يعود مهرجان مدينة ليل الفرنسية «ترانسفوتوغرافيك» ـ 2010 (Transphotographiques) في دورته التاسعة بعنوان «طبيعة ثانية» جامعاً مقاربات للطبيعة من وجهة نظر معاصرة تجاوزت المواقف التقليدية المحصورة في الحنين الى الطبيعة العذراء او نعي البيئة لتبلغ التساؤل عن تقهقهر الطبيعة وعن كيفية تمثيلها. حافزت بعض الأعمال على التوثيق الموضوعي واعية للتحولات فصنفت اساءات الانسان للطبيعة وسجلت روحها. البعض الآخر فضح التلوث والتشويه والتغيرات المناخية، وهناك من تخيل عوالم وهمية اختلطت فيها الفانتازيا باليوتوبيا.
في تقديمها تناول غبرييل بوريه وفرانسواز بافيو، مديرا المهرجان، موضوع الطبيعة: «منذ البدايات، والحضور الجمالي للطبيعة هاجس الرسامين والفوتوغرافيين من بعدهم. كلما اكتشف الانسان الطبيعة غيّر في نظامها واساء اليها. يشعر بعض المصورين بالحاجة الى الاطلاع على حقيقة ما يجري والتنبيه الى المخاطر، كما يراهن بعضهم على عوالم متخيلة للتعبير عن الواقع بقوة. الطبيعة عبر الكاميرا تختلف عما تبدو من خلال العين المباشرة. الجمال الفني غير الجمال الطبيعي. ان يعض الاستثناءات الفوتوغرافية تعلمنا تذوق ما لا نكترث له في الحياة العادية. تتم تحولات الطبيعة لتخلق طبيعة ثانية».
اضاف بوريه: «يوجد اليوم مصورون يمثلون مجموعة من السلوكيات المتأرجحة بين القلق والافتنلان اعتدنا ان نعتبر المصور شاهداً يشير الى واقع، لكن سلوكه هذا هو ايضا تحذير. نستعيد قولا للأميركي وليام يوجين سميث (مهما كان صوت المصور خافتاً، يبقى له دوره الذي يمارسه ضمن جوقة النشاز التي نسميها وسائل الاعلام)».
بدت الطبيعة في عمل خوان فونتكوبرتا (برشلونة 1955)، ضيف الشرف لهذه الدورة، كواقع متخيل، طور علا صارما وغريباًٍ، فنان، منظر، استاذ ومنظم معارض. درس الاعلام وعمل في الاعلان والصحافة. نال جوائز وتنويهات وأوسمة عديدة. في 1996 ادار لقاءات آرل الفوتوغرافية الدولية في 1980 شارك في وضع أول منهاج جامعي في اختصاص الفوتوغرافيا والسينما والفيديو في اسبانيا. استاذ محاضر في معهد الاتصالات السمعية ـ البصرية في جامعة برشلونة وفي «معهد الفن» ـ شيكاغو، وجامعة هارفرد، مؤسسة ومحرر في مجلة «فوتو فيجن» الاسبانية المتخصصة بالفوتوغرافيا والفنون المرئية.
تناول فونتكوبرتا، من خلال التلاعب بالصورة، تأثيرات الواقع وقدرة الصور على انتاج الحقيقة. في مواضيع عن النبات والحيوان، حلل وانهم لغات مناهج العلوم الطبيعية والاعلام وقطاعات معرفية أخرى. يعمل منذ السبعينات على الشبه المزور مبرهنا الى اي مدى تتجاذب المظاهر المخادعة المشاهد بين الواقع والخيال. يستخدم المونتاج، تهجين الحيوانات والتلاعب بالوثائق، اعماله محيرة، تقني قدير، يلعب على الفروق بين الأنواع فيتركنا بمواجهة عوالم النبات والحيوان والمعادن المثيرة. في «يوروجينيز» استعان ببرمجيات رسم الخرائط التي عدلها لتبدو الجبال واقعية تشهد على عظمة الطبيعة. في «هيرباريوم» استوحى من الألماني كارل بلوسفيلدت الذي رد كل الفنون الحديثة الى الطبيعة والنباتات. في «فونا سيكريتا» استند على أبحاث غامضة للبروفسور بتر امايزن هاوفن الذي تحدث عن وجود نوع خيالي من الحيوانات. في هذا العمل مخلوقات كابوسية. في «مجرات» راقب الكواكب تحقيقاً لرغبة قديمة لديه في تزيين اطلس مخطوط عائد للقرن السابع عشر.
متطرف تتعامل صوره مع الغموض والارتياب فلا نعود نتقبلها بسهولة. يتنكر بالوثائقية ليدخلنا الى عالم يستخف بالطبيعة عبر التصنع وحيث الظاهر الموضوعي مستهلك ومحرف.
حوار الانسان والارض نجده في عمل البولوني ادم بانشوك: لا تزال توجد في بولونيا المنفتحة على العصر أماكن متجذرة في التقاليد. صور بانشوك مرحة تعبر عن طرق العيش والتفكير في شرق البلاد، مسقط رأسه، الباقية كما كانت عليه منذ زمن طويل. «كارشبي»، عنوان عمله، اسم يطلق على جماعة تعيش على وقع الفصول والعلاقة بالأرض اختاره رمزاً لرفض هذه الجماعة الاندماج في الحياة العصرية رغم مساعي السلطات المتكررة لاقصائها عن ارضها. يطلق هذا الاسم ايضا على نوع من الأشجار تبقى جذورها عميقة في الارض حتى بعد قطعها. العمل مجموعة من البورتريهات لهؤلاء المزارعين في وضعيات اختاروها بأنفسهم ليظهروا مدى ارتباطهم بالأرض. عمله الآخر «على وقع الأرض» ـ 2009 يوثق حياتهم اليومية وافتخارهم بموروثهم وبقيمهم. نظرته الساخرة تؤكد على السعادة التي يعيشها هؤلاء في بساطة عيشهم.
«ذكريات من فيتنام» للفرنسية من اصل فيتنامي اليزا نغوين التي لم تعش تلك الحرب لكنها شعرت بالحاجة الى التعرف على وطن والديها. عمل حققته في 2004 نشاهد فيه نتفاً من التراب اعتبرتها رموزاً تمثل مرحلة من تاريخ فيتنام جمعتها ليزا وصورتها في الاستوديو معتبرة ان التصوير هو سلوك يخدم السيرة الذاتية. شهادتها جواب على ذكرى مرور 30 عاما على نهاية الحرب. تواجه تجربتها يخدم السيرة الذاتية. شهادتها جواب على ذكرى مرور 30 عاما على نهاية الحرب. تواجه تجربتها الذكرى الرسمية: متاحف الحرب، بقايا الآليات، نصب الشهداء، لنتف التراب هذه ابعادها التعبيرية. استمدت عنوان كل صورة من اسم المكان الذي التقطت فيه وهو يحيل الى مواقع المعارك العنيفة. يرتبط هذا العمل التصنيفي بأسلوب الألمانيين برند وهلا بيشير وتوماس روف ويطرح نظرة عامودية محدثة الى المادة الفوتوغرافية. الموضوع مقاربة شخصية لمسألة الذاكرة. اتبعت ليزا نغوبين مسارا شبيها بما حققته الفرنسية ريستيل هوبير التي صورت اثار الحروب. في الحالتين تحيل جمالية المجموعة الفوتوغرافية الى ادب الذكرى. ابتعدت عن التحقيق المصور عبر الموضوع نفسه وظروف التصوير في الاستوديو وتكرار الصور في المجموعة. دفعت التفكير في مسائل الفن المعاصر والتحقيق المصور ودور الفنان في صورته. خطواتها فنية ورمزية اكثر منها تلقينية.
في «مدينة الأطماع»، المستوحى عنوانه من وصف المصور الأميركي الفرد ستيغلتز للمدينة الاميركية، تابع فريت كوياس النمو العغجيب لشونغ جينغ اكبر المدن الصينية واسرعها في اقتطاع فوضوي لمساحات من الطبيعة. يقول كوياس عن هذه المدينة انه لم يكن يحق لها انتخاب مجلس بلدي قبل 1997 لقلة سكانها. بلغ عدد سكانها اليوم 32 مليونا واصبحت تقارن بشنغهاي. وسع النمو الاقتصادي المطرد المدينة بشكل سريع مثلما حصل في مانهاتن الاميركية في العشرينات. غير امتدادها معالم الطبيعة بأكملها «توحي لي هذه المدينة بالغموض. قدرتي على التعبير عن مشاعري من خلال الصور هي التي تهمني» يقول كوباس الذي لا يعتبر نفسه موثقا رغم ان موضوعه لا يخفي هذا الطابع.
يستعيد يورما بورانن (فنلندا) في عمله «Icy prospects» قولا للسينمائي الفرنسي جان ـ لوك غودار: «ليست الفوتوغرافيا انعكاسا للواقع، انما هي واقع هذا الانعكاس»، في معنى آخر، ليست الفوتوغرافيا شفافة. يتأمل الطريقة التي ينظر بها الى طبيعة بلده وليس الطبيعة بذاتها. هكذا يضيف كثافة ترمز الى رؤية الواقع مختارا اظهارا المشهد من خلال صفيحة من الجليد. نظرته ذاتية، تاثر بقراءات سير البعثات العلمية التي كانت تجوب مناطق شمالي النروج آخر الشواطيء اللأأوروبية قبل القطب. يقول بورانن: «حفظت حكايات والدي البحار في المحيط الشمالي قبل الحرب العالمية الثانية. شمل اهتماي نقاطا عديدة» عملي المتواصل على موضوع الشمال والقطب وتجميع صور وثائقية عنها والاستعانة باضاءة توحي بالتاريخ والذكرى. ركّزت على تهيئة فضاءات تتقاطع فيها المصائر والحكايات واللقاءات. أدخلت نسيجاً من الوقائع والتجارب الخيالية على جغرافيا المنطقة. يقوم الموضوع أيضاً على تجربة الحواس وأساطير تلك الأرجاء حيث غياب الشمس يوحي بحدوث شيء ما. أقمت علاقات حميمة مع هذا الشمال الصامت».
إيلين شميتز اختارت الحياد بجلبها النباتات الى داخل الأستوديو مقلدة كارل بلوسفيلدت هي الأخرى. حوّلت العملية الفوتوغرافية الى بساطة كأنها شاءت أن تفسح للطبيعة في التعبير عن ذاتها وفي فرض طاقاتها وجمالها علينا دفعة واحدة. تندرج بورتريهات الأشجار للكوري ميونغ هي لي في خط شميتز. بينما استطاعت الأخيرة جلب نباتاتها الى الأستوديو، نقل الكوري الأستوديو الى الأشجار. نظرته الى الطبيعة مجددة شاعرية وغريبة مربكة. مشاهد مختلفة وفصول وأشجار ومناخات تتوالى في هذا العمل المبني على المفهوم نفسه: رفع المصور خلفية قماشية خلف كل شجرة صوّرها مبدعاً تأطيراً جديداً. بدت الأشجار أوضح للعين تجذب الانتباه من دون عزلها بالكامل عن محيطها. إنها دائماً جزء من المشهد وكل مرة في حلة جديدة. تساءل عن العلاقة بين الشجرة وبين محيطها، وما إذا كانت فعلاً جزءاً من هذه البيئة. للوهلة الأولى يوحي لنا المشهد باللوحة. يد الإنسان في الطبيعة فكرة تقودنا الى التأمل بمسائل بيئية وإلى العلاقة بالبيئة. «أشجار» عمل يدفع الى التأمل والحلم.
«الطبيعة الفوتوغرافية لنفايات المناجم» عمل رائع للفرنسية صوفي دوبال عن فضلات المناجم. تصوّر الطبيعة بالأسود والأبيض وبالحجم المربّع (6×6). ما يثير اهتمامها طبيعة الردم والنباتات التي تعيش عليها. تلال مخضرّة، خط أفق دائم الميلان في تكويناتها. المفارقة أن هذه الأكوام تحوّلت محميات طبيعية متوحشة ومعالم سياحية. أسلوب وثقافة دوبال الفوتوغرافية انتقلا إليها من مصوري الطبيعة الأميركيين: أنسل أدامز، راؤول هوسمان، ولي فريدلاندر في مشاهده «حيث أثر اللحظة التي دار فيها حوار المكان والمصور». عملها إحساس آخر وعاطفة نحو الشكل.
صوّر يورغن نفسغر الصراع بين المشهد العصري والطبيعة حيث الحضور الدائم للإنساني: تلوث، بقع نفطية، ذوبان الجليد القطبي... مناخ من الوثيقة الخطرة. مارك رويدل اعتبر الأرض أرشيفاً عملاقاً نقّب فيه محققاً عن تأثير التكنولوجيا والثقافة على الطبيعة. قدّم مجموعة كبيرة من الصور المدهشة عما تسببه المناورات الحربية والتفجيرات النووية من تخريب، حتى وصل وبشكل مفاجئ الى استيطان العالم الجديد مع شق أول السكك الحديدية التي اخترقت الغرب الأميركي. الفوتوغرافيا أداة معرفية مع إيفي تزاكراكليدو التي عبّرت عن الهشاشة البالغة لنباتات كريت أثناء مواكبتها لعلماء درسوا الوسط الطبيعي للجزيرة. وثّقت جاكي نيكرسون الشمال الأوروبي والتنوع البشري فيه. غاصت في ريفه النائي ويومياته وأنشطته الزراعية. اختلطت نظرتها المركّزة على الطبيعة مع نظرتها الى السكان وما تحويه أمكنة إقامتهم.
الحاجة الى فهم الواقع لم تخضع المشاريع الفوتوغرافية الى شروط معينة. أرضى مصورون رغبة الاكتشاف والتأمل، كما ولج الياباني يوشيهيكو ويدا الى قلب غابة أميركية وصوّر جذوع الأشجار العملاقة في إضاءة فريدة ولونية زرقاء ناعمة. بطريقة مغايرة تناول الهولندي ووت برغر الطبيعة متقمصاً نظر الطيور، باختياره زوايا نظر مرتفعة أو في اقترابه من التفاصيل. أكي لومي بنى جنته من الغابات والأدغال من مونتاج مئات الصور. رغم اختلافات وجهات النظر طغى التشكيلي على أشكال التعبير الأخرى.
جمع المعرض الجماعي مصورين شباباً علّقت أعمالهم حسب تجانساتهم المرئية ومضامينها. تلتقي في نظرة وثائقية تجاه التغيرات التي تركها الإنسان في الطبيعة ومقاومة هذه الأخيرة للتغيرات. تناول لوران غينو النباتات الصامدة أمام التوسع المدني. صوّر نوايا هاتاكياما آثار أنقاض المناجم وبقايا المواد الأولية. بقي ريمي غيرين في الحدائق المنزلية الصغيرة، وكان لجولي غانزين في مشاهدها الطبيعية «المنمنة» مفهوماً أساسياً نبهنا الى تعقيدات الأنشطة الإنسانية والواقع الطبيعي.
على وقع مختلف، تناول إيمريك فوكيز وآن ماري فيلير آثار الصراعات الحربية على الطبيعة، وقدّم رودولف بونفي جبل سان فيكتوار، الموضوع الرئيسي للوحات الفرنسي سيزان، في وسط يضج بالمفاعلات النووية.
المجموعة الثالثة دارت حول تجربة الزمن. آن دوريز انتظرت شروق الشمس أربعة أشهر عند آخر شبر مسكون من الأرض. أنطوان بتيبريز وتوشيو شيمامويرا صوروا الأشجار والأزهار معزولة عن بيئاتها فبدت كأنها في لحظات ترقب. دانيال شال جاء بكاميرته الصينية الرخيصة من ماركة «هولغا» ليرينا زمنية متأرجحة بين الماضي والمستقبل في الوقت نفسه.
في المجموعة الرابعة، ابتعد تييري دريفوس وإديث رو وأنياس بروبيك عن التمثيل التقليدي للطبيعة. صور النباتات انقلبت لوحات فنية. حدثتنا أعمال نيلز أودو، فاليري غرافيتيو وجيل جيربو برمزية عن الهشاشة وعن الزمني وما بعد الظاهر الكامن في الذاكرة.
شكّل المهرجان المستمر حتى آخر حزيران الجاري مراجعة لطبيعة الصورة وصورة الطبيعة، منذ تنبأ وليام هنري فوكس تالبوت في ألبومه «قلم الطبيعة» (1844) بأن الرؤى الميكانيكية سوف تتجاوز الإبصار الطبيعي «بطرحها عدداً لا نهائياً من التفاصيل مكان الكتل المبسّطة التي لا تميّز» مفتتحاً بداية ظهور مسألة «علامات الثقافة في مواجهة علامات الطبيعة»، وحتى اليوم عندما قال الإسباني خوان فونتكوبرتا: «الطبيعة كما الفوتوغرافيا في وضع مأزوم اليوم. لم تعد الطبيعة العذراء موجودة إلاّ في بعض المحميات. والصورة في زمن «الرقمي» فقدت قيمتها وأصالتها الحقيقية ودورها كذاكرة»
المستقبل
الاحد 20 حزيران 2010