من بين الاصدارات الجديدة التي قدّمها معرض تونس الدولي للكتاب في دورته السادسة و العشرين و ضمن انشطته الثقافية : كتاب الاديبة الكاتبة حياة الرايس او بالاحرى مسرحيتها " سيّدة الاسرار عشتار "
هذه المسرحية التي صدرت مؤخرا في القاهرة عن دار شمس للنشر في طبعتها الرابعة بمناسبة معرض القاهرة الدولي للكتاب و قد اقام المعرض لها حينها ندوة ادبية كبيرة في سرايا الكتّاب العرب اشترك فيها ثلّة من النقاد : خضير ميري من العراق و صلاح السروي و هويدا صالح و السيّد الوكيل من مصر و موزة المالكي من قطر
علما ان الطبعات الثلاث الاولى قد صدرت في تونس : واحدة منها ضمن سلسلة " المطالعة المسيّرة " الموجهة للطلبه.
و قد احتفى معرض تونس الدولي بالطبعة الرابعة ( المصرية ) بعد احتفاء معرض القاهرة بها بتنظيم لقاء ادبي و حفل توقيع بحضور الكاتبة
و قد قام بتقديم المسرحية الناقد الروائي كمال الرياحي بمداخلة تحت عنوان :
"من تبكيت الفحولة وتسريد المسرح "سيدة الأسرار عشتار" لحياة الرايس "
و مما جاء في هذه الورقة النقدية :
""أثبتت الكاتبة العربية اليوم , و بعد أن امتلكت ناصية القلم ,أنها قادرة على أن تكون أكثر جرأة من الكاتب العربي /الرجل في معالجتها لقضايا الهامش و عوالم العتمة والصمت , فظهرت في مشهدنا الأدبي العربي أسماء و تجارب نسائية أصبحت تمثّل علامات فارقة في كتابة المقموع و المسكوت عنه مثل غادة السمان و حنان الشيخ وسلوى بكر و سميحة خريس ورجاء العالم و عروسية النالوتي و آمال مختار وأحلام مستغانمي وفضيلة الفاروق ونعمة خالد و ميرال طحاوي وليلى الأطرش و حياة الرايس التي تقدّم لنا كتابها القديم الجديد"سيدة الأسرار عشتار".هذا الكتاب الذي نشر وطبع مرات آخرها هذه الطبعة المصرية لسنة 2008 مما يؤكّد جودة هذا المؤلّف وحداثة لغته وأسلوبه وقد كان متنا لعدد من البحوث و المقالات النقدية بالمشرق و المغرب..
كتابنا اليوم إذن ،كتاب إشكالي في نسيجه ،وهذا ما دفع بعزالدين المدني إلى وصفه بـ"النص الذي يجدّف بقاربه ضد تيار النهر الهادر،تيار السائدّ "وقد اخترنا في هذا التقديم الخاطف أن نثير بعض الأسئلة من خلال عتبات هذا الكتاب الذي نتمنّى له أن يشهد النجاح نفسه في نسخته المصرية.
إذا كان مدخل العتبات واحدا من المداخل الممكنة لقراءة أي نصّ أدبي فإن في هذا العمل الأدبي تحديدا يعتبر مدخل العتبات مدخلا ضروريا و رئيسا لقراءته و فك شفراته المتعددة. لأن عتبات هذا النص تمثّل جزءا من لحمه الحي الذي لا يمكن القفز عليه أو تجاوزه ,و أهم هذه العتبات على الإطلاق :العنوان و العلامة الأجناسية و الإهداءات
يحمل العنوان إشارة إلى إحدى الأساطير السومرية الكبرى"عشتار" والتي تحيلنا مباشرة إلى مناخ خاصّ و مرجعية فكرية متمثلة في تراث أسطوري إنساني معلوم ،غير أن نعت الشخصية الأسطورية بـ"سيدة الأسرار" يجعلنا نخرج من دائرة المعلوم إلى فضاءات المسكوت عنه فتطرح هذه العتبة النصية أسئلة كبرى تدور حول سؤال مركز :ما الذي سيكشفه هذا العمل الأدبي من أسرار جديدة في أسطورة مفضوحة في المتون والمدونات القديمة و الحديثة؟
يمكن للمتأمل في العنوان أيضا أن يرصد كلمة "السيدة"و التي تشي بأمرين: أنسنة الأسطورة و نزع تاج الربوبية عن"عشتار" ،ربة الحب و الخصب عند البابليين، من ناحية و خلع بردة السيادة عليها ومن ثم فقد خرجنا من إطار شخصية معلومة نحو شخصية أخرى بهوية جديدة و أصبح لكلمة الأسرار في العنوان معنى.
أما العتبة النصية الثانية فتتمثل في العلامة الأجناسية "مسرحية" وهي علامة تكرّس الصورة البشرية للشخصية الرئيسة للعمل وهي عشتار إذ المسرح كما كان دائما "مدرسة الشعب" والعالم دائما كما يقول شكسبير"كله مسرح و الرجال والنساء جميعا ممثلون لا غير،و لكل دوره في الدخول والخروج"و يربط جبرا إبراهيم جبرا إقبال الناس على المسرح برغبتهم في رؤية أنفسهم مجسّدة أمامهم ،إذ الفن كما يقول هاملت"أشبه بإقامة المرآة أمام الطبيعة لكي تعكس للفضيلة محياها وللرذيلة صورتها ولجسد العصر والمجتمع شكله و أثره"
يذكّرنا هذا الرأي بالطابع التعليمي للمسرح بصفته مدرسة الشعب،و من ثم فالعتبة النصية تعدُنا بهذا البعد التعليمي.أما العتبة النصية الثالثة والمتمثلة في الاهداءات فإنها تشي بطبيعة و شكل هذا المسرح الذي تكتبه حياة الرايس .
يلحّ الإهداء الأول على الطابع الحكائي للعمل باعتبار أن الكاتبة تعدنا بمواصلة حكاية جدتها التي نامت أو ماتت في عز الحكاية.إن أول إحالة ممكنة لهذه الجدة التي كانت تروي قبل رحيلها تتمثل في شهرزاد سيدة الحكاءات على الإطلاق.
تقول حياة الرايس في الإهداء:
إلى جدتي التي بدأت لي حكاية و هي تهدهدني لأنام فأخذها النوم وهي في عز الحكاية و لكنها لم تفق بعدها.إليها أواصل بقية الحكاية التي لن تنتهي لأنني سأنام مثلها في عز الحكاية".
لقد أورثت شهرزاد فن الحكي للنساء جميعا ليكون سلاحهن وهن يطلبن الحياة إلا أن حياة الرايس قد كشفت من خلال هذا الإهداء عن أمر هام يعطي مشروعية لوجود نصها أصلا و هو عدم اكتمال الحكاية وانفتاحها الدائم و كأننا أمام حكاية واحدة مستحيلة تتناوب على روايتها النساء عبر العصور .هذا من ناحية و خطورة الحكي من ناحية أخرى بصفته صائد أرواح فنحن نموت دون أن تكتمل الحكاية ،وكأنني بها تعارض بذلك حديث المسعدي "نحن لا نموت إلاّ في آخر القصة"
ورغم ما يشي به الوجه الخارجي للإهداء الثاني من حميمية :إهداء إلى الابن فإن هذا الإهداء يكشف عن صفة جديدة للمرأة التي تبشّر بها حياة الرايس في نصوصها وفي نضالها العمل الجمعياتي باعتبارها مصنّفة ضمن مناضلات الحركة النسائية في الدول العربية .إن المرأة التي يبشّر بها هذا الإهداء هي امرأة "ولاّدة كتب"ولادة فن بدل أن تكون "ولاّدة أطفال"
تقول في نبرة اعتذار مخاتل:..عله يغفر لي أنني أنجبت له كتبا بدل إن أنجب له إخوة"
تلتفت حياة الرايس في كتابها هذا "سيدة الأسرار عشتار" إلى أسطورة سومرية شهيرة هي عشتار،والتي لها نظيرات في مجمع الأساطير اليونانية و الإغريقية لتكتب نصّا أدبيا متميّزا وضعته تحت علامة أجناسية معينة هي "المسرحية" لكنه في الحقيقة منفلت من التجنيس إذ هو يتعالق مع الشعر في تشكيله البصري و مع الرواية في نسيجها السردي ومع الملحمة في حبكتها الدرامية والتراجيدية .
والحق أن التفات حياة الرايس إلى الأسطورة يندرج ضمن مبحث توظيف التراث عند أدباء العرب والغرب ،و هذا حقل شاسع حرثه عدد غير قليل من الكتّاب و يكفي أن نذكّر برواية"عوليس" لجويس و"الذباب "لسارتر و"الملك أوديب" لتوفيق الحكيم و "كفاح طيبة" لنجيب محفوظ دون أن نغفل عن أهم معالجة تاريخية للأساطير وهي "مسخ الكائنات" أو "التحوّلات" التي أقدم عليها الشاعر أوفيد و قد نقلها إلى العربية نثرا د ثروت عكاشة و شعرا أدونيس .
لقد أعادت حياة الرايس خلق الأسطورة من جديد في نفس سردي مثير يَشعُر فيه، القارئ أنه يتابع أحداث هذه الأسطورة لأول مرة فقد أمكن للكاتبة من خلال تجميع الأحداث وتركيبها واختيار الشخصيات الحافة بالأسطورة وإعطائها أدوارا جديدة أن تدفع بدماء معاصرة للأسطورة الأم وتعطيها رموزا أخرى تتماشى مع معالجتها البشرية و إحالاتها على عوالم الأنثى اليوم .
في الحقيقة، نص "سيدة الأسرار" نص في مديح الأنوثة ،نص آسر يعبر بك الأزمنة والعصور ليجعلك في مأمن من نفسك تتابع الحكاية مثل طفل عبر فتائل السرد المشوق الذي أجادت حياكته الحكّاءة حياة الرايس في لغة شعرية راقية يفوح منها عبق الخطيئة الأولى : الحكاية الأولى.حكاية الرجل الذي يؤسر بالحكي .
إنّ حياة الرايس في هذا العمل من خلال استدعائها لفن التشويق القصصي تجيد اللعب بأنفاس المتلقّي الذي يبقى يلهث عبر كامل النص خلف متعة التلصص على تفاصيل البوح الذي تمارسه "سيدة الأسرار" و هي تعلن عن شبقها الكبير
نحن في هذا النص مع كتابة ايروسية متحررة غاية في الشفافية تروي قصة حب عظيم عاشته ربة الحب و الخصب و لكنه في النهاية الحب العظيم الذي تحلم به كل امرأة و كل أنثى. نص كتب بحب في مديح الحب.
نص في مديح الجسد الحرّ،الجسد العاشق و الجسد المنفلت من القيود و الأسيجة.
نص طليق في مديح الشبق المطلق.يكتب أولى بنود دستور دولة الشهوة العظمى.
و كما الشهوة المتجددة هاهو الكتاب يتجدد في نسخه و طبعاته ليبحث عن عاشق جديد يروي ظأ الكلمات و شبق الربّة النازلة المنادية:
وهي تقول: "أنا إلهة الأرض المرحة الشهوانية الشهية"
"تعال الآن أيها الثور البرّي
خلّصني،." ص30 " "
12-6-2008