تشهد اليوم إعمال وأفكار المصوِّر الهولندي يوهان فان دركويكن (1938-2001) Johan van Der KEUKEN مراجعة واسعة لما لها من أثر بليغ على فوتوغرافيا اليوم وللثورة التي أحدثتها في أوساط النشر الأوروبي والعالمي على السواء. أهم هذه المراجعات بحث للناقد الفرنسي ألان برغالا بعنوان «عن الفوتوغرافيا كفن القلق«.
في 1956 التحق فان دركويكن بـ»معهد الدراسات السينمائية العليا» في باريس مقنعاً نفسه بالتخصص السينمائي «لأن السينما هي أيضاً صورة». هو من أكبر السينمائيين التوثيقيين. نزعته المبكرة إلى الفوتوغرافيا هي التي رسمت قدره. في السابعة عشرة من عمره نشر أول ألبوماته الفوتوغرافية «عمري 17 عاماً»(1955)، تلاه «خلف الزجاج»(1957). «باريس القاتلة» عنوان عمل له في 1963 وضع حداً لأسطورة باريس الرومانسية بانحيازه إلى طبقاتها الفقيرة. أعماله الفوتوغرافية في الثمانينات والتسعينات قاربت مسائل الزمن والتأطير وتساءلت عن واقعية الواقع وإدراك العالم، ووصفت بأنها «السؤال المتحوّل إلى مرئي«.
ممارسته الفوتوغرافيا لم تلق اعترافاً تستحقه كما لقي احترافه للسينما التي جعلت منه أحد أهم العاملين في فرعها التسجيلي. لذلك أسباب تافهة: صعوبة الإقرار بشرعية ممارسة نوعين فنيين في الوقت نفسه. فإذا ما برز السينمائي إلى الواجهة بقي الفوتوغرافي لهواية يوم الأحد. هكذا صنفت أيضاً صور السينمائي فيم فندرز والإيراني عباس كياروستامي وظلت تعتبر صوراً فوتوغرافية لسينمائيين تختبئ خلف أشرطتهم.
أبدع فان در كويكن صورتين، متحركة وثابتة، دون أن تكون العين المبدعة نفسها هي التي وقفت خلف الكاميرا السينمائية والفوتوغرافية. لمساره الفوتوغرافي الخلاّق منطقه وزمنيته الخصوصيتان واستقلاليته عن السينمائي. إذا ما أدرك مبكراً استحالة الموالفة الذهنية للفعلين السينمائي والفوتوغرافي، فإنه هو نفسه اختار واعياً أن تكون له حياتان فنيتان متوازيتان. أن لقطة ثابتة أو مقطعاً سينمائياً مولفاً على يده يحملان سمة يمكن أن نسميها أسلوبه. مجموع صوره تعصى على إدراجها وحصرها في أسلوب تصويري معيّن.
كيف نصنّف نظرة فنان صوّر العطلات العائلية والهند والمسطحات التجريدية وباريس الخمسينات، في صوره النيويوركية الألوان الأساسية قاسية متفجرة وفي صور أسبانيا ربيع مزهر؟ لا نظرة ليوهان فان در كويكن بمعنى أن هناك نظرة لروبير دوانو ولهنري كارتييه- بريسون، فهو ليس تقليدياً، حتى لو تأثّر في جولاته الباريسية في نهاية الخمسينات بالفوتوغرافيا الفرنسية، قبل أن ينقلب كل شيء أمام مفهوم مختلف جذرياً عن الفعل الفوتوغرافي الحداثي حتى مع روبرت فرانك أو ويليم كلاين الذي شغل عقل فان در كويكن. لن نستطيع إن نجد في صوره معادلاً لكل تلك المقاربات للعالم.
فان دير كويكن هو نقيض المصوّر الذي لا يحمل هوية حقيقية ويستسلم بسهولة إلى نزوات الموضة. من لا استمرارية الأسلوب لا يجب أن نستنتج انتهازية تافهة. إثبات الأمانة الحقيقية للذات لا تكمن في تجميد أسلوب بل في مضاعفة الأشكال والأساليب التي تشير إلى لا استمرار وعي مضطرب تجاه العالم وموقع الذات فيه.
وجد أن علاقته بالعالم تتطلب بحثاً بصرياً وسلماً إدراكياً ومساءلة جديدة. ذاك لأنه يرى فائدة الفوتوغرافيا في طرح التساؤلات وتحديد مفهومه للعالم، ليس فقط لوعيه الحساس، إنما عن علاقاته الفلسفية والميتافيزيقية بالآخرين. وحيث أتاحت الصورة وحدها لـ»مؤلفين» فوتوغرافيين تثبيت رؤية إلى العالم تجعل أساليبهم مرئية، كانت لدى فان در كويكن وسيلة تحقق: أين نحن، في زمن ما، من علاقتنا بالعالم؟ وعي هذا الارتباط لديه لم يكن أبداً سطحياً بل كان إدراكياً، عاطفياً، سياسياً وما ورائياً. الصورة، المعروفة بأنها فن السطح الظاهر، لن تكون أبداً بالنسبة إليه جواباً منطقياً أو ملاذاً مطمئناً قد يضفي التوازن على علاقته بالعالم، ويريحه باستمرار وينعكس على «نظرته الشخصية» إلى قضايا العالم. مسألة «النظرة الشخصية» تستدعي عدم إثارة المشاكل مع ازدواجية الهوية التي تؤسس المواجهة المباشرة وجهاً لوجه للفوتوغرافيا الكلاسيكية، مواجهة العالم للفرد. إن وصف نظرة فوتوغرافية بـ»الشخصية»، يعني القبول مسبقاً بوجود عالم ثابت، مستقر، وموضوعي، ماثل للنظرات العادية.
لا شيء في صوره إلاّ ويفتش عن تغييب القلق الملازم، عن تجميد التأمل واليأس من بلوغ صفاء الاستقرار ولو مؤقتاً. منذ صباه وحتى بلوغه الستين بحث عن هذا القلق الوجودي المنبعث باستمرار من مشاريعه الفوتوغرافية المتتالية. يظهر هذا الشك وهذا القلق عند هشاشة كل المستويات الإدراكية، على واقع الواقع، على علاقته بالعالم وبالآخرين الذين يصورهم. باختصار، على كل ما يؤسس لإمكانية إيماءة الالتقاط الفوتوغرافي.
بينما تعبّر أعماله السينمائية بنبرة عالية وواضحة، تحتفظ صوره الثابتة بمسار أكثر غموضاً وأكثر ميتافيزيقية، كما تنحو أيضاً إلى التحليل الذاتي. إنه يدرك تماماً استحالة مساءلة العالم بنفس الطريقة من منظارين مختلفين، فهو يطرح نفس الأسئلة عبر الوسيلتين: السينما لتوضيح المسألة أمام الآخرين، والفوتوغرافيا لاستكشاف الذات في قلب الشك واللا استمرار.
الالتقاط الفوتوغرافي، في ممارسته، يقوم بقدر أقل على مبدأ «اللحظة الحاسمة» مما على حالة التردد واللا قرار. التقاط صورة فوتوغرافية، تلك هي طريقته إلى عيش حالة من الدوار والتحرر عبر التعلق بواقع تأطير جزء من العالم يسوّره مؤقتاً.
من مفارقات أعماله هي عدم سلوكها وجهة روبرت فرانك أو برنار بلوسو: تخل واضح عن السيطرة على الفعل الفوتوغرافي نفسه لصالح إحساس بلا استقرار العالم وأشكاله. لا يمكن التقاط الشك إلاّ بصرامة ثبات الشكل وانضباطه. لكن يجب أن يكون هذا الشكل غير مبالغ فيه، يُظهر فقط المتطلبات الأخلاقية المتواضعة، ما يسميه الفرنسي غودار «انضباط الصور»، أي ما هو نقيض علامات التصنّع المتسلطة.
عندما ينظر فان در كويكن من خلف منظار الكاميرا، فهو لا يتوقف عن التساؤل حول المدى الفاصل بينه وبين الآخرين، وبينه وبين العالم.
في «خلف الزجاج»(1956) الزجاج بمثابة إحساس حضر في العديد من أعماله، حتى تلك التي اقترب فيها من شخصياته: «لا يمكن تصوير الناس إلا عبر الزجاج، من المستحيل لمس الجسد والاقتراب من دفئه وتقاسم عفويته لصنع صورة فوتوغرافية.» مذاك أصبحت الحميمية التي تربط المصور بالآخرين لا تهمه. كل جسد مصوَّر هو جسد غريب.
إعجابه وتصويره للأشخاص النائمين ينطلق من تساؤله عن واقع الواقع. هذا الواقع، الذي يجد صعوبة كبيرة في البحث عنه كمصور فوتوغرافي، غير موجود بنظره إلا عند الاستغراق في النوم، عندما نكون غائبين عن الوعي ونشكّل الجزء الساحر الخلاّب من هذا اللاوعي نفسه: «الحياة، كتب فان در كويكين، هي حلم ورحلة، أو حلم في رحلة إلى عالم موجود فعلاً خارج ذواتنا. ننام لأن العالم موجود خارج الذات». وعي المصور نقيض حالة النوم، هو الوعي الذي يبعدنا عن واقع العالم. تصوير النيام برهان جوهري على هذا المنفى. الحالة المغايرة للنوم في دفء الآخر هي حالة فان در كويكن من خلف الزجاج الذي يفصله عن الآخر، حيث يتحوّل الجسد إلى لغز، والمصوّر إلى غريب عن العالم الذي يتوهم أنه يتقاسم حميميته. بهذا المعنى هناك في صوره الفوتوغرافية، لا في أعماله السينمائية، شيء من انغمار برغمان الذي صوّر بدوره هذه الغرابة المفاجِئة لجسد الآخر الذي نحس بقربه قبل لحظة التصوير فقط.
هذا الوعي للتراجع المفاجئ الذي يمليه الفعل الفوتوغرافي هو أحد الأمور الواضحة في مجموع أعماله. يصبح هذا التراجع أكثر ظهوراً من الموضوع نفسه، حتى في صوره العائلية: «من هم هؤلاء الغرباء، من أنا بنظرهم، ماذا يربطني بهم؟ هل تصمد هذه الروابط أمام النظرة من نافذة الكاميرا؟ أليست ناتج سيناريو وهمي لبنيان ذهني؟» يسأل. الإحساس بالانسحاب وبنفي المصوِّر بادٍ منذ أعماله الأولى التي حددت مساره الفوتوغرافي. التقاط اللحظة العفوية للمراهقة بدلاً من عيشها.
التأطير عنده اعتباطي ومسيء للعالم. احتار بين ميل إلى انضباط الصور الذي من دونه يستقيل المصوِّر من وسيلته الفنية ولا يلتقط شيئاً، وبين الإحساس بأن هناك غطرسة مؤذية في اقتطاع جزء من الواقع وإعطائه معنى رغماً عنه. كثيراً ما استعمل مفردة «استئصال» ليصف مدى العنف في فعل التأطير. بتأطيره يعاني الواقع من انتزاع إمكانية لنهائيته. أوجد فان در كويكن انزياح التأطير، ما يهمه في ذلك إبطال الاستبدادي والاعتباطي والتصنّع في انتقاء تأطير دون آخر. انزياح التأطير برأيه لا يعني اختيار تأطير آخر يثبت سلطة المؤطَّر على المرئي. تحكم الفوتوغرافيا الفنان بأن يضحّي بالواقع في إطار موحد فيفرض معناه على هذا الجزء الاعتباطي من العالم.
كيف نؤطر من دون تصنّع أو إساءة إلى العالم؟ كثيراً ما سعى فان در كويكن إلى إبطال قدرية الإطار الواحد المحتّم، باستخدام كل التقنيات الممكنة ليزيل كل ما هو إثباتي في الفوتوغرافيا ويُحِلّ محله حالة من اللاقرار بدلاً من «اللحظة الحاسمة«.
بدلاً من الإطار الوحيد الحاسم، أحل الإطار التجريبي في متتاليات للموضوع نفسه تخفف هذه من درامية فعل اختيار إطار. تزامنت تجارب جان- لوك غودار وفان در كويكن. بينما أدرك الأول تشكيل صورة عمومية بصيرة وهادرة للفنان، لجأ فان در كويكن إلى تواضع بالغ، قاوم الصورة النهائية التي تتصفح الزمن المتتالي في نفس الإطار. إذا ضمّ الإطار الوحيد أزمنة متتالية فستفجّره كإطار، ليفقد الكثير من قدرته على فرض نظام على العالم ويتحوّل (الإطار) إلى وعاء حيث يتسارع العشوائي واللا محسوس وكل ما لا سيطرة عليه.
أراد الإحساس بالواقع في مهلة متناهية الصغر. صوره أداة مثالية للشك، للاإستقرار الكائن وللدوار الذي يصيبه أمام واقع الواقع الذي يكون بصدد رصده.
طريقته الأخرى في مواجهة الكليشيه الفوتوغرافية النهائية أتت عبر العودة إلى صوره القديمة، بعد سنوات، ليجد أن العالم الجامد والمؤطّر فيها قد يضم أشياء أخرى، يُظهرها الزمن ببطء، كأن واقع الصور يحيا من جديد. التأطير مرة جديدة لا يعني حصر المعنى والإشارة إلى الواقع عن قرب، إنما تفجير لجمود القراءة الأولية على حساب الشك. التأطير مرة جديدة تشققات في عمق الإدراك. «لا عجب أن در كويكن من المعجبين بفيلم هيتشكوك «دوار» حيث الواقع مخادع يتأرجح باستمرار، والمعنى الأخير مؤجل.» يقول ألان برغالا.
كان فان در كويكن رحالة كبيراً، في ترحال دائم إلى الهند وأفريقيا. آمن بوجود الآخر ووجوب ملاقاته لنشعر بوجوده. الترحال برأيه إثبات فوتوغرافي عن وجوده في مكان وتواجده المشترك مع آخرين. صور رحلاته إعجاب بالمفاجأة التي يمكن الالتقاء بها في الهند أو في أمستردام. ما أدهش كاميرته الفوتوغرافية هو ذاك اللقاء العجائبي الآني بالناس في مسيراتهم نحو أهدافهم المتواضعة والشخصية. لا شيء يوجه أقدارهم مسبقاً ليتواجدوا في نفس اللحظة وفي نفس المكان.
في أعماله القائمة على قلقلة التمثيل والانزياح عن نقطة مركزية، تمثّل المرأة رحم العالم، هي مركز العالم ونقطته الثابتة ومصدر الدفء، رغم يقينه باستحالة بلوغه إذا ما أراد تصويره.
يقول عن عمله: «الفوتوغرافيا هي ذكرى، أما العمل السينمائي فيحدث دائماً في الحاضر«.
المستقبل
الاحد 29 آب 2010