بعد مرور خمس سنوات على دورة المعرض الدولي للكتاب بفرانكفورت التي استضافت العالم العربي سنة 2004، وأسالت وقتها العديد من مداد النقد حيث اعتبرت في نظر الكثيرين فرصة أخرى ضائعة. هاهو المهرجان العالمي للأدب ببرلين يعاود الكرة ويستضيف الثقافة العربية في دورته التاسعة لهذه السنة محاولا محو الصورة السلبية لدورة فرانكفورت التي ترسخت لدى المتلقي الألماني.
ويمكن تلخيص فعاليات الثقافة العربية في الدورة التاسعة للمهرجان الأدبي العالمي لبرلين في ثلاثة توجهات ، الأولى: ففي جانب القراءات كان لجمهور برلين الفرصة للتعرف على عدد من الأسماء الابداعية في الشعر والسرد، من خلال أسماء مكرسة في الوطن العربي وأخرى تشارك لأول مرة في المهرجانات العالمية. وسجل اهتمام كبير بهذه القراءات من طرف المتلقي الألماني بلغ مداها في حديقة الرغبة، حيث تابع أكثر من 500 شخص وفي الهواء الطلق رغم لفحات البرد التي كانت تهب بين الفينة والأخرى جلسة رفرف فيها الشعر العربي عاليا في سماء برلين. وهو الأمر نفسه بالنسبة لباقي الجلسات سواء في الشعر أو في السرد أو اللقاءات الفكرية.
أما فيما يخص الجانب الثاني والمتعلق بعدد من القضايا التي تشغل الساحة الثقافية العربية فيصعب الالمام بها كاملة نظرا لكثرتها وتعدد مشاربها نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "الثقافة والتعليم في العالم العربي، ادب شبه الجزيرة العربية كسر المحرمات أو الصمت، الرؤية المستقبلية للحوار الثقافي مع العالم العربي، السلطــــة والثقـــــافة، التراث في الأدب العربي، الجريمة والحب، النظرة الغربية الى العالم العربي.
بالاضافة إلى لقاء مع مالك علولة الذي امتع الجمهور في دار ثقافات العالم وهو يقدم كرم الضيافة والتمتع بها لدى ثقافة البربر (القبايل) الجزائرية شأنهما في ذلك شأن "التمتع بالنصوص" أو "التمتع بالولائم الأدبية". مذاق ورائحة الأطعمة التقليدية تجعل ذلك المنفي في باريس يعود بذاكرته الى أيام الطفولة والى العائلة و الى الأصدقاء في الجزائر. حول مائدة الطعام يمكن تسجيل انفعالات وردات الفعل الفلسفية والأدبية لدى مالك حول معنى الطعام و"شهوة الالتهام". أما يوسف زيدان صاحب البوكر عن روايته "عزازيل" فكانت له عدة لقاءات مع الجمهور، حاولت التطرق إلى مناطق التماس ونقاط العبور في الرواية التاريخية بين ما هو متخيل وما هو حقيقة تاريخية.هذا اللقاء ناقش "عزازيل" بصفتها "رواية تاريخية" اثارت جدلا عنيفا في مصر من خلال وصفها لعنف الكنيسة القبطية في القرن الخامس ميلادي. ويذكر أن أحد الشبان المصريين هاجم بعنف غير مفهوم الكاتب واتهمه بالكذب، حيث اختلط على الزائر ما هو حقيقي وما يدخل في نطاق التخييل الأدبي.
وحضرت تيمة الجسد والكتابة هي الأخرى من خلال اللقاء الذي جمع الشاعرة اللبنانية جمانة حداد، الروائية علوية صبح والروائي الجزائري رشيد بوجدرة. الذين ناقشوا كيف يتم توصيف أدوار الجنس وعرضها في الأدب العربي؟ هل يعكس الأدب العربي التصور التقليدي للرجل والمرأة أم أنه يتجاوزها الى تصورات مختلفة؟ وأي أثر تترك العروض الأدبية على الواقع الاجتماعي؟ أي من الأدباء يتخذ موقفا يعكس وجهة نظر أو سياسة محددة في هذا المجال؟
تبقى إحدى الاشكالات الرئيسية التي تحكم علاقة الغرب بالعرب هي مسألة الأمن والارهاب، حيث كانت الفرصة أيضا مواتية للجمهور الألماني لمناقشة هذه القضايا الشائكة من خلال التطرق إلى مفهوم "الأمن" بالنسبة الى الحضارات الغربية والعربية؟ هل يحتل هذا المفهوم الموقع نفسه في الحضارتين وهل مفاهيم الحرب والسلم واحدة؟ ما هي الشروط الأساسية التي يجب أن تتوفر لكي يسود الأمن؟ أي دور يلعب التنوع الحضاري في بلد تسوده الأزمات والنزاعات المحلية؟ هذه الأسئلة وغيرها ستكون موضع نقاش في هذا اللقاء، كما سيجري طرح السؤال حول المدى الذي يمكن أن تلعبه الجوانب الثقافية في تطوير الأمن وما هي النواحي الثقافية المحددة التي يجب أخذها بعين الأعتبار والتي يمكن أن تساهم في تحقيق الأمن؟ ويكتسي هذا النقاش أهميته خصوصا على ضوء تركيز وسائل الاعلام في البلدان الغربية في تقاريرها حول العالم العربي على الارهاب والحروب وأزمة الشرق الأوسط والنفط وإضطهاد النساء والعصبية الدينية وغيرها من "الأخبار السيئة"، وهكذا نشأت صورة واحدة تشمل مناطق وبلدانا مختلفة مثل مصر والعراق ولبنان وفلسطين والمملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة واليمن والمغرب على حدّ سواء.حيث تمت مناقشة هذه المواضيع من خلال الأسئلة المنهجية التي حاولت مقاربة الصور العالقة في أذهان الغرب حول البلاد العربية وعن الناس الذين يعيشون فيها؟ ما هي الأحكام المسبقة والصور المطبوعة في أذهان الناس في العالم الغربي عن الشرق؟ ما هي السبل الكفيلة الى تحسين تلك الصور وجعلها أكثر دقة وموضوعية وصوابية؟
وفي إطار الرؤية المستقبلية للحوار الثقافي مع العالم العربي تم تسليط الضوء على علاقة الأديان التوحيدية بالمشكلة الرئيسية في الحوار العربي الغربي، خاصة عندما يتم إدراجها في المؤسسات الحكومية. ومن الناحية الإقتصادية هناك سياسة عزلة يمارسها الاتحاد الاوروبي تتجلى في صور اللاجئين بالقوارب الذين تقطعت بهم السبل، أو ألقي القبض عليهم أو فقدوا حياتهم. وقد حاول المتحدثون الإجابة على السؤال حول ما ينبغي تغييره لإعادة التواصل بين العرب والغرب والتحرك في الإتجاه البنّاء.
هل يشهد الأدب العربي نهضة في ألمانيا؟ من هو الذي يقرر ترجمة ونشر أي عمل عربي؟ ما هي المعايير التي تتبعها دور النشر الألمانية وغيرها من دور النشر الغربية؟ ما هي العواقب بالنسبة للكتّاب العرب؟ هل هناك نوع من الكتابة العربية للناشرين الغربيين؟ هل يمثل من اختير من الادباء حقيقة الأدب العربي أم أن هناك في الشرق "نجوماً أدبية" مختلفة تماماً لا نعرف بشأنهم شيئا نحن القراء في الغرب؟ كانت هذه أسئلة أساسية حاولت إحدى الجلسات الاجابة عنها من خلال التساؤل عن الذي يصل الى ألمانيا؟ وما هي وسائل ايصال الأدب. أين يستطيع القارئ الغربي أن يجد الأدب العربي؟ ما هي الوسائل والسبل المتاحة لإيصال الأدب العربي الى القارىء الغربي؟ واذا كانت المجلات والانترنت وكذلك اللقاءات المتبادلة تساعد على نشر الأدب العربي في العالم الغربي فكيف يتم "البحث" و"العثور" على مؤلفين عرب؟ وفي نظري أن مشروعية هذا المحور تنطلق اساسا من خيبة الأمل التي تركتها دورة معرض فرانكفورت، حيث تراجعت الترجمات العربية إلى الألمانية بعد هذه الدورة. وهو ما حدا بالمهرجان الأدبي العالمي ببرلين أن يقترح صيغة لتعميق النقاش من خلال لجنة للمتابعة ستجتمع في فرنكفورت إبان المعرض الدولي للكتاب لمناقشة الآليات الكفيلة بتطوير هذا التفاعل بين العالم العربي وألمانيا.
حيث أن السلطة والثقافة هما على تماس كبير نظمت جلسة لمناقشة هذا الاشكال من خلال علاقة السلطة بالثقافة بحيث يمكن أن تتحول الى عدو، الى وسيلة في خدمة السلطة السياسية. كما يمكنها أيضا أن تنتفض، أن تمارس النقد، أن تفتح الأعين- كما يمكنها أن تردد ما يُقال لها، أن تعمي الأعين وأن تكون عبداً مطيعاً. أهمية الثقافة وماهية دورها من خلال العلاقة بين الثقافة والرقابة التي هي بمثابة وسيلة سياسية في يد السلطة في الدول العربية. الى ذلك كيف يمكن إيجاد تناغم بنّاء بين الثقافة والسياسة؟ ما هي الأُطُر التي يجب أن تتوفر للثقافة؟ كيف وعلى أي مستوى يمكن للثقافة أن تعمل على تغييرالسياسة؟ وهي الجلسة التي شارك فيها كل من الشاعر المغربي ياسين عدنان من المغرب، طالب الرفاعي من الكويت، وعلوية صبح من لبنان.
أما فيما يخص الباب الثالث من فعاليات الثقافة العربية في هذا المهرجان هناك الاحتفاء بأعلام الثقافة العربية الذين رحلوا عن عالمنا منهم الطيب صالح حيث بوفاته هذا العام فُقِد أهم روائي عربي بعد نجيب محفوظ.
يشمل عمله أربعة مجلدات بما في ذلك رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، ومجموعة قصصية بعنوان"حفنة تمر" وهي قصة ضمن المجموعة القصصية "دومة ود حامد" التي ترجمت إلى الألمانية وأختير لها "حفنة تمر".
وفي السياق ذاته يتم الاحتفاء أيضا بالشاعر محمود درويش، هذا الاحتفاء الذي أسند الاشراف عليه للشاعر عادل قرشولي الذي يكتب بالألمانية والعربية ومترجم العديد من قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش إلى اللغة الألمانية، كان آخرها قصيدة "لاعب النرد" التي نشرها درويش قبل فترة وجيزة من وفاته في آب (أغسطس) 2008.
وفي السياق نفسه يتم تكريم سركون بولس كواحد من أهم المبدعين في الشعر العربي. وبما أنه لم يكن متماشياً مع أي تيار سياسي مُنع من "النجومية"، ومع ذلك كان له التأثير الأكبر على الشعراء العرب الشباب. بعد أن فر من العراق في وقت مبكر وانضم في نهاية الستينات في بيروت الى تجمع المُحْدِثين في مجلة "شعر" الأدبية. تعرف في ولاية كاليفورنيا على الشعر الأمريكي وقام بترجمة نصوص لشكسبير والشاعر الشهير أودين إلى اللغة العربية. وعاش عاشقا للشعر إلى أن وافته المنية في إحدى مستشفيات برلين.
من الملاحظ أن المهرجان الأدبي العالمي لبرلين وهو يحتفي بالثقافة العربية قد خصص حيزا مهما لقضايا تهم بعض المناطق في العالم العربي كفلسطين من خلال التوق الفلسطيني وكيف تتعامل بعض الظواهر الأدبية مع هذه القضية، والعراق من خلال الجرح العراقي وادابه في المنافي، و شبه الجزيرة العربية واشكالية التابوهات التي تتعرض لها عدد من الأعمال الأدبية، و منطقة المغرب الكبير واشكالية العبور الجغرافي نحو الغرب، فإن المهرجان ايضا وضع ضمير المثقف العربي وجها لوجه مع مأساة دارفور والتي لأسباب واهية لا يزال يغض الطرف عن البشاعات التي ترتكب هناك، ولا يظهر حماسا تجاهها بالشكل الذي يتجاوب به مع بعض القضايا الأخرى.
هذا ويذكر ان الخطاب الافتتاحي لمهرجان برلين أسند هذا العام للكاتبة الهندية أرونداتي روي الحائزة على جائزة "بوكر" البريطانيةللرواية.
اعلامي من المغرب يقيم في الماني
القدس العربي
17 -9-2009