من مهرجان الى آخر ومن طاولة مستديرة الى أخرى يتردد السؤال نفسه: الفوتوغرافيا الى أين؟ سؤال لم يُطرح على المصور وحده بل على نقاد ومؤرخين وباحثين ومديري صالات عرض وناشري كتب فوتوغرافية، وعلى جميع العاملين في هذا المجال الذي تصيبه متغيرات هي الأكبر مند نحو مئتي عام، عمر الفوتوغرافيا. لم يقصد بهذا الطرح إجراء استفتاء للرأي إنما إقامة فضاء حواري.
السؤال هو: بين تقنية تتطور بسرعة جنونية وأبحاث جمالية تخيّب محازبي الفوتوغرافيا «الفضية» التقليدية»، كيف سيكون تطور الفوتوغرافيا؟ هل ستحتفظ ببعض خصوصياتها؟ هل سيقتصر دورها على تشكيل مكون لفن مرئي آخر؟ وهل تزول الفروقات بين الصورة الثابتة وبين المتحركة في زمن تجمع فيه الكاميرات القدرة على انتاج النوعين في الوقت نفسه.
أجاب ريجيس دوران، مدير صالة عرض: «الفوتوغرافيا ككيان فريد ومتراص لم تكن موجودة حقيقة. هناك أنواع أخرى لها هوائها ومحبذوها. فلا يجب رهن كل شيء بمسائل تقنية بالية. لا شيء يؤول الى الزوال. أفضل طرح السؤال بصيغة أخرى: ما هو وضع الصورة الفوتوغرافية في حالاتها المتعددة، في وسائطها المختلفة واستعمالاتها بين كل أشكال الصور التي تحيطها؟»
واعترف المصور برنار بلوسو بجهله وجهة الفوتوغرافيا معرباً عن يقينه بديمومة «الفضية»: «لم أتصور أن هناك هذه الأعداد الكبيرة من الشباب الذين يمارسون المهنة بتقنية الأسود والبيض. دعونا نسأل عن مستقبل هؤلاء الذين يعشقونها. ما يشغلني هو هؤلاء الطلاب ووسائل عيشهم. إنها مسؤولية كبرى أن نروج وندرس عشقنا للفوتوغرافيا. لذلك لم أتردد في نصحهم بأن يبحثوا عن مهنة تعيلهم الى جانب ممارستها. لا أدري وجهتها فهناك عناصر مستحدثة طارئة مثل «الرقمي» مقابل انحسار للفضي. يجب الإقرار بأنها مهنة صعبة».
غبرييل بوري، منظم معارض وكاتب في موضوع الصورة، قال: «تشهد الفوتوغرافيا مواقف تستدعي مثل هذه التساؤلات حول تطورها. لم يكن الفوتوغرافيون متحدين، ولم تكن مجالاتها على هذا التنوع. البعض يستخدمها لما تتضمنه من إشكاليات، بالأسود والبيض، بالألوان، لإمكانياتها التأويلية، لرمزيتها، لقدراتها على الايحاء. البعض الآخر فتش عن بعض المؤثرات البصرية وراهن على حالة دون أخرى، فما تتمتع به من خصوصيات يتجاوز الفوتوغرافيا نفسها. تاريخها برهن على أن التجارب لها وقع ايجابي. الاختلاط والتزاوج محفز للتطور. الفوتوغرافيا الخالصة مسألة تجاوزها الزمن. الفائدة في الأساليب المتنوعة التي تتقاطع في داخل الفوتوغرافيا نفسها».
ريمون دوباردون، المصور المعروف، أسهب في رده: «إنها بألف خير، آفاقها توسعت، وتحررت نهائياً من «اللحظة الحاسمة» ومن الواقعية الشعرية، ومن التيار الإنساني. إنها تتعولم الآن وربما تكون في طريقها الى نزوح النخبة عنها. التصوير الصحافي يلتقي بالفيديو عبر «الرقمي». الشباب الوافدون من الفنون المعاصرة يعتبرون الكاميرا امتداداً للبصر. يجب الاعتراف أن ماضي الفوتوغرافيا كان محصوراً ببورجوازيين كبار وبعض الصغار. سيحزن البعض لوجهتها مستقبلاً ويشعر بالحنين. بعض النظريات الحداثية تحرجنا لكننا نحن كبار السن نجد مصلحتنا في التحرر من الماضي. اعترف أنني لا أزال بحاجة الى ضوء وإطار لصورتي، إذ أن الجمالية مهمة، بإمكاننا تطوير التصوير مع الاحتفاظ ببعض هذه المعطيات. يجب أن تكون هناك حاجة الى تحقيق الصورة. ليست الأهمية في حجمها أو لونها أو قياس الكاميرا، تلك تفاصيل ثانوية. هناك دائماً من يمارس التصوير من دون حجة أو منطق، تحركه ميتولوجيا وعادات، وطبعاً هناك النوع الآخر المسكون بالصورة. المسألة هي كيف نعبر عن الذات. للصورة علاقة وثيقة بالزمن، أؤمن بها لأنها لغز مثير للتساؤل باستمرار، ينبهنا الى الذكاء والكلمات والكتابات. للصورة تلك الميزة الفطرية الموجودة عند العاملين في الأرض، لذا خلف كل كاميرا هناك إنسان جبان، ضعيف، حاذق، حزين، عاشق.. لكنه في مطلق الأحوال إنسان».
هيرفيه لوغوف (صحافي وأستاذ في التصوير)» «في أقل من قرنين على ولادتها تسأل الفوتوغرافيا عن مسارها، عند مفترقات تاريخية: نهاية عصر الداغيريوتيب (أول تقنية معممة)، الى تقنية APS في أواخر القرن العشرين أو الحبة العقيمة، وأخيراً «الرقمي»... الفوتوغرافيا ستصمد كما قلم الرصاص في الرسم. الإبداع مجال صعب حصره وجرجرته بين العاطفي وبين العقلاني».
فرانسوا هيبيل، مدير لقاءات آرل الدولية، قال: «يعكس السؤال التشوش المثير الذي تعيشه الفوتوغرافيا اليوم. فبعد بحث ومسار طويلين عن الاعتراف، عبر ايجاد معايير أكاديمية (مرجعية الواقع الضرورية، فوقية الأسود والأبيض..) تحررت الفوتوغرافيا منذ نهاية الثمانينات الماضية، فتح بولتانسكي، سيندي شيرمان، نان غولدين وآخرون آفاقاً جديدة. كل تاريخ الصورة ثورات: الفيلم اللين (جيلاتين) بدلاً من الزجاج، كاميرا اللايكا بدلاً من الكاميرا الضخمة، شريحة «كوداكروم»، صورة بولارويد الفورية.. وسط هذه الوفرة التقنية يجب النظر الى «الرقمي» كعامل يفتح آفاقاً أوسع. ستكون الصورة الثابتة مكوناً للمتحركة، والعكس أيضاً مع احتفاظهما بخصائصهما، لن تتخل الثابتة عن ميزاتها الثلاث: وحدة الإطار، حرية المتلقي في قراءتها، وتعدد وسائط نقلها. ستكون هناك إعادة قراءة مثيرة للإبداعات السابقة».
كريستيان كوجول، مدير وكالة VU، رأى أن «نشر صور سجن أبو غريب كانت بمثابة رسالة الى المحترفين. عدا عن الارتياب في كونها صوراً أم لا، اثبتت الانتقال من الفوتوغرافيا الى الصورة. يقال ان لا أحداث ممكنة الوقوع في المستقبل إلا وسيكون لها صورها وأن هذه الصور لن تكون بالضرورة من صنع محترفين. هذا ما يدفع الحكومات الى تشريع منع التصوير وحيازة الهواتف المحمولة المجهزة بكاميرات. دفعت هذه الظاهرة المصورين الى خيارات تكنولوجية جذرية أثرت على تعاطيهم بالصورة وبالعدسة ووظيفة كل منها، لكن ذلك لم يعلن نهاية الفوتوغرافيا التقليدية لأنها باقية طالما بقي مصورون يتجنبون المقاربة السطحية».
تجيب لورا سيراني، مسؤولة المرئي ـ المسموع في مؤسسة ثقافية: «الشك والتفكير بالتقنية أمر مركزي في الفنون المعاصرة وتطور العمل الفني. بقيت الفوتوغرافيا زمناً بعيدة عن هامش هذه الحركة. الدفاع عن الأسود والأبيض وحجم الـ30*40 سنتم كان ضرورياً لفرض «فوتوغرافيا المؤلف» والفوتوغرافيا الملتزمة. في السنوات الأخيرة تراجع الأسود والبيض وسيطر التلفزيون على الريبورتاج. الأحجام الكبيرة والطبعات المحدودة للأعمال أكسبت الفوتوغرافيا سمة الأعمال الفنية؛ اليوم حل «الرقمي». في كتابه «تاريخ الفوتوغرافيا» (1931) أشار والتر بنجامين إلى أهمية التقنية في وضع معايير جمالية جديدة. لكن للتكنولوجية سلبياتها على الإبداع إذ أنها تُدخل وسائل تعبير جديدة تنتج «أعمالاً هجينة» وتزيل الحدود بين الفنون المرئية. رغم ذلك سيحتفظ «الفضي» بمكانته.
جان فرانسوا لوروا، مدير «فيزا الصورة» رأى أنه لا يمكن أن نختصر الصورة بالتكنولوجيا وأن تحل محل النظرة. استشهد بهنري كارتييه بريسون: «صور أعمالاً رائعة بكاميرا من ثلاثينات القرن الماضي. وتابع، الفوتوغرافيا الى أين؟ ذلك مرتبط بالصحافة المريضة. التصوير الصحافي لم يلفظ أنفاسه، إنها أزمة الصحافة».
غي رورو قال: «لم تشهد الفوتوغرافيا من قبل مثل هذه الصدمة التي زعزعت مفاهيم كثيرة. أدخل «الرقمي» تعديلات على مستوى التكنولوجيا سوف تستفيد منها الفوتوغرافيا التي تشكل حيزاً كبيراً من ذاكرة مجتمعاتنا.
روبير دلبير، ناشر كتب فوتوغرافية: «الرهان على المستقبل ومعرفة ما يخبئ للنخبة من فنانين ونقاد هراء. مثلما لم تقض الفوتوغرافيا على الرسم، ولا التلفزيون على السينما، كذلك لن يقضي «الرقمي» على «الفضي». صدق كارتييه بريسون عندما قال: «من السهل صناعة الصور، يكفي اصبع للضغط على زر التصوير، عندئذ لن تكون العين سوى إضافة لا قيمة لها».
جان لوك مونتيروسو، مدير «البيت الأوروبي للفوتوغرافيا»، رأى أن المهم هو نتائج مثل هذا التغيير: «أولى النتائج هي العلاقة بالواقع وبالزمن. الصورة الفضية تسجل لحظة ما في زمن معين، حقيقة لأنها موجودة في الصورة. اعتبرت الفوتوغرافيا في الماضي وسيطاً مثالياً للماورائيات، كان على عاتقها اثبات الواقع وحتى حقيقة الظواهر الروحانية. مع «الرقمي» وإمكانياته، لم يعد أحد يفكر في استخدامه كبرهان موثوق. تحول الرقمي الى «مُنتج» للواقع. تسير الفوتوغرافيا الى فقدان نفسها لأجل العالم».
ألان مينغام، مدير فني لأحد مهرجانات الصورة ومنسق معارض: «أمام الفوتوغرافيا عدة مفارق، لم يعد المصور يجيد الاختيار، طريق الريبورتاج وعر، تاريخه مملؤ بالمجد الذي صنعته أسماء مثل «غاما». و»سيبا» الوثائقية طريق مزدوج. «على طريق «الرقمي» ملايين الهواة. هناك فوتوغرافيا تنازع وأخرى ترى النور».
يان مورفان، مصور: «تواجه الفوتوغرافيا عدة رهانات: اقتصادية تتطلب إعادة هيكلة شاملة لعملية انتاج الصور. أخلاقية كون الصورة أداة بروباغندا تسعى القوانين للتحكم بها واستغلالها.
وجمالية اذ أوجدت «الرقمية» مساحة افتراضية وفرضت تفاعلية على «المرئي المألوف» سوف تذهب الفوتوغرافيا نحو مجالات خالية من الضغوط والممنوعات. أرى اتفاقيات جمالية بين القابضين على الصورة الشيء وبين مناصري الصورة الرسالة».
جان كلود غوتران، صحافي مؤرخ ومصور: «سيصمد التصوير التقليدي لأن الرقمي بسط التعاطي مع هذه الهيمنة التي طالما اعتبرت التبسيط فشلاً. هناك هجوم على الجمالية التقليدية وإحلال «الفن المعاصر» مكانها انسجاماً مع سوق فن متوحشة حيث السيطرة للمفهوم والنضوب الفكري».
ديدييه بروس، مدير صالة، وجد أن أهم مميزات الفوتوغرافيا هي العلاقة بالعالم. ملكتها في تجميد اللحظة أدهشت المصورين وكانت في أساس تحفهم. سوف يسيئ الرقمي الى هذه العلاقة. إن فناني «الرقمي» يجعلون من تشويه الواقع أحد موضوعاتهم المفضلة. الاقتراضي في النهاية محدود ولا بد من العودة الى الاحتكاك بالعالم، واستلهام أعمال وستون، كارتييه بريسون، فرانك، فريدلاندر وآخرين كانوا قوتها وتنوعها».
قالت ناتاشا والينسكي: «إذا لم تكن المرجعية موجودة، وأقصد صور الإعلام المتدفقة عبر الشاشات والمطبوعات في لحظة وقوعها من دون حيادية وتحليل، لن يكون هناك مستقبل لأنها تصبح غير ذات معنى. ربما السبب أزمة الصحافة التي تقابلها استعراضية وثائقية تبرز التعليق على حساب الصورة. كان كارتييه بريسون عندما يلتقي بزميل لا يتحدث معه عن الصورة لايمانه بسلطتها».
تساءل يلفريد استيف عما إذا كانت الهواتف المحمولة آلات تصوير حقيقية وهل ما نحمله في الحواسيب صوراً فوتوغرافية وماهية الصورة. وخلص الى أن العالم يزداد تعقيداً، والرقمي يجعل الأحداث من دون شهود حقيقيين.
رينيه بويو، صحافي، أجاب أن لا علاقة للتكنولوجيا بالإبداع، إذ لا تزال حتى اليوم محفورات الفرد دورر رائعة حتى بعد مرور خمسة قرون على رسمها، بقدر روعة أعمال كارتييه وأعمال مان راي الذي لم يكن بحاجة للفوتوشوب لتنفيذها».
آن بيرولو، أمينة قسم التصوير في المكتبة الوطنية الفرنسية: «في تاريخ الفوتوغرافيا طرأت تعديلات تقنية عديدة ظهرت ثم اختفت. ما سماه بيار بورديو فن متوسط وفوتوغرافيا شعبية لا علاقة له بالمصورين المحترفين، فالمسائل التقنية مهمة لهم لكن ليس أي تقنية. ليست الواسطة الفوتوغرافية هي التي كانت وراء شهرة بول ستراند إنما تكويناته. ما يجذبنا الى الصور عناصرها الجمالية، التقنيات ثانوية».
بودوان لوبون، أجاب باختصار: «لن تذهب الفوتوغرافيا الى أي مكان!».
الفوتوغرافيا التي كانت دائماً موضوعاً جدالياً (التصويرية مقابل الفوتوغرافيا الخالصة، الكاميرا الضخمة مقابل اللايكا، الإنسانية مقابل الواقعية...) والتي حملت منذ ولادتها جوابها المقنع حول مسألة الهوية، ولم يتوقف الناس عن استهلاكها للاحتفال بانتمائهم الى الجماعة والتعلق العاطفي (الصورة الذكرى) أو لتأكيد الذات (الصورة التعبيرية) فأصبحت وسيلة تعبير عصرية مرادفة للحرية، سوف تبقى رغم أن الشاشات احتلت مكانها كمرجعية ورغم أن الاسطوانة المدمجة أخذت مكان صندوق الأحذية حيث كان تحفظ للصور العائلية فحولت الصورة شاهداً على اللحظة وليس أثراً في الزمن. يبقى الأهم قراءة الصور لا التكنولوجيا.
الفوتوغرافيا في حال جيدة. المصورون أصبحوا نجوماً. فلنستمر بالاستمتاع بها.
المستقبل
الاحد 8 شباط 2009
أقرأ أيضاً: