يشكل كتاب «نادجا» لأندريه بروتون نقطة أدبية حقيقية، لا في مسيرة الشاعر السوريالي فقط، إنما في تاريخ الأدب الفرنسي، الذي أفرد لهذا الكتاب العديد من الدراسات التي جعلته حاضراً لغاية اليوم، في خارطة هذا الأدب. مثلما يميل كثيرون إلى اعتبار أنه الكتاب العماد في مسيرة «بابا السوريالية»، الذي خرج فيه إلى آفاق أرحب في الكتابة وفي الرؤية وحتى في الأسلوب الكتابي.
من يعرف مسيرة بروتون وقرأه، لا بدّ من أنه وقع أسير هذا الكتاب الجميل، الذي يصدر اليوم في ترجمة عربية جديدة عن «منشورات الجمل»، بتوقيع الشاعر المغربي مبارك وساط. وعلى قدر علمي، صدرت ترجمة سابقة في العام 2001 لهذا الكتاب عن منشورات وزارة الثقافة السورية لصلاح برمدا، لكن وبصراحة، أميل كثيرا إلى اعتبار ترجمة وساط هي الترجمة الأولى، نظراً إلى قدرته على القبض فعلاً على متن النص ليقدم نصاً عربياً مدهشاً، كما قدرته على تأويله معرفياً، أقصد عبر الهوامش العديدة، التي تأخذ القارئ العربي في رحلة في المكان والزمان، ليعيد تأسيس هذا الجهاز المعرفي، وليضع النص في سياقاته المتعددة. من هنا نجد عملا آخر، غير ذاك العمل الترجمي، وهو عمل مليء بالجهد الحقيقي، الذي لا بدّ من أن يفتح آفاقاً أخرى لمن سيكتشف هذا النص للمرة الأولى.
و«نادجا» نص «سيرذاتي» (مثلما يميل مبارك وساط إلى استعماله في وصف النص)، كان بروتون قد نشره للمرة الأولى العام 1928، قبل أن يعيد النظر فيه ويصححه العام 1962. من قرأ النص هذا (سلسلة «لا بلياد») يجد في هوامشه أن الكاتب راجعه «بنبرة محايدة»، كأنه كان «أمام محضر» ليعيد النظر «في هذه الوثيقة».
حين كتب بروتون نصه هذا، رغب في أن «ينقل الواقع من دون أي تضخيم ومن دون أي تنكر»، والواقع هنا، عبارة عن بعض الأحداث اليومية التي تعرض لها خلال تسعة أيام، والتي جرت بينه وبين امرأة شابة التقى بها يوم 4 تشرين الأول من العام 1926 في باريس، وكانت تدعى ليونا دلكور وقد أطلق عليها لقب «نادجا».
في ثلاثة أقسام، يروي بروتون هذه السيرة، التي تبدأ بالتساؤل «من أكون»؟ لكنه لا ينحو عبر الجواب إلى أي من استبطان أو تحليل نفسي، بل يحاول أن يقيم العلاقة بين الأقاصيص و«الخبريات» والانطباعات التي يرويها. لكن علينا أن لا ننخدع بمظهرها، أي حتى وإن بدت أقاصيص لا معنى لها. إذ هنا تكمن لعبة بروتون الأساسية: رغبته في كتابة الحياة لا كتابة الأدب، إذ ومثلما كان يعتقد أن هذه «الخبريات» تؤثر في الكائن أكثر من كلّ التحليلات. أما الزمن الثاني من هذا الفصل فينقل لنا العديد من المشاهد المتفرقة التي جرت بين عامي 1916 و1927: اللقاء مع بول ايلوار، زيارة ليز ماير «مكتب الأبحاث السوريالي»...
لا نقع على العلاقة مع نادجا إلا في القسم الثاني، من لحظة لقائه بها إلى لحظة افتراقهما. وفي هذه اللحظة الأخيرة يسألها من تكون فتجيب بأنها «هذه الروح الهائمة». روح قد تمثل الأمل، على اعتبار أن نادجا بالروسية تعني بداية كلمة الأمل. لنتعرف عبر صوتها على سلطة بروتون عليها، وفي قصها لحياتها نكتشف تفاصيل أخرى من هذه العلاقة التي لم يقع فيها بروتون في حبها لكنه كان يشعر بالسأم حين لا يراها.
من هنا، تبدو تأملات بروتون حاضرة في القسم الثالث من الكتاب الذي يتضمن أسئلته الكبيرة مثل «من أكون»؟، «من يحيا»؟ أو في تلك الخلاصة «سيكون الجمال مختلجاً، وإلا فلن يكون».
هي هذه الكتابة المختلجة، التي قادت بروتون، والحاضرة في كتاب الأضداد هذا. أضداد لن نعرفها، إلا عند الاستسلام كلياً لهذا النص الذي يبدو صامداً بوجه الزمن.
السفير- 14-8-2012