تشهد الصالات والمتاحف الأوروبية في الآونة الأخيرة اهتماماً متزايداً بفوتوغرافيا أميركا اللاتينية، خصوصاً بعدما عرّفت لقاءات آرل الفوتوغرافية الأخيرة الجمهور الأوروبي على أسمائها المبدعة المعبّرة بمعزل عن أي تأثيرات لفنون القارة القديمة المستعمِرة وأميركا الشمالية. ماركوس لوبيز (1958) Marcos LOPEZ الأرجنتيني الأشهر تلقفت أعماله الصالات ووسائل الإعلام الأوروبية بعد أن شاهدت بعضها قبل سنوات.
ولد لوبيز في مدينة «سانتافي»، ثم عاش مع عائلته في مدينتهم الصغيرة النائية «غالفيز» حتى العام 1982. في نهاية السبعينات درس الهندسة وتعلّم التصوير بمفرده. انتقل في 1982 إلى بوينس أيريس حيث اختلط مع مجموعات فنية ناشطة. في 1993 نال منحة مالية لإنهاء سلسلة من البورتريهات بالأبيض والأسود، (عاد وأصدرها في كتاب عام 1994). يعيش في بوينس أيريس ويعمل في إدارة تصوير مشاريع إعلانية وصحفية لحساب محطات تلفزة تجارية. عرضت مواضيعه التي تختصر مراحله الفنية في المركز الثقافي الأسباني في بوينس أيريس (1993)، فنزويلا (1994)، فرنسا (1996)، إسبانيا (1997) ضمن معرض «كسر القيود»، وفي أنشطة أسبانية أخرى مثل «فوتو إسبانيا 99» ضمن عنوان «مديح العاطفة»، ثم في معرض «أساطير، أحلام ووقائع» (نيويورك، 1999).
يقول لوبيز: «لا أستطيع المساعدة على تعميم الإحساس بالكآبة عندما أتأمل علاقتي بالفوتوغرافيا. إن مثل هذه المشاعر هي في صلب تركيبتي العاطفية. هناك نموذج واحد، أو جملة جاهزة وشائعة لدى محاولة تعريف خصائص الفعل الفوتوغرافي. وهذا ما يقودني إلى الخلاصة التالية: إن المنطلقات العامة تبدو حقيقة: مرور الزمن، الصورة تعادل ألفي كلمة، عامل الحظ والصدفة، جمالية العثور، الواقع كمنهل شعري، التذكّر، الغياب كوجه من أوجه الموت. إن تعاقب المناظر الطبيعية الضبابية والزائغة يخترقني. كل شيء ممكن الحدوث في «سانتا في» حيث المطر الدائم، والرطوبة الشديدة، البرد، البحيرة التي تبدو كالمحيط عندما يكون الجو عاصفاً، الجسر البشع، القبح، اللاشخصي والإيحاء بالانتحار. أين كانت كل تلك المشاعر عندما كنت لا أزال في العشرين من عمري؟ هل كنت أحاول التكيّف معها أم كنت أخفي مشاعري؟».
يتابع: «في العشرين اكتشفت آلة التصوير، كما اليتيم الذي يتمسَك بثوب راهبة الميتم. لسبب ما، أتساءل عندما أصوِّر موسيقياً يحمل آلة ضخمة، لماذا اخترته هو بدلاً من آخر غيره. أربط تساؤلي هذا بتساؤل آخر هو لماذا اخترت الفوتوغرافيا؟ ولا أجد الأجوبة. وربما كان ذلك بسبب فكرة الهواية أو الناحية التقنية للتصوير. لم يكن من وجود للفن لا في بيئتي العائلية ولا حتى من بين طموحاتي. منذ بداياتي وأنا أصوّر المشاهد الوثائقية، مثل الأعياد الشعبية، الأطفال الفقراء، عربات القطارات الخَرِبة، والمشاهد السوريالية، الأقنعة، التلال عند خط الأفق، حالات كالأحلام... كانت تبدو تافهة لا تصلح للنشر. وكانت بالأسود والأبيض طبعاً. مناخات باروكية، فضاءات متناقضة الألوان نتيجة سهر متواصل حتى الصباح في غرفة التظهير. لست على استعداد الآن للعودة إلى التصوير بالأسود والأبيض بعدما تعاملت مع الألوان. أتصوّر الأشياء من خلال الألوان. أظل طوال الوقت متأكداً من أن مسألة تكوين صورة، وحل العلاقة بين الوجه والخلفية هو نفسه كما كان في أعمالي الأولى. لذلك أحب أن أخلط في معارضي أعمالاً قديمة إلى جانب الأعمال الجديدة الأكثر تصنعاً، لأبرهن أن ليس من تغيرات في صميم العمل. هناك رغبة واحدة للتعبير، للإنتقام، للرفض...».
في 1979 شاهد لأول مرّة «ستالكر»، العمل السينمائي الرائع للروسي أندريه تاركوفسكي، وذلك أيام الديكتاتورية. كان العمل السينمائي الفني الأول الذي شاهده في حياته. كانت لونيته الرمادية إبداعاً غير مسبوق، كذلك ألوانه. بقي لأكثر من أسبوع مسكوناً بمشاعر غريبة. بالتزامن مع ذلك، سئم من وضعه كطالب هندسة حتى تجرأ على ترك الهندسة وقرر أن يصبح مصوراً.
عن حيوية الأرجنتين وألوانها الزاهية، واختلاف صورتها عن واقعها قال إنه لجأ إلى السخرية لوقف البكاء والنحيب. الأقنعة دائمة الحضور في أعماله، حتى للمدينة أقنعتها: «قناع بوينس أيريس هي منطقة المطاعم والفنادق الفخمة حيث يسير التطور والظلم سوية، المنطقة ملأى بالفقراء الباحثين عن طعامهم بين مستوعبات النفايات!»
يقول عن صوره: «بالرغم من أن صوري معدّة مسبقاً، غير أنها توثّق الواقع بطريقة معينة. فيها الـ»هنا والآن». أنا متشائم بالنسبة للأرجنتين وللعالم. الأوضاع تسير إلى الأسوأ. الفن لا يؤثر في السياسة أقلّه في الوقت الحاضر. تستمد الأرجنتين قوتها الحقيقية وشاعريتها من الخليط البشري المتنوع الذي تضمّه. مشاكلنا المتفاقمة لا حصر لها من بينها إشكالية الهوية. فهم الأرجنتين صعب مثلما هو صعب شرح «البيرونية».
مع عمله في الإعلان تبقى أعماله جدّية تعالج ضغوطات الحياة العصرية: «أكره العمل في مجال الإعلانات التجارية، لأن كل ما نمارسه هنا كذب وأوهام. إنني أحقق أحياناً صوراً إعلانية تروّج الأكاذيب «إشرَب البيرة وسيصبح عدد أصدقائك مليوناً»، أو «استخدم الهاتف الخلوي وسوف تعثر عل ذاتك»... إنها أعمال منحرفة! عندما أكون بصدد تنفيذ مشروع فوتوغرافي أحاول الاستجابة لصوت في أعماقي. صحيح أن العالم مقلوب، لكن لدى أبناء الجنوب إدراك مختلف للجاذبية وللتوازن والمقاومة الثقافية».
فوتوغرافيات لوبيز الـ»بوب» اللاتينية الشعبية تجريب ومحاولات للقبض على الأشياء اليومية وتنافرها وتقديمها في مسرحة فوتوغرافية. تطوّر نقطة تشدّد على أن الصورة عمل شامل يلمّح إلى تأثير أيقوني مستورد، رأسمالي تحديداً. تترابط أعماله في صفات مشتركة لناحية تقديمها الأيقونات الثقافية التجارية. نسق آندي وارهول شديد الوضوح في صوره الشديدة الواقعية، بأسلوب يفسح المجال لمستوى الصورة الأمامي لكي يُبرز العارضين والمنتجات الاستهلاكية بدقة وألوان ساطعة. إنها هي تقنية الإعلان الموجّه إلى الشرائح الشعبية. في أميركا اللاتينية نوع فني يعرف بالـ»بوب» اللاتيني، متميّز بتفاصيله اللغوية والمعلومات الثقافية وعلاقة النص بالصورة.
أعمال لوبيز مثل لوحة باروكية رائعة حيث لا سيطرة للرمز. لا تكون صورة الممثل أو الموديل كافية لتأكيد تقاطع أو استئصال الأنظمة الثقافية المستوردة عبر نزع المواضيع الأميركية الشمالية وإبدالها بأخرى محلية. وإذا ما بدت محتويات الصورة للوهلة الأولى ركام أشياء لا معنى لها، فإنها تكتسب أناقة في معانيها المحدودة الصدى أو بسبب إعادة تموضع هذه المعاني.
ماذا يحدث عندما ينعكس كل «سقط المتاع» هذا في مرآة مكسّرة؟ يتحوّل عندئذٍ إلى نسخة أنيقة أبلغ من الأصل، كما يوحي ماركوس لوبيز: «يمكن اللجوء والإستعانة بالنكات والأقنعة والألوان المتوهجة، فتكون طريقاً للابتعاد بالذات، وطريقاً إلى اللاجدّية وتفادي الإحساس بالتواصل المباشر، الجسد بالجسد والروح بالروح».
كل شيء هنا في الجنوب الأميركي اللاتيني مختلف. أصبحت الأرجنتين بالنسبة إليه مركز الكون الشامل منذ حمل كاميرته للمرة الأولى. تجلّت قصة عن الأشياء غير المتوقعة الحدوث كلما حاول هذا الجنوب التقرّب من الشمال المتطور وطرق عيشه وازدهاره الاقتصادي وكل معادلاته. بالنسبة لماركوس لوبيز، تجربة العيش في الأرجنتين تعادل سكون الجانب الآخر من المرآة المحطّمة. يقول: «كمحاصر ينظر من خلف زجاج مكسور. لكن، مرة أخرى، يتوجه نظرك نحو الشمال الذي يلفح وجوهنا كما لو أنه يتحلل، مثل وحش مفترس يريد التهام كل سنوات الحرمان الرأسمالي التي عشناها منذ ما بعد الاستعمار.»
عوالم ماركوس لوبيز البصرية المعقدة المشغولة من صور فوتوغرافية وقصائد ونصوص، مُعَدة كملاحظات تتجاوز التعليق على تأثير انعكاس المرآة المجرد من المشاعر الجماعية. تعود ولادة جمالية أعماله بمكوناتها من الاشياء التافهة إلى أواسط التسعينات. منذ ذلك التاريخ بدأ سلسلة من الأعمال صدر بعضها في ألبومات، منها «مشاهد مدنية» (1999)، «البوب اللاتيني» (2000)، «اللاعب» (2006)، «تحت- الواقعية» عمله الأحدث، والذي يواصل العمل عليه منذ 2005، وحصد شهرة عالمية كرّسته كأحد أبرز وجوه التصوير الفوتوغرافي الأرجنتيني المعاصر.
بالعودة إلى بداية التسعينات، يتذكر أسلوبه في صوره البسيكولوجية السوداء والبيضاء وفي بورترهاته الملونة: «محاولة ترويج اعتقاد خادع، حياة عديمة الفائدة. السر الوحيد لبورتريه ناجحة يكمن في خلق مناخ يمكن له أن يُبرز هذا الخراب، هذا العدم.» يقول لوبيز. في صوره حيث التحول الظاهر من الحقيقي إلى الأسطوري، يحدث بمفارقة مثل استعارة ساخرة ومؤلمة تخنق الحلم. تحوّل الحقيقة إلى دم ولحم وأسطورة، تذكرنا بأن العالم الحقيقي مصنوع من أمانينا المتلاشية. شوّه لوبيز جمالية وارهول، هذه «اللعنة» وهذه «البركة» التي تُنسب إلى التصاوير المرحة هالة وثائقية تستخرج جوهر حقيقتها. «هنا» على الجانب المقابل للمرآة تصبح الفوتوغرافيا تشريحاً للانهيار، وتعرّض الأداء المكتمل الناجح والهويات إلى السقوط، تبهت الأنوار وتستسلم الهويات إلى العدم.
متشائم؟ عدمي؟ أكثر ارتياباً من أي وقت مضى؟ تتناول ممارسة لوبيز الفنية الكاملة الدور الحرج للتقليد والتكرار في سياق معاصر للثقافة المستوردة ونماذج الاستهلاك. «من غير الضروري التقاط مئتي بورتريه في الجنوب الأميركي كما فعل يوماً الأميركي الشمالي ريتشارد أفدون. بعد أكثر من عشرين عاماً من الالتزام بهذا الفن، الفوتوغرافيا، اعترف بأنه محاصر من «الرقمي»: « للحقيقة، أعترف أن الرقمي يضغط ، إنه أكثر إثارة للشك، أكثر ريباً. لهذا السبب أحسّ بأن الوقت حان للتقاعد. أريد التوجه نحو الدين، التحصّن بالإيمان!».
يظلّ التصوير الفوتوغرافي الأرجنتيني مقلداً للمصور المكسيكي مانويل ألفاريز برافو بدلاً من معاصريه الأميركيين الشماليين واكر إيفانز أو دوروتيا لانج، ومغلّفاً بعاطفة مفاجئة تتحول في بعض الأحيان إلى ألغاز مستعصية. الفوتوغرافيا الجنوبية اللاتينية وريثة طبيعية وشرعية للفن الجداري المكسيكي، بعدما اختفى ظلال الرفاق المسنين، وتغيرت الأفكار، تلقّن ماركوس الدرس: ماذا بقي من ماضيه «الثائر»، بذور شك أم هزء متزايد بالأخلاق وبالفوتوغرافيا؟
المستقبل
الاحد 25 تموز 2010