النجوم تظل بعيدة
يستهل الشاعر فؤاد رفقة ديوانه الجديد "عودة المراكب" الصادر عن دار "نلسن"، بشبه مقدمة سماها "اشارة" قال فيها إنه صدرت له عام 1961 مجموعة شعرية عنوانها "مرساة على الخليج"، في تلك المجموعة البكرية رفع الشاعر مرساته وغامر صوب الافق من دون ان يعرف الى أين، لكنه عرف الأقاليم والخلجان، وتعلم لغات غير موطوءة، وفي نهاية المطاف أدرك ان النجوم البعيدة تظل بعيدة، فعاد الى شباكه الممزقة بصيد أقل لكن بكثير من الحلم.
يعرف الآن انّ المهمّ في هذه المغامرة هو المغامرة ذاتها، لا نتائجها، فالنتائج كلها حشيش يابس في النار، كذلك يعرف الآن أنه في هذه المغامرة كان عليه ان يسكن العزلة والقداسة، فالخصومة بين الابداع ونداء الجسد قديمة ودائمة الهدير، وهو يعرف الآن أنّ ما أصابه في هذه المغامرة لم يكن مصادفة، فالأقدار أبداً ودائما ترسم الخرائط والاتجاه.
ويختم رفقة اشارته بشعر جعله الناشر على غلاف المجموعة: "ايتها الارض/ هو ذا ابنك الضال/ من التيه في الأنواء/ بلا وجه يعود/ فضمدي شظاياه/ مدي له السرير/ اغلقي النوافذ/ واطفئي الشموع/ رائعة كانت البحار/ تحت الشمس/ رغم الصواعق". كل شيء يأخذنا الى التيه في الحياة، ولا مهرب من ذلك، فما تقوله يومياتنا هو اننا مهما يكن الصعود فلا بد من السقوط، ومهما تكن الاحوال، فسنصطدم بالصخرة السيزيفية. على ان الحياة رحلة على درب طويل، تتخلله صعوبات واهوال، ومهما تطل الرحلة فلا بد من العودة. هذا ما تقوله المراكب، وهذا ما تقوله الدروب، وهذا ما تقوله الخطوات، وهذا ما تقوله رائحة التراب. بل هذا ما يقوله الشعر والشاعر.
يكتب فؤاد رفقة سكونه الروحي وطقوسه الدينية، وتجلياته بين الكلمة والذات، بين الطبيعة والإنسان، بين الإرض والحياة، بين الزمان والمكان، فهو كأنه يجلس في صومعة تارةً، وبين أحضان الطبيعة طورًا، متأملاً، غارقًا في في ما يسميه "وادي الطقوس" (عنوان احد كتبه)، تلك الطقوس التي تنتج العبارات الدافئة، وبخور المعنى، وصلاة الكلمات، وقداديس الشعر، تلك الطقوس التي ترشدنا ان كل شيء يصل الى اللاشي، او السيزيفية التي ايضا هي مرآة كل شيء.
ثمة خيط بين قصائد "عودة المراكب" هو تكرار الحديث عن الشاعر والشعر، او هي النظرة الشعرية الى الاشياء وما تقوله في طياتها ومكنونها. يكتب رفقة: "شاعر يسكنه الخطر/ إلى حافة الحريق يستند/ ومن الجنون/ يقيه الجنون المقدّس". لا يكتب رفقة الجنون المقدس بل "السكون المقدس" والطمأنينة، لكن في التأمل والسكون يكون مبعث الجنون والكلمة والتعبير الشعري، بل انه السكون الشعري لأن "كلّ ليلة من خلايا الجسد/ عيون غريبة ترشح تضيء السراج وتسهر، وهو في أرقه لا ينام، شاحب حتى الشعر". يسأل الشاعر "في السقوط لماذا يبرق الشعر؟". هنا المفارقة، في الألم يبرق الشعر، وفي الغياب وفي الكآبة وفي الحزن. هكذا يرتبط الشعر بأزمة الوجود وليس بفرحها، الشعر تعبير عن الحال، عن القلق الوجودي. تعبير حاذق عن سؤال الموت الذي لا جواب عنه. بريق الشعر ليس في البيانات او الكليشيهات، بل في القلق الوجودي، في الدرب الذي يسلكه الانسان، ف"في كتاب الموت تقرأ الشعر"، هكذا يقول رفقة. يقول أحد الشعراء "من المؤكد أن فكرة الموت من أخطر ما تنهض عليه الكتابة كمفهوم تعبيري يقاوم فكرة الفناء من جهة، والكتابة بوصفها اقتراحا جماليا يمنح المشروع البشري غموضا نبويا أو قل ألوهيا لا تخلو منه مخيلة الشاعر".
في قصيدة "باشق" يقول: "قفص معدني/ من ثقوبه/ باشق يلمح الأحراج/ رائحة الوعر: يدور/ حول نفسه يدور/ يتعثر/ يسقط/ في ريشه يغيب/ تحت اشلاء الصور/ صديقان هو وحطاب الشعر". هل الشاعر حطاب؟ يكتب فؤاد رفقه شعر الحداثة في اجواء الريف والارض والفلاحين بعيدا من المدينة واحوالها وزحمتها. بل يكتب ما يشبه التنديد بالتقنية الحربية "تحت رمانة خريفية/ آخر النهار،/ نعاس،/ لا ذاكرة ولا أحلام،/ فجأة/ عبر الأطلسي/ إف 16 تشق المحيط/ في سماء النجوم والأقمار/ ترسم خرائط الدماء".
نعلم ان فؤاد رفقة كتب أطروحة الدكتوراة في الفلسفة حول مفهوم "الجمال عند هايدغر"، ويعتبر ان فرعي الثقافة، الشعر والفلسفة، يتواءمان في داخله. شعره يستلهم من الفلسفة، تماما كما يستلهم فكره من الشعر. وعلى هذا فقصيدة "إف 16" تذكرنا بالفلسفة الهايدغرية، حيث يشير هايدغر الى ان انتشار التقنية يصاحب بانسحاب ل"موضوعات" الطبيعة التي تترك المكان للأشياء القابلة للاستهلاك. فالراين على سبيل المثال، لم يعد ذلك النهر العظيم، نهر شومان وهولدرلين، نهر المنظر الجميل، وإنما "غدا موضع زيارات تنظمها وكالة أسفار اقامت على ضفافه صناعة خاصة بالعطل"، أما الغابات فأصبحت "مناطق خضراء" أي كائنا داخلا في مخطط استهلاكي.
مع انتشار التقنية اذاً، اصبحت الطبيعة كلها "مدخرات". لكن الغريب ان الادخار لا يحيل هنا على الثبات والبقاء والدوام. وانما، على العكس من ذلك، على الحركة والانتقال والزوال. لذا يقول هايدغر "إن الكائن اليوم هو الكائن القابل للاستبدال". حتى الموت فقد اخترقته الطائرات، "فعلى/ على اصابة الرأس/ يتدرب الطيار".
قصائد رفقة مثل صلاة ناسك في البراري البعيدة، لغة ريفية محكومة بتأمل حاذق. في "أين" وهي قصيدة قصيرة ككثير غيرها يتساءل "من نجوم غير مرئية/ محطات تبث الاشارات/ فأين التراجمة/ اين الشعراء والعرافون/ واين السحرة". في قصيدة "حريق" حيث يحمل صورا من التراث الديني يقول "من الطريق الى الطريق/ لا نجمة تحميه/ لا جرادة/ لا عسل/ لا شيء غير الله/ والحريق"، "على الأرض تفاحة/ الى الغصون ترفع البصر/ اليها الغصون تخفض البصر/ لا دموع ولا عويل/ في زمن التكوين/ تلقيان/ في العودة الابدية./ لا فراق تحت الشمس".
في "دائرة" امتداد لتصورات فلسفية مماثلة. يقول "للأرض تهمس الشمس./ ها دبيب الشتاء/ لهاثه/ كتاباته في الشجر/ رسومه في الاجنحة/ من بحار بلا خرائط/ قريبا يبذر السحب/ يرش الثلج/ فتبرد الاوتار بيننا/ وتثقل العيون./ للشمس تهمس الارض./ لن يطول الوقت/ ابدا يختمر الصيف/ في البساتين يشتعل اللقاء".
الشاعر حطاب وعاشق للارض ولرائحة التراب وتغيّر الفصول، وان تكن عباراته تحتاج الى جنون الشعراء الصعاليك او شعراء الحانات، فمثل هذه اللغة في زمننا هذا وإن جميلة، فقد تشعر قارئاَ راهناً بشيء من ريفية مضجرة لا تعكس كثيراً واقعنا ولا تقول جمال السهوب ولكنها تشير بخفر الى جنون التقنية. لغة وإن تكن تعبر في الجوهر عن سؤال الوجود لكن هل تقدم جديدا للشعر؟!
قبيل ختام المجموعة وتحت عنوان "قصيدة" يقول رفقة: "اعمى بلا عكازة/ يبحث عن قصيدة/ عن نجمة يدور في مدارها المدار./ قصيدة/ لا احرف فيها/ ولا أوتار".
النهار
1 نوفمبر 2008