابع
الموسيقى، النور المادي
حيث كل شيء هو أنا، حيث أعطيت كلّ شيء
ورفضته بعناد. نسمع
الهواء. أجلس في المدينة وأسمع
ضجة هذه العظام ولا أشعر لا بالخوف
ولا بالرغبة، لو فكرت، لو رغبت
لما كنت صامتا جدا وجالسا
إلى جانب هذا الجسد حيث ذاك الذي أنا عليه
هنا، في منحوتة هذا الرجل الجالس
الذي يسمع الموت، شتات النور
في العمل.
فرانسيسكو برينيس (اسبانيا)
مع مَن أمارس الحب؟
أتذوق في كأس «الجن» هذا
دقائق الليل الحبيسة
جفاف الموسيقى، ورغبة
الجسد الحازرة. لا شيء آخر،
حيث يغيب الزجاج، إلا الكحول
الشفاف والخوف من الوحدة.
لن تكون هناك رفقة خسيسة لهذه
الليلة، ولا حركات ذات حرارة
واضحة في قبلة دافئة. هذا المساء
منزلي بعيد جدا، سأدخل
في نور الفجر القاحل
سأعري جسدي، وفي الظل
سأتمدد ضد الزمن العقيم.
جام ساكريه (فرنسا)
سنغادر البحر دائما
سنغادر البحر دائما ونحن نتراجع
الندم ذاته دائما
إنه البطء عينه واقفا
البطء الذي يمزق مع البلاد
كل وداع يديرك بشكل لا نهائي
كل خطوة نضعها خارج المياه
ترغب في أن تحفر لغاية الماء أيضا.
جيزيبي كونتي (إيطاليا)
بعد شهر آذار
لننسى المدن، الأسماء، رغبات
البشر: لا أريد سوى أن أزهر، أن أحيا من جديد، أنا
لم أعد أنا، خُبيّزة، آكاسيا
متفتحة ومرتجفة تويجة شقائق نعمان.
أن أملك قدمين ومفاصل عشب، أنا
لم أعد أنا، يدان بقفازي
برعم، بأهداب جديدة زرقاء، صدري
لحاء شجر، محطم، حيّ.
نسيت كلّ شيء، أكتب
لأن النسيان نعمة، لا أرغب
إلا في الشجر، شجرا، وضفاف
ريح، الأمواج التي تأتي وترحل، السرمدي
العقيم والأبكم يولدان من
الأشياء
«شهر آذار كان باردا وتعيسا، لكن
نيسان سيأتي، ومراعيه المحملة
بأحمر خفيف، بالكرز، ستأتي
الزهرة الأولى».
توماس سالامون (سلوفينيا)
جوناس (يونس)
كيف تغيب الشمس؟
مثل الثلج
ما هو لون البحر؟
سحيق.
هل أنت مملح يا يونس؟
أنا كذلك
هل أنت راية يا يونس؟
أنا راية
كل الفراشات ترتاح عليها.
كيف هي الحجارة؟
خضراء
كيف تلعب الجراء؟
مثل الخشخاش
هل أنت سمكة يا يونس؟
أنا سمكة
هل أنت توتياء يا يونس؟
أنا توتياء
اسمع هذا الحفيف
غزالة تركض في الغابة، ويونس هنا
أنظر إلى الجبال تتنفس، ويونس هنا
يونس هو المنازل بأسرها
هل تسمع قوس القزح هذا؟
كيف هو الندى؟
هل تنام؟
السفير
29 ابريل 2011