قبل أيام من وفاته، طالب أدباء ومثقفون مصريون إتحاد الكتاب بأن يتكفل علاج الشاعر المريض محمد عفيفي مطر. قارب هؤلاء بين الشاعر وبين من اعتبروه أقل شأنا، وصوّبوا نحو اهتمام الدولة المصرية الانتقائي بمثقفين تلقوا اهتماما ملحوظا من المؤسسة الرسمية التي تكفلت علاجهم والاشراف على استردادهم عافيتهم. أدخل الشاعر التجريبي، سيد الحداثة الشعرية في مصر، غرفة العناية الفائقة، بعد غيبوبة تسبب بها تليف في كبد الشاعر بلغ سبعين في المئة. لكن صورة موت الشاعر الجميل، أتت شبيهة إلى حد بعيد بصورة انتقائه العزلة، والتوحد بعيدا عن البهرجات الثقافية المعروفة، نائيا بنفسه عن ظاهرة البوق، والمهلل، والمنبري، والخطابي. اختار أن يغيب بالمعنى الاعلامي، وأن يحضر قويا في التجريب الشعري. الفلاح الذي ولد عام 1935 في قرية رملة الأنجب مركز أشمون في محافظة المنوفية، لم تغرّه الحياة الثقافية في مصر، التي كانت في أوج غليانها إبان فترة عبد الناصر ومن بعده السادات، فارتدّ إلى أرضه الصغيرة، ليزرعها بيديه، ويوليها انتباهه بنفسه، وقد ترك التدريس في وقت لاحق، بعد حصوله على ديبلوم في الفلسفة من كلية الآداب في جامعة عين شمس عام 1959.
لكن نأيه عن المعترك الثقافي لم يتماثل وسلوكه السياسي، حيث عرف برفضه للنظام السائد، فأغلقت مجلته الطالبية "السنابل" التي كان رئيس تحريرها، ليضطر من ثم إلى مغادرة بلاد الفراعنة في عهد الرئيس أنور السادات، شأنه شأن العديد من المثقفين الذين هربوا بعدما تلاعب النظام آنذاك بهامش الحريات، وطوّعها خدمة لمآربه الخاصة. صنّفه البعض كأحد ابرز الشعراء المحدثين في القصيدة العربية، وربطوا اسمه ولوقت طويل بالتطور الذي لحق بقصيدة التفعيلة منذ الستينات حتى يومنا هذا. ظل محمد عفيفي مطر شاعرا لا يعرف التنازل يوما عن قريته المتسمة بالهدوء، والبعيدة عن ضجيج المدن الكبيرة والمكتظة، كما لم يتنازل عن صوته وتوجّه بوصلته في الكتابة الشعرية. كتب الشعر بالإضافة إلى ترجمته له، وأنجز أعمالا ادبية للأطفال والناشئة، كما ترك خلفه مقالات عديدة. لكنه بقي مغيّبا لسنوات عديدة ولم تفرج السلطات المصرية عن اسمه إلا حديثا، مع سماحها بنشر بعض أعماله الشعرية، بعدما توزعت مجموعاتها على إصدارات بين بيروت وعواصم عربية أخرى، دون القاهرة.
صراحة هذا الشاعر، الذي يمكننا وصف شخصيته الشعرية بالجهورية، بعكس الاتهامات الشعبية التي تطاوله بوصفه شاعرا لم يلتفت الى هموم الناس في مصر أو مشكلاتهم، ظلت المبرر الأوحد لنفيه خارج "مملكة" مثقفي مصر. فبعد خروجه في عهد السادات، اتجه للإقامة في العراق، وسرعان ما تآلف مع مثقفيها الذين أفردوا له ذراعين رحبتين، لكن زمنه العراقي، الذي امتد لعشر سنين، لم يحمل له الراحة التي قصد إليها. إذ لم يكن من سبيل امامه سوى الفرار من براثن النظام البعثي، الذي أمسك به وأجبره على الانتماء اليه، كي يصبح أحد أصواته "العربية" (وليس العراقية وحسب). يتحدث بعض أصدقائه عن سحنة الشاعر الكبير، التي كانت مشبعة بالرعب والتوتر، اللذين حملهما معه إلى مصر.
باختصار، فإن تجربته العراقية، تركت فيه آثارا نفسية لم يكن الشفاء منها بالأمر السهل. إلا أنه لم يمزج بين بغضه للنظام العراقي وحبه للشعب العراقي وأصدقائه هناك. وما كان منه إلا أن اعترض على حرب اميركا على بلاد الرافدين، منجرفا خلف انفعاله، ليكتب ما كان من شأنه أن يولد في وجهه عاصفة من الانتقادات والصيحات المعادية له، ما زاد من القيود المفروضة على اسمه، ليعتقل ويودع السجن، وهي التجربة الاقسى له مع السلطات المصرية والتعذيب الذي ترك آثاره على جسده ووجهه. يقول عنه صديقه الشاعر الفلسطيني، المتوكل طه "إنّ مفردة "الظلام" التي يستعملها الشاعر محمد عفيفي مطر هي من أكثر المفردات تكراراً في دواوينه، الظلام الذي يعيشه الشاعر ليس فقط، في زنزانته التي يسميها "جحيماً" وإنما في لحظته المعيشة وفي تاريخه. إن ما يعانيه ويكابده الشاعر جعله يرى الأشياء من جديد ويقرأ التاريخ بعيون وروح جديدة، أو لنقل، بنظرية جديدة هي نظرية "الخوف من الخوف".
وما بين "الظلام" و"الخوف" يكون الموت، وفي هذه الكآبة، والقتامة، تولد قصيدة الشاعر محمد عفيفي مطر، قصيدة تضجّ بالألم والفزع والكوابيس والرؤى المقتولة والأماني المغدورة ووجوه الأحبة الموتى والمدن التي يسكنها الأشباح كما أنها قصيدة مركّبة تستند إلى الأسطورة التي يُعيد إنتاجها بلغة حداثية فلسفية، تؤكد أن صاحبها شاعر رجل يستحق الاحترام". هذه الاسطورة، الآتية من خلفيته الاكاديمية وتخصصه، انعكست اولا في دواوينه الاولى، ثم امتدت كمرجع في دواوينه الشعرية اللاحقة، حيث وظف بدلا منها الاساطير الشعبية والحكايا المتناقلة في الريف المصري. حاز الشاعر جوائز عدة من بينها جائزة سطان العويس الاماراتية عام 1999 وجائزة الدولة التشجيعية عام 1989 وجائزة الدولة التقديرية عام 2006، إضافة إلى جائزة طه حسين.
له أربع عشرة مجموعة شعرية هي:
- مكابدات الصوت الأول (منتصف الستينات)
- من دفتر الصمت (1968)
- ملامح الوجه الأنبا دوقليسي (1969)
- الجوع والقمر (1972)
- رسوم على قشرة الليل (1972)
- كتاب الأرض والدم (1972)
- شهادة البكاء في زمن الضحك (1973)
- النهر يلبس الأقنعة (1976)
- يتحدث الطمي (1977)
- أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت (1986)
- رباعية الفرح (1990)
- فاصلة إيقاعات النمل (1993)
- احتفالية المومياء المتوحشة (1994)
- ومن مجمرة البدايات (1994).
كما له في النثر إصدارات منها
- شروخ في مرآة الاسلاف
- إضافة إلى دراسة ومختارات محمود سامي البارودي
- أوائل زيارات الدهشة.
كما خص الاطفال بمجموعة قصصية حملت عنوان "مسامرات الاولاد كي لا يناموا".
النهار 3 يوليو 2010