سعدي يوسف

محمد عفيفي مطرالشعراءُ يرحلون هكذا ، صامتينَ ، منسيّينَ.
هل سيذكرُهم أحدٌ ؟
في هذا الكرنفالِ الجنازيّ لأمّـةٍ أُخرِجَتْ ، قهراً ، من التاريخ ، لا أحدَ يذكرُ أحداً .
مصرُ ذاتُ خصوصيّةٍ هنا أيضاً. محمّــد عـفـيـفي مطَــــــر

قبل محمد عفيفي مطر، مَن كان يتذكّرُ محمد صالح؟
وقبل محمد صالح ، مَن كان يتذكّر صلاح عبد الصبور ؟

**

محمد عفيفي مطر ، مات بما مات به ملايينُ المصريين ، منذ كانت مصرُ ، ومنذ كان النيل . مات بفايروس الكبِد الوبائي. ربما كان عفيفي أكثرَ تعرُّضاُ للإصابةِ بالوباء ، بسببٍ من طبيعةِ
غذائه ، اللصيقةِ بفقرٍ حقيقيّ.
محمد كان يعيش في القرية ، في الغيط ( بتعبيره ) ، وكان إذا حلَّ بالقاهرةِ جلبَ معه غذاءه:
جُبناً قَريشاً ، وأعشاباً من الحقل ، بصلاً وثوماً وكّراثاً وجرجيراً .
كان يقول لي : ظلَّ الفلاّحُ المصريّ ، لا يتناول من الساخنِ غيرَ الشاي.

**

لا أعتقدُ أن شاعراً مصرياً لقِيَ من العنَت والظلمِ ، ما لقيه محمد عفيفي مطر.
لقد اعتُقِلَ ، وعُذِّبَ ، حتى كاد جسده يتهدّمُ تماماً.
ظلَّ أعواماً خاضعاً لعلاجٍ قد يُصلِحُ ما أفسده التعذيبُ من عصبٍ وعظمٍ ولحمٍ.
أمّا تهمتُه فهي انتماؤه إلى حزب البعث.

**

كان بيني وبين الرجلِ بُرودٌ ما ، بسببٍ من سياجٍ سياسيّ صفيقٍ كان بيننا.
في إحدى زياراتي ، للقاهرة ، اعتذرتُ له ، وقرأنا معاً في أمسيةٍ من أماسي معرض القاهرة الدوليّ للكتاب.
وأظنني ، بِتُّ ليلةً ، ضيفاً عليه ، في شقّته المتواضعة ، التي تحاذي النيل. وكان غذاؤنا بعضَ ما جاء به من 'الغيط ': الجبن القَريش والجرجير.

**

رحلَ محمد عفيفي مطر. عفيفَ اليدِ واللسانِ.

7/7/2010

****

قصائد من ديوان 'ملكوت عبد الله'

من آخر تجارب الشاعر الراحل

منادمة الكروان
كان عبد الله محموما برعب الليل إذْ يهبط من
مغْزله العالي ويلتف نديفا من سوادِ
المخمل اللين والصمتِ البهيم
رعدة ترفض فيِ أعضائه بالبرد والوقْدة
والطل الخفيف
وشظايا نيزك فرْفر من عمق السديم
تتلوى، تمزع الظلمة بالدهشة..
عبد الله بين الوعد والميعاد:
كانت شظْية من مارجِ الصوتِ وحصباء الصدى
تهويِ من المجهول:
'لكْ
لكْ.. لك الملك'.
ومجهول الفلكْ
دائر مغزله من برجه العالي،
وعبدالله من رعب وطين
مشرئب السمع واللهفة..
هذيِ الفتنة القاسية الإيقاع
تذرو زغب النوم من الأعشاش
والغفوة من ناعسة الطير على مجْثمها
بين الغصون
كان عبدالله يساءل:
وحش كاسر 'لكْ لك' في هذا العماء
ناشرا سطوته؟!
أم ملعب هذا الفضاء
يتلهى فيه بالحيرة؟!
صيد لا يصادْ؟!
أم شهيق أفلتتْ نبرته الأولى قبيل النفخ في
مزمار إسرافيل:
أم نزع وطلْق في رميمي يستعاد؟!
(ملك منْ يا كروان!
نحن أقعينا على مفترق الصرخة والأصداء،
لم نملك سوى الحسرة والزفرة
والجوع المهان
بدد نحن وإرث للمماليك، وهمْ في
ملعب القتل رماد ودمي يبْتاعها من باعها).

أم بشير 'لكْ لك' البشري وترتيل النداء
كي يرد الهالكون الملك للمالك أبهى ما يكون
مثلما اسْتوْدعهم إياه من غمْر الحلكْ
طافيا منجدل الدهشة من كاف ونون!!

سلطانة الأطلال

بيني وبين خرائب الأهل القدامى
- بعد أن غالتهمو غول الفجاءة بالرحيل
وتقادمتْ خطواتهم في ليل ذاكرتي
وذاكرة المكان -
شرْخ بشباك وشق في جداري مائل،
وأنا أحدق عبر صمت معتم علـي أرى
آثار عرس أو بقايا مأتم أو
صندلا لصبية قد أعْجلتْها الغول عنه
أو انفراط الأحرف الأولى بأقلام
الطباشير الملون خطها طفل صغير
هي قفزة أعلو بها فوق الجدار
وخطوة.. فأكون أول من يرى
النسيان رأي العين:
آنية تكسر طينها حرقا من العطش
استنامتْ فيِ نسيج العنكبوت
ومراقد الحيوان والإنسان ربْقة ماعزي بليتْ
وفضْل حصيرة شرب التراب ترابها
تتأكل الجدران تحت نضائح الملح المرقدِ،
والمهجات العميقة والشنشْنات التي اكتحلتْ
بدخان المصابيح القديمة حفها جير من
الذرْق المنمش.
هذه الأعشاش خالية..
نداء الشمس والريح الطليقة بعثرا أسرابها
عيثت في ظلم المهجات
ارتعدت بنقرتي وبخمش أظفاري
وريشي مرتعبْ
من مكْمن البوم اسْتللت البومة الكبرى،
لويت جناحها بجناحها،
انتفضتْ وحاولت الهربْ
ورجعتْ وهي أسيرة الفخين: كفي والعش في الضوء،
وجه في مهابته كوجه الأولياء الملهمين
حفتْ به من هالة الأسفار في الظلمات شيْبته
حريرا في نديفي من زغبْ
عينان واسعتان شهْلا وان كالبحر المصفى
في زجاج كهوفه،
لا تنظران وليستا تريان شيئا من غثاء الصبح،
منقار به كِبر الملوك وكبرياء الفهم.
-: أنتِ وريثة الأهل القدامى الراحلين
وحفيظة الدمنِ البواليِ
والعليمة بالسرائر كيف كانت تغْتليِ بالعشق
والشعر المجنح بالجنون
وهواجسِ الأهوالِ من غلي وجوع واحْتراب وانكسار.
أطلقْتها بعد انحدار الشمس،
-: روحي.. واشهدي في ظلمة الملكوت
هوْل الذاكرة..

الخفافيش.. أبدا

فتحت عيني فيِ ذبول الشمس وهي تجر في
أظلافها رملا تذريه على شفق الغروب
والظل يزحف صاعدا فوق الحوائط
ناسجا دغْش الزوال سقيفة تدنو
قتامتها رواقا لانفلات الصبْية اللاهين
والمتنظرين أمام باب الليل أن تنقض
أسراب من الفحم المجنح:
خفة، وذكاء تحويمي، ومكر مناوراتي،
وانقضاض ليس يوقفه اصْطدام بالحصى أو
بالعصا أو بالحوائط والسقوف
كانت تدوم ثم ترخي جلدها العريان في
غبشي يذوبه الظلام
شيئا فشيئا.. والشظايا من رفيف الفحم ترْفو
جبة الظلمات فالملكوت خفاش يلعلع صوته
المسنون.
-: يا ولدي ابتعدْ
واعقلْ جنون الصيد
- أوهام وظن طائش هذي العصي
وهذه الحصباء -
فاقعدْ ريثما أحكيِ عن الخفاش
والخفاش صيد لا يصاد
هو لوْعة سوداء كامنة معلقة بأعماق
الخرائب والبقايا من بيوت أقفرتْ..
لم يبق إلا الجن والخفاش،
وهو الوهم والظن المثير المستفز
لبهجة الصياد،
وهو مفتق الإلهام من حيلي ومن أملي
ومن حسْم وتأجيل وطقس يستعاد
حتى إذا اشتبكتْ مخالبه بوجهي أنشبتْ
واستغْوَرَتْ في لحمه حتى العظام
لا شيء يدفعه ليترك صيده إلا دوي الطبل
والزمار يلعب بالغوازي العاريات
وأبوك شيخ لا تليق به الفضيحة
فاستمعْ لي، وانْس خفاش الظلام
واقعدْ لأحكي عن خفافيش النهار
من نسل آدم أو سلالات الكلام

آخر الصيد أوّله

'أرى العنقاء تكبر أن تصادا
فعاندْ من تطيق له عنادا
وما نهْنهْت عن طلب ولكن
هي الأيام لا تعطي قيادا'.
أبوالعلاء المعري

كان عبدالله ينسل خفيفا من كتاب لكتاب
ذاهلا عن نفسه حتى رمتْه الصدفة العمياء
من حالق صيد لا يصاد
أفْلتتْه ظلمة الأنواء من مخلبها،
سبعين دهرا وهو يهوي في عماء النوء
لا يدري أفي مهجور 'واق الواق' أم
في رهبة السر على قمة 'قاف'
سوف يلقي الطائر الأوحد والصيد المحال.
كان من رهبته يخلقه جنْحين كونيين من ليل
وعينين من الكحل البهيم
وصراخا باتساع الظن والرعب،
سديما من هيولى صوري ينْقدح الإيقاع فيها
بالإشارات وبالمعنى الدفين.
كان عبدالله مشبوحا على باب الحروف
كلما استنطق حرفا ساقه للغامض الملْغزِ في
حرفي سواه
يتغشاه عماء الوعد والموعد:
لا النار استبانتْ في رماد الألف عام
لا ولا العنقاء تدنو فتصاد..
مراوغة الغراب

وجه الضحى ذهب
تعلو من الأفق الأقصى مراياه
والطير بعض شظايا ظلمتي تركتْ أظفارها
فيِ أديم الضوء رفرفة تعلو وتهبط
والغربان غوْغقة ترتج منها
رؤوس النخل والشجر
والشمس تنفخ من أنفاسها صخبا ملء السماء
وملء السمع والبصرِ
أمي، وقد سمعتْ، تومي وتكشف ما
يطوي عليه كلام الله فيِ السورِ:
هذا ابن آدم يغْلي في خوالجه
كِبْر الصغيرِ وطغيان الغرائز والأهواءِ من
حسدي يمور موْر دمي فيِ عاصف الشررِ
مد القتيل يديه قبل مقْتله
بالخبز فوق إناء الماء
فاندلعْت من ومْضةِ الغدر سكين
مشطبة على الضغينة،
والغربان شاهدة
ترى القتيل على أكتاف قاتله،
تصغي لغرغرة الحصْباء تشْرق من هواطله.
قالت: فكل دمي من يومها نطف
تسري مواريث فيِ الأصلاب
تدْفق ما بين الترائبِ،
ما من جمرة وقضتْ فيِ دمع ثاكلة مدى الدهور
سوى أطيافِ ذاكرة من دمع حواء
فيِ الآماق ترتحل
جيلا فجيلا، وفي الثارات تشتعل
قلت: الضحى ذهب قد شققتْه غرابيب الشهودِ
وشقتْ غاق مرثية عمق الفضا
والصدى ترتج منه رؤوس النخل والشجرِ
ظلي على الأرض ممدود.. يروعني:
هذا أنا.. فمن انْحلتْ مفاصله،
أرْخى يديه، على كتفي ينهدل؟!
هل كنت أحمله حتى أفر به عبر التواريخ
والغربان شاهدة أن التواريخ
مجْلي القتل مجزرة في إثر مجزرة ؟!
قلت احتمله على الأكتاف واصطبر
ما ثم بين سوأة تعلو معرتها
عن سوأة الدفنِ في النسيان والحفرِ

أنساب مختارة

خرز من الماء مسبوك بزرقته عسل
وشمس حصادي ذوبتْ ذهبا فيِ خضرة غضة
في بارقي من حواشيه ترقْرق من ندى الفضة
روح السكينة،
عش من نديفِ حريرِ القش والزغبِ المنقوشِ،
صوت حنين الأرض بين الطمي والسبلِ
يعلو خفيا كرجْع الناي في الغزلِ
كفكفْت من حيلي
ورميت أحبولتيِ ونسيت مكْر فخاخي كنت
أبرع فيِ تمويه عقْدتها
بين النجيل وبين القرطم الخضِل
ورأيتها رفعتْ بين السنابل والأعواد شوشتها
بالزعفران وبالحناء واندلعتْ فيِ القمح أغنية
مجدولة اللحن من نفس التكوين في السحبِ
غنتْ وقنْبرت الموال فانفتحتْ في القلب
نافذة على الأخوة بين الطير والبشرِ
لكنها استترتْ في الوكر واجفة
من خفْقة الظل أو من خشْية البللِ
تزْقو أم انفرطتْ أوزان غنوتها؟!
هسْهسْت أكشف عن فرعين في جميزة النسب:
أختي.. أخية
إن الشدْو عائلة
من أول الأرض حتى آخر الفلكِ
هذيِ الكواكب مزمار تعاوره
نفْخ البروج على بوابة الحلكِ
والشمس بوق نفيري طالما نثرتْ أجداث من
ذهبوا عبدا على ملِكِ
أختي.. أخية..
ما بينيِ وبينك من ختْلِ ولا شركِ
فلتأْنسيِ،
أمم من داثر النغم الموْؤودِ.. هيت لكِ!
فلْتصْدحيِ..
نغم الموال أوله بدء الخليقة
أْخراها أواخره
قوميِ قيامة صوتِ الله في بددي
يعاد ترتيله فالخلق منبعث
والشعر جوهره
هسْهسْت فانطلقتْ كالسهم نافرة
نحو الفضا
والصدى ريح تبعثره ..

مراودة الهدهد

شمس تدلتْ في انفطار الصبح
غرتها تنوس وترتخي
والغيم عصْفرها وخددها بألوان الشقائقِ
والسماء تضيء زخرفة الكتابةِ فوق
ريش الطير من أمم الحروفْ
في كل سربي من غوايات القراءة ما يخف وما يطوفْ
فافتلْ حبائل صيدك العاليِ،
متون الريح والآفاق صاعدة وهابطة
فأحْكمْ عقدة التخمين ما بين البصيرة والبصر
هذي هي انفلتتْ إليك من السوانح قبضة
الريش المرقشِ فيِ اختيال التاج،
والنقْرِ المشوشِ في شقوق الدود
والحشرات مرتبك التلفت
نافشا زهْو التشكك واليقين
غمغمْت: هذا صاحبي الرواغ بين معلقات الشعر
والكتب الغويةِ،
هذه أنباؤه انتثرتْ على جنْحيْه نقش قطيفة
مكتوبة في دهشة الذهب المضفرِ،
قلت: أنت رأيت أشْهى ما اشْتهيْت:
مليكة أختا على ملأ أخي،
حدقْت، من طيش النميمة لم تكن تدري لواحق
ما استكن من الخراب على يد
الطغيان والملأ الهلام
لم تستمع لملاحم الفوضى
ومكذوب السرائر في الكلام
أو رجفة الطوفان في العرِمِ المكتمِ في عروق الصخر
والغرق الذي ترتد منه الأرض مقبرة
ويغدو العرش والأمم الهوام
بددا يذريه الظلام
أم كنت تعرف.. ثم ألْغزْت الحروف على جناحك
كاشفا معنى التواريخ الدفين:
من خفة التحليق حول العرش والتيجان والأمم
السوالف ليس إلا الدود ينغل في بقايا الهالكين!!
راودْته عن علم ما يدريه،
شاغلني بخفته وطيش النقر ما بين الشقوق
نقر التلفت نافشا زهو التشكك واحتمالات اليقين..

7/7/2010

****

محمد عفيفي مطر الشاعر الذي لم يمت

عبد الفضيل ادراوي

شاعر لؤلؤة المستحيل لقد سبق لأحمد عبد المعطي حجازي أن تحدث عن وظيفة الشاعر في الحياة، وبين رسالة الشعر أو الفن عموما في المجتمع الإنساني، حين قال في مرثيته الشهيرة (مرثية العمر الجميل):

قلنا لك اصنع كما تشتهي
وأعد للمدينة لؤلؤة العدل
لؤلؤة المستحيل الفريدة

وهي بحق، الرسالة التي تلقفها الشاعر الفقيد محمد عفيفي مطر، الشاعر الذي ستبقى حروف اسمه منقوشة في وعي الأمة العربية، وفي ذاكرتها الشعرية. فلقد ظل فعلا شاعرا عملاقا متألقا في سماء الكلمة الشعرية المدوية، محلقا في فضاء التحرر الشعري الذي لا تأسره المصالح الشخصية الضيقة، ولا تسجنه الانتماءات والاصطفافات التي تقتل الإبداع وتبيده. لقد آثر هذا الشاعر أن يُعِدّ بشعره للمدينة لؤلؤة العدل المستحيلة، ويطلق عاليا الصوت المتلألئ الفريد للحق المستحيل. عاش عفيفي حوالى 75 سنة، ومنذ أن تفتقت قريحته الإبداعية، اختار أن يكون ذلك الشاعر الإنساني الذي ينشغل بقضايا المجتمع، ويقدم هموم أخيه الإنسان ومعاناة البشرية جمعاء، على همومه الشخصية وانشغالاته الفردية الخاصة.
لقد ظل عفيفي حقا عفيفا، عاملا من أجل صيانة الشرق والعروبة من أية محاولة يمكن أن تعبث بهما أو تحاول أن تبتذلهما. فكان وفيا لعروبته التي ارتضع قيمها ومبادئها منذ أن ولد في قرية رملة الأنجب في محافظة المنوفية عام 1935، هناك نشأ عفيفا مخلصا لعروبته، حاملا أمانة صيانتها في مبادئ الكرامة والشهامة الصعيدية الموروثة عن الأجداد، والتي لا تقبل التساهل ولا المساومة، كما لا تخاف الترهيب والترعيب الذي ينشره قاطعو الورود والأزهار، وقاتلو العصافير، ومربو الغربان والغرانيق في الوطن العربي.
لقد فضل عفيفي مطر أن يعلن معارضته لسياسة الرئيس السابق أنور السادات، وهو ما جعله غير مرحب به في بلده ، وليضطر بسبب ذلك إلى العيش منفيا خارج وطنه، بعيدا عن أهله، وينزل ضيفا على العراق البلد الذي رأى فيه خلاصه، ولو مؤقتا، من خطر التطبيع والاستسلام. وهناك بقي إلى بداية العقد الثامن من القرن الماضي، لأنه لم يقبل بسياسة الارتماء في أحضان الاعتراف بالعدو الإسرائيلي، الكيان المهدد للعروبة ومقوماتها. لقد فضل المعارضة والنفي، لأنه كان من جيل الستينيات الطليعي الذي 'كان يؤمن بأن مصر دولة عربية وأن شعبها شعب عربي، وأن ارتباطها هو بحضارة الصحراء أو بحضارة النهر.. وليس بحضارة البحر الأبيض المتوسط'1.
أي أن العروبة في وعي هذا الجيل، يجب أن تظل أصيلة في ارتباطها وانتمائها. ولم يكن من الممكن التساهل في قضية المساس بهوية هذه العروبة أو السماح بارتهانها إلى الإفرنج، تحت أي عنوان أو مسمى من المسميات.
وكما كانت قضية الثورة قضية جوهرية في وعي جيل الستينيات، كانت جوهرية في وعي عفيفي مطر. فقد عمل إلى جانب زمرة من الشعراء الطليعيين على ممارسة ما يمكن أن نسميه بـ (التحريض الفني)، من خلال اعتماد الشعر وسيلة فعالة في نشر الوعي التحرري بين الأوساط، وتوجيه النقد والرفض لمختلف محاولات المسخ الحضاري التي كانت السياسات الرسمية تبشر بها في الوطن العربي. ورغم أن هذا الجيل قد واجه مختلف أشكال التعتيم والحصار، كالمنع من النشر وحظر التجمع، إذ اضطر أغلب أفراده إلى الهجرة أو التقوقع والانسحاب من الساحة، ورأى آخرون أن الحكمة تقتضي الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع، والارتكان إلى الذين غلبوا. لكن عفيفي مطر لم يستسلم ولم يقبل أن يهال عليه تراب النسيان، أو يخنق صوته المبحوح. وبسبب مواقفه المعارضة للسياسة المصرية الرسمية، في موقفها من الحرب التي شنتها الامبريالية الغربية على العراق، التي استهدفت إخراج الجيش العراقي من الكويت، اعتقل عفيفي مطر سنة 1991م. وقد سجل الشاعر تجربة الاعتقال هذه في العديد من قصائده أشهرها 'هلاوس ليلة ظمأ'، وهي التجربة التي أثمرت فيما بعد الديوان الذي حمل عنوان 'احتفاليات المومياء المتوحشة' عام 1992 م.

- شـاعر الإنسانيـة

وقد وجدنا الشاعر يمضي مضي الواثق من نفسه، محققا تراكما شعريا اتخذ القصيدة الحرة صيغته في القول، ومنفتحا على أشكال وصيغ تعبيرية أخرى، إذ كتب قصيدة النثر، وكتب القصيدة العمودية، وعبر كل الصيغ، لم يكن أسير ذاتية ضيقة، ولا رومانسية حالمة، بل ظلت هموم الواقع العربي، ومعاناة الإنسان في هذا الوطن المتحول، المكون الأبرز والمهيمن في كل كتاباته.
والمتتبع لعالم عفيفي الشعري، يلمس بلا شك انفتاحه على الواقع الإنساني الممتد الفسيح، وعلى واقع الأمة العربية التي أنهكتها المآسي وكبلتها الأزمات. وتحولت من معسكر التحرر الوطني، إلى معسكر التبعية والاستسلام والارتهان للآخر، طوعا أحيانا، وكرها أحيانا أخرى. فكانت أعمال مطر الكاملة، التي صدرت سنة 2000 م، عن دار الشروق، ومن خلال كل دواوينه (من دفتر الصمت)، (كتاب الأرض والدم)، (احتفاليات المومياء المتوحشة)، (فاصلة إيقاعات النمل)، (رباعية الفرح)، (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت)، (يتحدث الطمي)، (والنهر يلبس الأقنعة)، (شهادة البكاء في زمن الضحك)،(رسوم على قشرة الليل)، (الجوع والقمر)، (ملامح من الوجه الأمباذوقليسي)، و(من مجمرة البدايات) 2. جميعها بقيت وفية لهموم الشاعر التحررية، وطافحة بنزعته التغييرية الإصلاحية، المعبرة عن الإحساس بالغربة والضياع، ليس بوصفه ذاتا مفردة متحققة هنا والآن، ولكن بوصفه الشاعر الإنسان الذي يمثل كل الناس، ويعبر بلسانه بديلا عن ألسنتهم العاجزة. وبعبارة أخرى، لقد ظل عفيفي مطر يمارس دوره السياسي من خلال القول الشعري، مترجما مقولة الروائي العالمي ماريو باركاس يوسا : 'ما فعلته هو أني اعتقدت أنه يجب علينا دائما أن نشارك في الحياة السياسية، خصوصا إذا رأينا أن الأمور حولنا ليست على ما يرام. إذا رأينا أن المجتمع انحرف، ووقع في الفساد وفي الاحتكار، وإذا طغى الظلم، أو رأينا ناسا يرضخون قهرا، في حالات كهذه، علينا أن نقوم بشيء مفيد، هذا ما أسميه السياسة' 3.
لذا يمكن أن نقول إن غالبية القصائد الشعرية في مجموعة أعماله الكاملة تشير بوضوح إلى أنه فعلا كان يقوم بهذا الشيء الذي اسمه السياسة. لكن ليس بذلك الوجه الخطابي المفضوح الذي قد تتراجع معه الوظيفة الإمتاعية للشعر، بما هي الغاية الإنسانية الأولى المتوخاة من أي عمل فني، بل على العكس من ذلك تماما، فقد ظل وفيا لرسالة الشعر الجمالية، وظل مخلصا للغته الإبداعية التي تفصح عن عوامل الحياة، وبما ينتاب الشاعر من أفكار وعواطف وإحساسات بالإنسان، وبتطلعاته وهواجسه المعلنة والخفية على السواء. لقد كانت الرسالة الشعرية في كل قصائد عفيفي مطر حبلى وموسومة بالهموم الإنسانية المتشابكة والمعقدة، ومهووسة بالانتصار لآمال وطموحات المستضعفين والمعذبين في الأرض.
وكما سبق وأن قال فيكتور هوغو، في كشفه عن أهمية هذه السمة الإنسانية في الشعر والفن عموما: 'ليس في عقلي سوى فكرة واحدة، هي خدمة الإنسانية..لقد دافعت عن صغار الناس وبؤسائهم... وإني لأتعجل الغد العظيم لإنسانية خير من هذه'4 .

- تحريضية فنية:

لقد اتخذ الشاعر من كل قصائده تقريبا منبرا لممارسة تحريضية فنية شعرية جميلة، توسلت بلغة شفافة ورقراقة، وميزت بين الخيال والواقعية، وتعانقت في أفكارها مع المشترك الإنساني، وتوغلت إلى الكوني الوجودي، الثاوي في عمق الإنسان وقرارة نفسه ودواخله، كل ذلك من أجل بث روح من الإحساس بالمسؤولية لدى هذا الإنسان، عساه يلتفت إلى حاله فيغير ما به، وينتفض ضد همومه. فها هو يصور حالة انعدام الأمن التي أصبح يعيشها الإنسان في هذا الزمن الذي تبدل إلى مجرد ثكنة تولد الخوف والموت والملاحقات، وابتعد فيه الإنسان عن أخيه الإنسان. يقول في قصيدة(كن معا):
..كنت أحتاج الضوء والظلام
وثغرة تنفذ منها الريح
لليائسين من أرغفة الولاة والقضاة
والخائفين من ملاحقات العسس الليلي
أو وشاية الآذان في الجدران!!
ويعبر في قصيدة أخرى5، عن تبدل الوطن، وسيادة أحاسيس الضياع والعدمية التي تنشر الخراب المخيف في كل الأنحاء فيقول:
وطن للخراب الطلولي،
نهر تجررّه الصرخة الغائرة.
صخب، وبلاد تجلجل في حجر السمع،
والرعد يزرع أعضاءه..
ويتألم بلسان الإنسان المعاصر، لانفراط عقد الزمن السابق، زمن الحلم المشروع، وزمن البحث عن السعادة بما هي قيمة إنسانية ممكنة:
كنَّا في شمسِ طفولتنا وصبانا
نصطادُ فراشَ الأحلامْ..
لكن كل ذلك ولى إلى غير رجعة، وتبدّل الحال إلى زمن آخر هو زمن الهزائم والوهن العنكبوتي، وزمن الاحتراق والتشظي:
أزْمنَةٌ مرّتْ..
كانت تنثرُ فضَّتَها ورمادَ
كهولتها في الشِّعْرِ
وَوَهَنِ الخطوةِ
والجسدِ المهزومْ
زمن أصبح فيه الإنسان تجسيدا فعليا لصورته كما تخيلها الشاعر عبد المعطي حجازي 6:
(أنا هنا لا شيء، كالموتى، كرؤيا عابرة).
وكما يصوره عفيفي، ذاتا وحيدة متروكة، تستصرخ وتستنجد، ولا احد يغيثها أو يرحمها:
فتصرخ، لا تغاث بغير أن ينحل وجهك جيفة
تعلو روائحها فتعرف أن هذا الليل يبدأ،
لست تحصي من دقائقه سوى عشر استغاثات
لفجر ضائع تعلو بهن الريح جلجلة
لدمع الله في الآفاق..
هذا الليل يبدأ
ويكون هذا الإنسان الضحية، هو وحده المعني والمسؤول عن مصيره المحتوم، وهو المعني بتغييره، وهو المعني بخلق فجره الجديد من وسط عتمة ليله البهيم. كل ذلك بشرط أن ينزع عنه لباس الخوف والجبن، ويعزم على التحدي والصبر والمواجهة الفعالة والإيجابية. وهذا ما تبينه رائعته المشهورة (هذا الليل يبدأ) التي كتبها في ظلمة سجنه 7:
هذا الليل يبدأ
فابتدئ موتا لحلمك وابتدع حلما لموتك
أيها الجسد الصبور
الخوف أقسى ما تخاف.. ألم تقل؟!
فابدأ مقام الكشف للرهبوت
وانخل من رمادك، وانكشف عنك،
اصطف الآفاق مما يبدع الرخ الجسور..

* * * *

وخلاصة الأمر، فإن الشاعر الفقيد محمد عفيفي مطر، من خلال السمات الإنسانية التي ميزت كل أشعاره، ومن خلال اختياره نهج الشعر التحرري، بوصفه نهجا واختيارا في الحياة، وفي الرؤية الراسخة في وعيه عن وظيفة الشعر والفن في المجتمع، ومن خلال تكريسه كل حياته لخدمة الإنسان والدفاع عن قضاياه وعن كرامته، ومن خلال صدعه بصوت الحقوق الإنسانية، عبر الكلمة الشعرية الجميلة، وعبر الصيغة القولية القوية المجلجلة، التي تنبذ الخوف والاستسلام، وترفض الاصطفاف إلى جانب المعتدي الظالم، ولو أدى به ذلك إلى أن يفقد وطنه أو يفقد حريته، ما دام كل ذلك مستسهلا في سبيل خدمة الحق والعدل، وما دامت الغاية هي الحفاظ على كرامة الإنسان العربي والعروبة خصوصا، والانتصار للإنسان الكامل، الذي لا يمكن أن يذكره التاريخ، ما لم تتحقق فيه القيم الفطرية الأصيلة فيه، قيم الحق والعدل والحرية والكرامة والسعادة.
وهل سيذكر التاريخ الشاعر الفقيد محمد عفيفي مطر، إلا لأنه انتصر لهذه القيم، وجعل منها همه الوجودي، ووظيفته الإنسانية ورسالته الشعرية؟.
ومع توفر المكتبة المصرية والعربية والعالمية 8، على قصائد الشاعر الفقيد، الطافحة بالسمات الإنسانية الخالدة، هل يمكن أن نقتنع بأن هذا الشاعر قد مات؟؟...

الهوامش:

  1. كما عبر عن ذلك أمل دنقل في إحدى حواراته، مجلة 'خطوة'، القاهرة، العدد 5، 1983.
  2. مع الإشارة إلى أن الشاعر قد كتب للناشئة بما عنونه: 'مسامرة الأطفال كي لا يناموا'. كما كتب جانبا من سيرته الذاتية في كتاب سردي بعنوان: 'أوائل زيارات الدهشة'.
  3. عبد الباقي يوسف، العلاقة بين الرواية والسياسة، 'المجلة العربية'، العدد 390، 1430هـ ، تموز (يوليو) 2010 م، ص 63.
  4. فيكتور هوغـو (Contemplations)، نقلا عن ادريس أبو الهيف، مجلة 'الأقلام'، بغداد، العدد 7، س 14 ،ص 51.
  5. من قصيدة، نداءات على الجدران، مجموعة الأعمال الكاملة.
  6. أحمد عبد المعطي حجازي، الأعمال الكاملة، دار سعاد الصباح، كانون الثاني (يناير) 1993م، ص 27
  7. القصيدة التي كتبها في معتقل (طرة) بتاريخ(27/3/1991) لما سجن بسبب معارضته السياسة المصرية الرسمية في موقفها إزاء الحرب الأمريكية الغربية على العراق سنة 1991.
  8. يجدر التنويه إلى أن العديد من قصائد الشاعر الفقيد قد ترجمت إلى لغات عالمية مختلفة. وخصوصا الفرنسية والانكليزية والروسية والتركية.

7/7/2010

****

حافظ على استقلاله ودفع ثمن موقفه المناوئ للسلطة

ملف في ذكرى أسبوع على رحيل الشاعر محمد عفيفي مطر:

القاهرة ـ 'القدس العربي' ـ من محمود قرني مساء الاثنين الثامن والعشرين من حزيران (يونيو) رحل الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر عن دنيانا، بعد أن أسلم روحه إلى بارئها إثر معاناة مع مرض الكبد دامت أكثر من عشر سنوات.
وبهذا يكون الشعر المصري قد فقد واحدا من الأركان الأساسية التي نهضت بمشروع الحداثة الشعرية في مصر منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي. فرغم الظهور المتأخر نسبيا لمطر خلف أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور، إلا أن فرادة مشروعه الشعري سرعان ما وضعته وسط الجوقة المؤثرة والفاعلة في هذه الشعرية. وقد حازت تجربة مطر هذه الفرادة لما امتلكته من خصوصية على مستويات عدة. ففيما كانت تجربة عبد الصبور تنحو إلى احتذاء النموذج الأكثر هشاشة على مستوى اللغة والأكثر قربا من ضجيج العامة على مستوى الوعي وانتقال التجربة ـ فيما بعد - إلى مستوى من مستويات التأمل الذي دعاه إلى التحدث مطولا عن الوظيفة الإنسانية للشعر، بدت التجربة القشيبة لحجازي أقرب إلى تصور كل من لويس عوض ومحمد مندور حول الوظيفة الاجتماعية للإبداع. في مقابل ذلك بدت تجربة محمد عفيفي مطر الأكثر قربا للشعر الخالص. لذلك نجد شعرية مطر وقد التصقت بمفهوم أكثر قربا من التركيب الشعري والفكري والفلسفي على نحو خاص. وقد شهدت الى جانب ذلك قدرة متصاعدة على التكثيف اللغوي واستنبات الشعرية في تربة بدت ـ في وقت ما - مهجورة من قواميسها، ورغم الاتهامات التي لاحقت تجربة مطر بالغموض، إلا أنها ظلت التجربة الأكثر تأثيرا في الأجيال اللاحقة لا سيما في شعرية جيل السبعينيات والتجربة اللاحقة لها.
في الوقت نفسه ظل مطر ـ على المستوى الفكري والسياسي - يمثل حالة ناتئة حال مقارنته بالثقافة المؤسسية التي حاولت أن ترسخ لها الشمولية العربية في ظلال حكم أقرب إلى النماذج الفاشية. ورغم انضواء مطر في فترة من حياته تحت لواء أفكار البعث العراقي إلا أنه ظل يملك موقفا شديد الاستقلال عن أية مؤسسة ولم يراهن على شعرية تنقله من آفاق التركيب إلى آفاق المباشرة خدمة لموقفه السياسي. ونتيجة لهذا الموقف ألقت السلطات المصرية بمطر في غياهب السجن، غير أنها عادت وكرمته بمنحه جائزتيها التشجيعية ثم التقديرية.

ولد محمد عفيفي مطر عام 1935 في محافظة المنوفية، وعاش حتى رحيله في قريته 'رملة الأنجب'. تخرج في كلية الآداب ـ قسم الفلسفة، حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1989، ثم جائزة الدولة التقديرية عام 2006. كما حصل على جائزة سلطان العويس عن مجمل أعماله عام 2000.
أصدر مطر أكثر من ستة عشر ديوانا شعريا من بينها: 'من دفتر الصمت' 1968 ،
'كتاب الأرض والدم' 1972، 'احتفاليات المومياء المتوحشة'، 'فاصلة إيقاعات النمل'، 'رباعية الفرح'، 'أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت'، 'يتحدث الطمي'، و' النهر يلبس الأقنعة'، 'شهادة البكاء في زمن الضحك'، 'رسوم على قشرة الليل'، 'الجوع والقمر'، 'ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي'، 'مجمرة البدايات'.
وقد صدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق عام 2000، وكانت الهيئة المصرية العامة للكتاب قد تعاقدت مع مطر على طبع أعماله الكاملة في عام 1998 غير أنها تراجعت عن ذلك تحت الضغوط الأمنية. وهي مطالبة الآن بالتصحيح الفوري لهذا الخطأ.
وفي هذا الاستطلاع حاولنا الابتعاد بمحدثينا عن الأجواء التأبينية إلى مضامين أكثر التصاقا بالتجربة المهمة للشاعر الراحل، وهو ما فعله تقريبا كل المشاركين، وذلك لأننا نرى أن هذا هو ما يجعل التجربة المتدفقة لمطر مجالا ً حيويّاً للسجال، وهذا هو ما سيبقى منه.
أما وجعي الخاص بفقد أب روحي فأدخره لمقال مستقل، كي لا أثقل على من يرغبون في التعرف إلى تجربة مطر عبر أصوات شعراء ونقاد كبار يمثلون حصاد هذا الاستطلاع.

أحمد عبد المعطي حجازي
أيها الشاعر الكبير نحن أحوج إليك
أكثر من أي وقت مضى

الشاعر احمد عبد المعطي حجازي قال: إننا اليوم ونحن نؤبن عفيفي مطر فإنما نؤبن شاعرا كبيرا، وعزاؤنا أنه ترك فينا القيمة التي ستقرؤها وتتعرف عليها أجيال جديدة في الأيام القادمة. إننا نرى أنفسنا فيما يقوله شعراؤنا، لذلك فنحن ننصت إلى أنفسنا وخطرات أحلامنا في سطوره، وإذا كنا نؤبن مطر اليوم فذلك يعني أننا نحدق إلى أجمل ما فينا.
ومطر شاعر كان يمثل هذا المعنى ويصوره في أحسن صورة، يمثل جيله ولغته وشعبه، شاعر كان يجدد نفسه كلما تعلم قصيدة جديدة، يجدد الشعر ويجدد الزمن، يكتب الكلمة بحقها، تعلم من الفلاحين المصريين الذين انحدر من أصلابهم أن الكلمة هي الوحي وهي النهر والطمي والجميز والصلصال باعتبارها أرواحا، فكلمات مطر ليست كلمات منتزعة من عالمها، إنما هو ينقل لنا العالم بروائحه وأشواقه.
واختتم حجازي كلمته قائلا عن مطر: أيها الشاعر الكبير انك تعلم ما آل إليه حال الشعر والفكر والكلام، نحن اليوم أحوج إليك أكثر من أي وقت مضى.

محمد عبد المطلب
مطر.. جيل شعري بكامله

لقد سكن محمد عفيفي مطر منزله الشعري في (رملة الأنجب) منذ مولده في عام 1935م، لكن عقد السكنى كان في عام 1957 عندما قدم أول مستندات الملكية في قصيدة 'فردوس بائعة المانجو'، والعنوان ذو دلالة واضحة على الواقع الاجتماعي للبيت، من حيث انتمائه إلى الطبقة الدنيا التي بدأ منها عفيفي مطر أولى إجراءاته في تأسيس هذا البيت. ومن المؤكد أنه كانت هناك محاولات سابقة على 'فردوس' لكنه كما يبدو أسقطها عمدا، إذ أن البدايات كانت إرهاصا مشبعا بـ (الهوس الشعري) قراءة وتذوقا وحفظا، ثم إنتاجا أميل إلى الفطرة في كتابة الأزجال والقصص وبعض الأشعار. وربما كان الإسقاط إشارة مبكرة إلى وعيه بالعالم ومفارقاته المأساوية الممزوجة بكثير من الزيف والخداع، ومع بكورته في الوعي قرأ عن الدعوة إلى السلام. لكنه رآها دعوة مدفوعة الأجر، وسطوتها كانت غالبة حتى شغلت الواقع العالمي بالصوت المرتفع لـ (أنصار السلام)، وفي ظل هذا الصوت المرتفع جاءت قصيدة عفيفي 'أريد السلام' يقول عنها: 'كانت قصائدي المبكرة الأولى هراء يعيد إنتاج الهراء، كانت أولى قصائدي التفعيلية الطويلة بعنوان (أريد السلام)... كان غليان دمي واضطراب وهيجانات أفكاري قد خنقت مراهقتي، وحاصرت خطواتي الأولى، وما كدت أسأل نفسي: السلام بين من ومن؟! ومع من ضد من؟! وأنت أيها الشاعر التافه لا تملك في الحرب أو السلام في العالم عيرا أو نفيرا'.
إن انفتاح وعي عفيفي المبكر حوّله إلى متسائل دائم، بل تحول هو نفسه إلى سؤال دائم، ومن ثم كانت تصدر عنه الأسئلة لتتجه إليه قبل أن تتجه إلى غيره، وكان سؤاله الأول: من الذي يقود العالم: الإنسان أم السلام؟ وعندما باع أبوه مسدسه بعشرين جنيهاً، كان سؤاله الفاجع: بكم باعت الشعوب سلاحها؟ لكن إسقاط عفيفي لشعر البدايات لم يهز ثقته في أن المنزل الذي سوف يستقر فيه هو (منزل الشعر)، وسكنى هذا المنزل هي التي سوف تنقذ إنسانيته، وتفتح أمامه مسالك الرؤية والوعي، وتحرره من إحساس الخوف من الموت في توافه الهموم اليومية في القرية.
إن شعرية عفيفي مطر هي شعرية التراكم لا القطيعة، وكأن قصائده عمرها ألف عام مع أنها بنت لحظتها، وهذا البعد الزمني المتوهم جاء لأن الإنسانية كلها حاضرة في هذه الشعرية، حاضرة بعقائدها وأساطيرها وخرافاتها وفلسفاتها وأحلامها وتاريخها.
ولا يمكن بحال أن نفصل هذه الشعرية الإنسانية الحضارية عن ذاتية عفيفي وهمّه الوطني والقومي والإنساني.
إن قارئ مدونة عفيفي الشعرية سوف يقابل العالم كله في شخوصه المقدسة وغير المقدسة، في فلاسفته ومفكريه، في شعرائه وفنانيه، في زعمائه وطغاته، في سحرته ومخادعيه، في مناضليه ومتخاذليه.
إن عفيفي رائد لزمن شعري، لا لجيل من الشعراء، هو زمن البكارة والجدة، وزمن النضج والاكتمال الذي لا نسأل فيه: ماذا قال هذا الشاعر؟ وإنما سؤالنا الأول: كيف قال ما قال؟.

أحمد لطفي رشوان
شاعر وأكاديمي

المكلوم بشهوة التجريب

كان الشاعر محمد عفيفي مطر ـ كما رأيته وأراه - مكلوما بشهوة التجريب، فتحمل عذابات التحول، وتجهز للغزو، متسلحا بقناعته بأن التطور ضرورة ملحة، وثقافته متعددة الأبعاد، وموهبته القادرة على استغلال كل إمكانات اللغة الدلالية والتخييلية والإيحائية في إنتاج نص مختلف، وشعرية مختلفة، منطلقة من أيديولوجية جمالية مفارقة لما هو سائد، تسهم في طرح مفهوم أكثر عمقا لماهية الشعر وكيفية إنتاج جمالياته. ولذا، فقد كان لفتوحاته أثر كبير في عقل ووجدان ومن ثم تجربة الكثير من شعراء الأجيال التالية له، الذين أفادوا من تجربته إفادة ملموسة، سواء بتبني معطيات هذه التجربة، أو حتى بالانقلاب عليها ونقدها، (وربما وصل الأمر إلى محاولة نقضها في ظل ثقافة نفي الآخر المسيطرة حاليا). ومن ثم، فليس من المبالغة القول بأن الإنتاج الشعري للشاعر الكبير محمد عفيفي مطر يمثل علامة بارزة في مسيرة الشعر المعاصر في مصر، وفي العالم العربي.
لنا أن نرى في نصوص عفيفي مطر الشعرية نمطا متميزا من أنماط المقاومة، فبالإضافة إلى كون الإبداع بجميع أشكاله واتجاهاته يمارس ضربا من ضروب التمرد، الذي يعني وجود وضع أو نمط سائد يحاول المبدع من خلال إبداعه الفكاك من أسره، عن طريق إعادة صياغة أو إنتاج العالم في نصه الإبداعي، وهو بسعيه لإنتاج ذلك العالم الموازي المختلف يمارس شكلا من أشكال المقاومة الجمالية، التي يحاول فيها الانتصار على أوضاع سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية لا يستطيع فرض إرادته عليها، وخلق حقائق جديدة على الأرض (خارج النص)، بالإضافة إلى ذلك فإن نص عفيفي مطر مارس مقاومة نصية (إن صح هذا التعبير) لأنماط من الخطابات الشعرية الموازية، تميزت بالثبات الذي يؤدي إلى الجمود، الذي يتنافى مع أبسط سمات النص الإبداعي وهي الحركة والفاعلية والسعي إلى التغيير. وبالتالي فهو نص مقاوم أيضا لآليات التلقي التي ارتبطت بهذه الخطابات التقليدية.
وعلى المستوى الأبعد والأعمق فهي نصوص مقاومة لنمط الثقافة الاستهلاكية السائد والمسيطر على حياتنا، على الرغم من تمثلها لواحدة من أهم سمات وتقنيات تلك الثقافة، ألا وهي (الإبهار)، فنص عفيفي مطر مبهر بغموضه، وبجمالياته متعددة المصادر، وبهذا الحشد من العوالم المختلفة التي تتعانق وتتصادم وتتشابك وتتنافر في حيز نصي صغير، مستفيدا من موهبته، ثم خبرته في استثمار طاقات اللغة الإيحائية لطرح رؤى وأفكار واستحضار سياقات ثقافية متباينة في لغة مكثفة مقطرة.
لكن نصوصه تختلف بالطبع (بما أنها تقاوم) عن معطيات تلك الثقافة الاستهلاكية التي تستخدم هذا الإبهار لإخفاء خواء المضمون الكامن خلف هذا الشكل، أو على أحسن الفروض، للتعتيم على مضمون مشوه يراد ترويجه والتسويق له، فنصوص مطر تستخدم هذا الإبهار للفت الانتباه إلى ما ورائها من مضامين عميقة ورؤى فلسفية وقبل ذلك كله وجهة نظر وأيديولوجية جمالية فاعلة ومؤثرة أنتجت تجربة شعرية جادة.

رفعت سـلاَّم
شاعر ومترجم مصري

مَطَـر..الخارج على مجالس السلاطين

صوتٌ حوشيٌّ غريب، بالغ الفرادة. لا يشبه صوتًا في غابة الأصوات الشعرية المتلاطمة في الخمسينيات والستينيات العربية من القرن الماضي. ولا تتخلله أصداءٌ ما من الذاكرة الشعرية الممتدة خمسة عشر قرنًا من الكلام العربي.
أهو صوتٌ صاعد من أعماق الأرض السحيقة، أم هابط من طبقات السماء المكفهرة، المنذرة المتوعدة؟
لكنه - في نفس الوقت - صوت يحتشد بلغات الأسلاف الغابرين، المنسيين في هوامش التاريخ المهجورة، المنسية، وإيقاعات العناصر الأولية المتلاطمة المتضاربة، وخيالات الجموع التي تجابه مصائرها بعين مفتوحة عن آخرها.
ليس صوت الضمير الفردي، ابن المدينة، المعذَّب بالحيرة الوجودية، والأهواء الغامضة، والقلق المُضني بلا نهاية؛ بقدر ما هو صوت جحافل الإنسانية الزراعية / الرعوية التي تضرب في الأرض، بحثًا عن حقها في الحياة والكرامة. هو صوت 'الأنا' الجمعية، التي لا ينطلق صوتها إلا في الفرح أو المحنة، في العُرس أو الجنازة.
ولأنه صوت 'الأنا' الأولية الإنسانية، فهو 'الراوي' الذي يقدم عذابات مسيرها، وتفاصيل حلمها المؤجل أبدًا، وهو 'الشاهد' الذي رأى الملك عاريًا، ويعرف ملابسات الجريمة، وملامح القتلة ودم الضحية، وهو 'القاضي' الذي يحكم بالإدانة والبراءة، وهو 'النبي' الذي يلقي برسالته إلى الجموع، ويعرف ما تخبئه الأقدار لهم، وهو - في نفس الوقت - الضحية الذي تخبط بين المطرقة والسندان.
ولهذا غيَّبته التواريخ الرسمية، ومحاضر النقاد البررة، ومجالس السلاطين والملوك. فهو الصوت غير المرغوب فيه. كلماته حوشية، خشنة، كالأحجار البدائية، غامضةٌ داكنة وبيلة، من الطبقات الأولى للغة التي تستكن بعيدا في تلافيف الذاكرة، لا اللسان. وخيال مسكون بتحولات العناصر الأولى للكون والوجود، في لحظة السديم الأولى قبيل التشكُّل، لكنه خيال تندفق فيه الصور بعرامة نادرة، كطوفان مفاجئ بلا مقدمات، تتوالد فيه الصور من بعضها بعضـاً، وتأخذ فيه بخناق بعضها بعـضاً، متزاحمة، متشاجرةً، متصارعةً على حقها في الوجود.
فللقصيدة أن تأخذ حقها كاملاً منه أو منا، بلا حدود. وله أن يستسلم لفيضها أو فيضانها كقديس يتلقى الوحي بلا سؤال أو تساؤل. ولها أن توقظ الأسئلة الشائكة، عن الوجود والشعر، التاريخ والأسطورة، الزراعة والترحال، الوعي والغيبوبة، والحضور الإنساني الصامد في الكون في وجه العذابات اللانهائية.
قصيدة لا تعترف بالبساطة أو السهولة، أو المزاح أو الاستخفاف. فالحياة - بالنسبة لها - ليست مزحة، على ما يقول البعض، بل مأساة مريرة عصية، يكابدها المرء من المهد إلى اللحد، مرفوع الرأس، حتى تحت السياط وخيالات الموت.
ولهذا، فهي قصيدة غير قابلة للاستهلاك، فثمة دائمًا طبقات تحتية لا يدركها البصر، بل البصيرة، لا تلمسها الأصابع، بل شرايين القلب. طبقات بمنأى عن الفضوليين والعابرين وأبناء السبيل، لا تمنح نفسها - بعناء، وبالكاد - إلا لمَن يكد من أجل الوصول إليها، بإخلاص المتصوفة الزاهدين، والسائرين على الماء.

سهير متولي
شاعرة وصحافية

المُسامر.. صائد اليمام

شهادة عن 'محمد عفيفي مطر'، كيف ومن أين ابدأ شهادتي؟ سؤال صعوبته تكمن في أنني أريد أن أقول كل ما أعرفه وأحمله لهذا الرجل وهو كثير، قلت لِم َ لا أسمح لنفسي أن تتنفس على فضاء الورق بحرية وبساطة وصدق إحساسي به ولتخرج الشهادة كيفما اتفق، وأعلم من البداية أنني لن أستطيع قول كل شيء، ولكن مطر يستحق أن نفرح به ونقول له ما لم نقله.
تفتحت عيني على وجود مطر في بلدتي كفر الشيخ، كنت أحمل له - دون أن يدري - مجموعة من المشاعر الجميلة الفياضة التي ظلت على حالها كلما مر الزمن، وكلما تطورت علاقتي بالواقع سواء الثقافي أو غير الثقافي.
كان مطر صديقاً لوالدي - رحمه الله - ورغم أن والدي كان رجلاً قليل الكلام، إلا أنه لم يكن كذلك فقط حين يتحدث عن مطر، فأحببته أولاً من حديث والدي عنه. ولكن متى شاهدتك يا مطر لأول مرة؟ لا أذكر تحديداً، وليس مهماً أن أتذكر! كل ما أذكره أنني كنت في المرحلة الابتدائية، وكان مطر مدرساً في نفس مدرستي الابتدائية التي كانت للمعلمين صباحاً، ولنا تلاميذ المرحلة الابتدائية بعد الظهيرة، ولم أكن أعلم أنه مدرس فيها، وكانت الصدفة - التي ربما لا يتذكرها مطر إطلاقا ً- حينما رأيته جالساً في فناء المدرسة تحت شجرة 'الكافور' مع عدد من تلامذته كانوا يفترشون الأرض من حوله، ولا أدري فيما كانوا يتحدثون، ولكن نظرات تلامذته له، تلك النظرات المعجونة بالإعجاب والتقدير والاندهاش ما تزال عالقة بذاكرتي، كانوا يلتفون حوله لا يطرف لهم جفن وهم يستمعون إليه.
وتطورت رؤيتي لمطر الذي كان له وجود متميز على مستوى الكتابة الفارقة والمغايرة، وعلى مستوى النشاط الثقافي أيضاً، فقد كان مسؤولا عن مجلة 'سنابل'، تلك المجلة التي استطاعت احتضان وإفراز حركة شعرية ثورية في الوقت الذي كانت قد توقفت فيه عدد من المجلات الثقافية، وأثبت مطر للمرة الأولى - وحتى الآن الأخيرة - أنه لا شيء يُدعى نشاطاً ينحصر فقط في العاصمة، فقد استطاعت سنابل التي كانت تصدر من محافظة صغيرة، هادئة، استاتيكية، أن تكون حدثاً فارقاً في الحياة الثقافية، ولكنها - مثل كثير من النشاطات الجادة - للأسف أُُغلقت دون أن تكمل دورها الرائد.
كانت فترة اغتراب مطر عن كفر الشيخ وعن مصر كلها لها وقع ثقيل على نفسي، كان الفراغ والإحساس بالفقد ينتابانني خاصة حينما أمر على نافذة بيته المغلقة فأتصور أن هناك أحداً وراءها وأسأل نفسي: تُرى هل عاد مطر ونفيسة؟
وكبرت، وكبرت رؤيتي لمطر ولإنجازه الشعري، وكنت كثيرا ما اقرأ عن الاستمتاع باللغة الأدبية، ولكنني لم أعش تلك الحالة من الاستمتاع باللغة إلا مع كتابات قلة من الأدباء والشعراء كان 'مطر' أولهم، فالإنجاز الشعري لمطر تمتزج فيه الرؤى، بالصورة، بالأسطورة، بالإيقاع، بالقاموس اللغوي الخاص. كنت دائماً أقول أن هذا الشاعر يكتب وهو قابض على جمر الإحساس بمسؤولية البصيرة وسط عميان ! حاملاً حلم أن تخرج أمته من أسر محاولات تركيعها حتى على مستوى اللغة الشعرية، شاعر يرفض الخضوع والخنوع والتغييب بكل أشكاله، لا يكتب لمن يستسهلون المعرفة. شاعر مُجهد في قراءته يحتاج ذهناً متفجراً بالرغبة في المعرفة، ولكنه الغموض الذي يستبين بالجهد والوعي لمن يمتلك وهج الحضور لا عتمة الغياب.
وثم منذ سنوات قلائل أصدر مطر كتاباً للفتيان وتساءلت، كيف سيتوجه مطر إليهم بكتابته وهو المُجْهِد شعرياً؟ وما الذي يريد أن يقوله؟ وكيف سيقوله لفتيان وفتيات هذا الزمن الذي يُعلي من ثقافة الاستهلاك والميوعة والانكفاء المستذل على تقليد أسوأ ما في الغرب؟ وكانت الإجابات، فهو ما زال على عهده حتى حينما يتوجه للفتيات، لا يغيِّبهم في التسلية كما يفعل كثيرون، لقد انهزمت على يديه 'حدوتة قبل النوم' - رغم احترامي لما كانت تمثله من تحفيز لخيال الطفل قديماً - ولكننا نعيش زمناً مختلفاً، لقد جاء الشاعر ليسامر فتيان الوطن 'كي لا يناموا'، فعنوان كتابه هو 'مسامرة الأولاد كي لا يناموا' مؤذناً بداية من غلاف كتابه أنه جاء ليوقظ، يكتب لأجيال يراهن - في الزمن الصعب - على قدرتهم على أن يشبوا من أسر كل أشكال الهوان والمذلة والخمول.. يحلم مطر بأنهم قادمون ونحلم معه.
في كتابته للفتيان استنهاض عبقري لقيم العدل والحرية والمقاومة والعطاء وتصوروا. 'الكرامة' يا الله ! منذ متى لم أقرأ هذه اللفظة؟!
الحقيقة أنني مدينة لهذا الرجل بفرحتي الحقيقية بكتابة تستنهض كل ما هو جميل في ميراثنا الثقافي والشعبي والوجداني. تستنهض القارئ البائس الذي يعيش أكلح وأقبح فتراته التاريخية.
مدينة له لأن الكتابة التي يصل جمالها إلى حد انسكاب دموع الرغبة الجموح في استعادة الدهشة والإحياء والتعمير، وامتلاك البقية الباقية من شهب حماسنا، والكتابة التي تستحوذ على عقل ووجدان ومشاعر قارئها وتجعله مسؤولا مع كاتبها عن الحلم الذي فضح خواء عزائمنا وواقعنا كتابة تستحق أن ننحني أمامها حباً واحتراماً.

رمضان بسطاويسي
أكاديمي وناقد مصري

مطر فيلسوف الشعراء

في الوقت الذي كانت تتشكل فيه قصيدة الشعر الحديث، ولها في مصر صوتان (عبد الصبور، وحجازي) ظهر صوت عفيفي مطر بنسيج متفرد وخاص قدر الإمكان. وبدءا من ديوانه 'رسوم على قشرة الليل' والاختلاف واضح بينه وبين الثنائي - عبد الصبور وحجازي ـ ثم غرد بعد ذلك في 'الجوع والقمر' لكتابة الخرافة الشعبية. أما الخطوة التي ساهمت في ابتعاد مطر عن الطرق المألوفة التي يفضلها النقاد، وبالتالي ساهمت في حجم التغييب الذي أوقعه النقاد على عفيفي مطر وإسهامه الشعري فتتمثل في ديوانه 'النهر يلبس الأقنعة'، حيث يمزج المرجعيتين: اليونانية والإسلامية ببعضهما، بعد استدعائه إياهما كلا ً على حدة، الإسلامية في 'البكاء في زمن الضحك' واليونانية في 'أنبا دوقليس' ليبدأ المزج الخاص جدا في تقنية الكتابة اللغوية، ثم نرى للمرة الأولى الكتابة التي يتوازى فيها الهامش الكتابي المفسر للمتن الشعري.
وفي دواوينه الأخرى مثل 'الجوع' تتجسد براعة عفيفي مطر في استخدام أقنعة المسرح في شعره، وخاصة في ديوانه 'البكاء في زمن الضحك' وكذلك استعادته تقنيات متعددة التشكيل في أعماله مثل أسلوب المونولوج الداخلي، وهو من أبرز تيار الوعي لأبطاله داخل القصيدة، وهو يستعين بهذه التقنية حين يقترب صوته المباشر من الظهور، حتى لا يمزق الستارة التي يتقنع بها الشاعر.
وكذلك في دواوينه الأخرى: 'القمر' الذي صدر عام 1972، 'يتحدث الطمي' الذي صدر عام 1977، 'رباعية الفرح' الذي صدر عام 1990، 'احتفالية المومياء المتوحشة'، 'مسامرات للأطفال كي لا يناموا'. وقد كتب عفيفي مطر عن الشاعر الفارس 'محمود سامي البارودي'، قصيدة الحرب في الشعر العربي وتظل صورته وشعره مرسومين في مخيلتي كثيرا. وأتذكر أن أول ديوان قرأته لعفيفي مطر كان 'رسوم على قشرة الليل' الذي جذبني كثيرا بموسيقاه الدافقة التي جعلتني أتعرف على عالمه الشعري وفلسفته في الكتابة، وقد كتبت عن الديوان الجديد الذي صدر وقتها لمحمد عفيفي مطر 'أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت' في مجلة 'ألف' التي تصدرها الجامعة الأمريكية في القاهرة تحت عنوان 'أنطولوجيا الجسد والإبداع الثقافي في شعر مطر' 1991، وهزني إهداؤه الذي يقول فيه: 'إلى محمد: سيد الأوجه الطالعة، وراية الطلائع من كل جنس، منفرط على أكمامه كل دمع، ومفتوحة ممالكه للجائعين، وإيقاع نعليه كلام الحياة في جسد العالم'. ثم قرأت ديوانه الثاني 'كتاب الأرض والدم'. واتضح فيه أن عفيفي مطر قد درس الفلسفة بعمق، فأصبح فيلسوفا للشعراء، يفتح أمامهم آفاقا إبداعية جديدة، ويحلق في تخوم لم يصل إليها أحد من قبل، وأدركت أنه صاحب تجربة روحية عميقة وليس مغتربا عن تراثه اللغوي والفلسفي، ونجد هذا بوضوح حين نتأمل بعض جماليات هذا الشعر الذي تكمن وراءه نظرات فلسفية عميقة، واجتراحات وجدانية كبرى. وجدت أن مطر مدرسة شعرية قائمة بذاتها، وأنه تجربة شعرية متميزة لم يصل إليها سوى القليل من الشعراء العرب المعاصرين، سواء من مجايليه أو الأجيال اللاحقة له.
وهو شاعر فيلسوف، مثقف ثقافة واسعة وعريضة، وليس من السهل على نقادنا التقليديين متابعة أعماله، وتحليلها، والوقوف على أبرز سماتها الفلسفية والفنية والأسلوبية. إنه يحتاج إلى ناقد يرى النقد تجربة فيها قدر كبير من المغامرة في التعامل مع النص بصدق وخلق حوار مواكب ومسؤول مع النص، وليس قراءته من خلال تصنيفات جاهزة وأحكام مسبقة.
و إذا تأملنا مسيرة حياته منذ ولد في قرية رملة الأنجب، المنوفية، مصر عام 1935،حتى حصوله على جائزة مؤسسة سلطان العويس الثقافية في عام 1998 تقديرا لأعماله الشعرية المتميزة، نجده قد ارتحل صغيرا، مع الأسرة إلى كفر الشيخ، في وادي فرعون حيث بقايا مدينة بوتو القديمة، واستقر فيها في مرحلة السبعينيات، وقام في تلك الفترة بإصدار مجلة ثقافية إبداعية هي مجلة 'سنابل'، واستطاعت المجلة أن تحتضن حركة شعرية متميزة وظهر من خلالها جيل شعري بأكمله في مصر ممن أطلق عليهم فيما بعد شعراء جيل السبعينيات. ويروي الدكتور جابر عصفور في مقالته المهمة عن أمل دنقل 'أنه نشر قصيدته للمرة الأولى في مجلة (سنابل) التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر من محافظة كفر الشيخ' أيام المحافظ إبراهيم بغدادي الذي اتصل به يوسف السباعي، وطلب منه إغلاق المجلة بعد أن نشرت قصيدة (الكعكة الحجرية). لكن القصيدة ظلّتْ تُقرأ في الجامعات التي حضرها أمل دنقل الذي أصبح أكثر الأصوات الشعرية المتمردة تجاوباً مع وجدان الطلاب الساخطين. ولكن تم تضييق الخناق على مطر؛ فاضطر إلى أن يرحل إلى العراق تاركاً مصر، ومكث هناك حوالي عشر سنوات مكوناً صداقات مع عدد من شعراء العراق.
وفي أثناء تواجده في العراق، ازداد اشتعال جمرة الرفض والتمرد في كتابات عفيفي مطر، حيث قام بكتابة ونشر أحد أبرز دواوينه وهو 'أنت واحدها، وهي أعضاؤك انتثرت' وفي هذا الديوان تبلورت ملامح تجربة عفيفي مطر الحداثية، ورغبته في تجاوز ما هو مألوف، والتمرد على مختلف الثوابت الجمالية والمجتمعية والسياسية في آن واحد. ويبدو التمرد في تجربة عفيفي مطر كياناً مستقلاً بذاته، فهو تمرد من أجل صورة أفضل للحياة، أو رفض من أجل الحقيقة، من دون الانخراط الاستسهالي في سياق أي تيار سياسي حزبي مؤقت أو زائل. وبعد عودة عفيفي مطر من العراق استقر في قريته في محافظة المنوفية، كموقف مما يجري في المشهد الثقافي العربي.
و قد ظل عفيفي مطر حتى رحيله أبرز الشعراء المصريين، فهو لا يكتفي في شعره، كغيره، بغموض المعنى وغرابة التراكيب فقط، بل ينتزع من التراث مفردات خاصة بها مسحة الفطرة والطاقة الروحية، وإن تصالح مع جمهور الشعر مؤخرا، بشعر عذب أقل وعورة.. كما تقوم معانيه على المعرفة التي تهدف إلى الحق في إبداء المناصرة للإنسان والقيم الجميلة، ومقاومة الظلم والطغيان.

مراد السوداني
شاعر فلسطيني ورئيس تحرير مجلة الشعراء
التي يصدرها 'بيت الشعر' في رام الله

آخر الشعراء الملوك

استطاع الراحل الكبيرعفيفي مطر العثور على مفتاح الذهب في تجربته.. فقام بـ' أسطرة الأسطورة' وربما رفعها للتربيع أو التكعيب أحياناً، في محاولة للبحث عن الإيقاع الأصيل والرؤيا الفذّة القادرة على النفاذ والتجاوز.. وعلى محور المكان كنقطة ارتكاز مشعّة بنى عفيفي معماريته الشعرية، وهندس قصيدته بـ 'طاقة المكان' وقوّتَه وسطوته، فمن طمي النيل وخفقه السيّال وغرين الماء الغمْر نسج مساحة التجريب ودفع الكلام إلى قمة الاشتعال وحمى التكوين وجلجلة العناصر.. وبين سفاد النثر والشعر تخلّقت القصيدة 'المطرية' بما يضمن لها الفرادة والاختلاف والريادة.. وباندغام الفلسفة مع الشعر ضمن عفيفي لنصه حرية التحليق ولياقة الريح وسطوة هبوبها اللافح..
بكل هذه الحمولة المعرفية تقدم عفيفي مطر لصياغة مشروعه الشعري دون الالتفات إلى غمغمة الأضواء الكالحة.. ونفاق أبواق العجزة ومتسوّلي الكتابة.. وانحاز لروحه وهدير قلبه ورائحة التراب المشمول بحناء الدم وصدق التجربة وتغوُّل الإيقاع المغترِب عن السلاسة والنعومة والصفاء.. فنصّ عفيفي المتراكب والملغوم حاصر محاصريه وحاسديه الذين رموه بالغموض أو الاستغلاق.. ومخالفة الذائقة.. متناسين أن الكتابة العابرة للزمن ليست كتابة ترف، بل هي هَبْو القلب وعصارة المعرفة مسفوحة على بياض الورقة.. ورغم ما أهيل على مشروع عفيفي من تراب بقصد الإلغاء والمحو.. إلاّ أن نقاط الضوء في النصّ كانت ممحاة العتمة وشواظ ردٍّ مقنع على اصطفاف النخاسة والأوراق الصفراء..
إنّ ما تعرّض له عفيفي من سجن وتعذيب وتهميش، لم يفقده مضاء العزيمة وشموخ النزال، بل استطاع أن يحوّل الضعف إلى قوّة والإلغاء إلى بقاء.. والحصار إلى رياضة روحية لاجتراح النصّ المدمَّى والنادر.. وهكذا تنفتح الزنزانة على زمن القمع في التاريخ فيستحضر عفيفي في اعترافاته الأسماء الحركية لأصدقائه الإرهابيين: سقراط، ابن رشد، السمندل، النفري، أورفيوس، السعلاة. ... ومتتاليات الروافض وكواسر الكتابة.
يحضر الألم والظلموت المؤرّث بكامل حمولته وينشعب في النصّ، وكأنّ الزمان الدائري قدر البلاد وحظّها الوافر.. الخنومية الجديدة ما زالت تستهوي السلطة لإبداع مستحدث التعذيب وكيمياء الشبح وهرير الجلادين.. المدّخرين في الفواخير الأزلية عتاة لكل العصور..
الزنزانة كتصميم للمكان تؤكد مساهمة السلطة، أية سلطة في تحويل الأمكنة إلى معمارية سجنية.. ومدافن لكافة الأرواح الحرّة والأصوات اللاهبة، التي تقترب من سرّ الفقراء وتقلّب حجارة قدورهم الطائشة، فـ 'عبقرية المكان' استحالت أهوالاً من الزنازين والقمع وإعادة إنتاج الموت بطرق حداثية تماماً ليست أقلّها الكهرباء ومشتقات القتل وحثالة التحقيق.. ويبقى الشاعر فضّاحاً للظلم وشاهراً قلبه قبّرة مدمّاة.. لتنضج القصائد مثل رغيف حار مشوية في أفران التعذيب.
عفيفي غوّاص المدّونات القديمة والأوراق السالفة، امتص رحيق التراث وصاغه بمهارة الصانع عبر تناصٍ متراكب وتحويرٍ لافت، مما جعل لقصيدته مذاق التميّز والمخالفة.. عفيفي مطر نفـّريّ دهمته الغربة بين قرى مصر والبصرة، فأنضجته المنافي وأمدّته بإكسير المجاهدة ونبض الكلمة والصيرورة الداهمة.. وليس غريباً أن يهدي ديوانه 'أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت' إلى النبي محمد (ص)، 'سيد الأوجه الطالعة'.. فعفيفي لا يخجل من هذا النسق العربي - الإسلامي، جذرنا المشع وعنصرنا الأنقى. فالشاعر ليس بمستلب ووفيّ لهذا التراث وما فيه من إشعاعات.
لم يلتفت عفيفي إلى جوقة النقاد الكسالى، كان همّه إتيان الجديد وغير العادي والتواضع الجمّ وهذه ملوكية العارف والمتسائل الحقيقي، فطوبى للعارفين.
فليس من العجب أن تصطفَّ ماكينة الإعلام والترويج ضد عفيفي ومن شابهه من الأصوات الثورية والمناضلة في هذا الزمن المهزوم والتردي الشامل والسقوط المريع، وليس مستهجناً أن تفتح الأبواب وتتهيأ الظروف للخطاب المنكسر والقبوليين، وتجار الدم والمرائين والكذبة.. فإيّانا والضلال!
إنه 'أبو لؤي' . له قسوة الرعد وهُجاس الشجر الحربي.. لياقة النهر أخصّ صفاته.. المتحوّل عن عمق.. والبعيد مثل نجم لافح.. بين شقوق أصابعه العاليات تنهض لغة الحلم ويصهل عويل الأيام المرّة وصهد الحزن الناقع.. جسده منحوت من رخام الفواجع. وفي صوته رنّة الريح في بوالي الطلول.. طافح بالحرية ومجنونها. .
إنّه محمد عفيفي مطر، آخر الشعراء الملوك.. وضلِّيل البلاد التي أضاعته.. عفيفي المُنادى مثل غريب، زجّاج الشطح والدمع.. يسعل الكلام يابساً وجارحاً.. وما إن تقرأ نصوصه حتى تفجؤك اللغة بإيقاع الدم الناري وشهوة التدفق وغموض منكشفٍ شفيف.. فتجوح ريح وتسري الخضرة في الحجر ومتاهات الرمل.. وينفر القطا.
في جامعة بيرزيت العام (1995)، نلتف حول الشاعر الرائي حسين البرغوثي.. في محاضرات حول قوانين الشعر العربي.. ويخصّ المعلم عفيفي مطر بثلاث دراسات طوال، يفككك فيها مجموعتيه 'فاصلة إيقاعات النمل' و' احتفاليات المومياء المتوحشة'.. وهي سياحة في عالم مختلف لشاعر مختلف ومغاير.. أتخيّل حسين بحضوره الأسطوري يقدّم ولأول مرّة شاعراً باحتفاءٍ ورضى شديدين. وحسين - رحمه الله - غير مجامل وتحديداً فيما يخص الكتابة.. أشار حينها إلى شمولية النصّ (المطري) وسطوة الإيقاع لديه وفيض الرؤيا.. وخصوصية اللغة التي جعلت من صاحبها علامة فارقة في النص الشعري الحديث وكأني بالمعلم يقول: أحبّوا هذا الشاعر، ثمة خصوصية، انتهبوا.. منذ ذلك اليوم وعفيفي دليلي. باختصار شعرت بأنه قالني تماماً ولا داعي للاستمرار في الكتابة.. قالني وكفى!.. لم تنشر محاضرات معلمي حول عفيفي.
ياهٍ.. الموتى يتذكرّون الموتى..

أحمد الفيتوري
روائي وشاعر ليبي

عفيفي مطر يسكن طمي الخليقة

انبثق محمد عفيفي مطر في الشعرية المصرية مفردا، تميز بشعرية ضد السائد أيا كان السائد وأنه خارج السرب، وامتزجت هذه الشعرية بعجين الثقافة العربية المصرية، فكانت شعرية خصوصية حتى التماهي في جوهر كل ما هو إنسان، متخلقة وخالقة لغة الوجود الإنساني المتعين في الزمان باعتبار الزمان صيرورة الإنسان في عين مكان، وفي المكان حيث المكان من إبداع إنسان يخلق زمانه ويحقق وجوده.
وامتزج الشاعر في الشعر فكانت حياته شعره، (سنابل) الجهد والمثابرة والبحث والدرس وفلسفة المعنى، ولهذا كانت مجلة (سنابل) التي أصدرها في نهاية الستينيات حيث لم يكن من السهل الكتابة فما بالك بإصدار مجلة في كفر الشيخ بلدة الشاعر! هذه المجلة التي قدمت المتميز والأصوات الجديدة والمعروفة حاليا في راهن الثقافة العربية.
هكذا جاءت أوائل زيارات الدهشة ــ هوامش التكوين كسيرة ذاتية متماهية تتشكل وتشكل الموضوع: (كان قلبي معلقا بين مخالب طائر جارح محموم بالسياحات في الأعالي. علوة فزع ورعب، وانطلاقاته كارثة احتمالات، ومناوشاته لعب فوضوي بين الأمل والموت، وكلما حط ليستريح نفرته الدهشة بزياراتها المباغتة، وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المرة والغربة الفسيحة).
قرأت أكثر من مرة كتاب الشاعر المصري الأبرز: (أوائل زيارات الدهشة ــ هوامش التكوين)، وهو سيرة ذاتية، أدهشني الكتاب، وأدهشني عدم الاهتمام به!.
وكنت قرأت جل شعر محمد عفيفي مطر الذي صدرت دواوينه في طبعتها الأولى خارج مصر عدا ديوان واحد، أصدره على نفقته.
فما الدرس، درس الكتاب؟.. هو الصدق الذي سربل حياة هذا الشاعر والإنسان، وأن ليس ثمة مسافة بين كينونة الشاعر والإنسان فالحياة واحدة ــ وليس بالإمكان تجزئتها ــ كما الحرية، وأن كل شيء مكثف وشفاف في التجربة الشعرية والحياتية، وكما لا يساوم المفردة التي تضيق عن مكنوناته كذا لا يساوم إذا ضاقت الأرض في وجهه.
يأخذ الكتاب بقوة، يأخذ الشعر بقوة، يأخذ الحياة بقوة، لا مكان لأي تنازل وإن كان مكان لضعف إنساني، لحظة حب، إحساس بضعف خصم فعفو عند مقدرة. وكذا ترك القصيدة حتى تطيب فإن الطزاجة والجدة والجدية صرامة الحكم ونقيضها الخصم.
كذا ينبئ الكتاب، ينبئ مكنونه كما ظاهره، والبينة في الزيارات الأولى للدهشة في هوامش التكوين مقدمة تفتح أمومة الترتيل والولاء الأول وثلج الجيم المعطشة والشاعر الذي ينشق قلبه لمواجهة كائنات الخوف، الدرس الأول في حياة محمد عفيفي مطر الذي هو النص الحي والذي لا تفارق بينه والنص، فمن قرأ نص عفيفي عرف عفيفي شخصيا وهذا هو تكوينه والأساس وسدرة المنتهى.
وفي هذه السيرة قشع لأي ستر وفيها نتبين حبل الوريد الذي هو الرباط، ما نسجه محمد عفيفي مطر طوبة طوبة، معتمدا أساً هو لبنة تشكلت بفعل امرأة غلابة (سيدة أحمد أبو عمار) ورجل (عفيفي مطر) عصي، هما أبوا الشاعر الذي صرنا نعرف.
ولم يطبع للشاعر في مصر الستينيات والسبعينيات والثمانينيات غير ديوان وحيد هو 'رسوم على قشرة الليل' ــ الطبعة الثانية لهذا الديوان تمت في ليبيا ــ الليل الذي حاول كسف شعرية مطر، مطر الذي اتخذ من الكسف كشفا فتسرب في الشعرية العربية لجيل السبعينيات مثل تسرب دفء الشمس في الغيطان. وقد أعطاه النقد الأدبي في مصر وفي غيرها الظهر، وبهذا مكن لشعرية عفيفي أن تتعافى وأن تتحقق وأن تكون الشعرية الطازجة في الشعر العربي الحديث، والمتفردة بكثافتها ولغتها المركبة، وأن تتدفق كشعرية للصورة متجسدة للعين المبصرة كطمي في مكنونه خلائق وتخلق، وصور متدفقة ووثابة وكان المجرى الجديد الذي احتفره عفيفي مطر مجرى يموج بتيارات جديدة، متمردة تؤسس روح المغامرة والتجريب، والارتحال إلى العوالم المغلقة الأبواب، وتفتح عهد اللغة والرموز... رحم الله الشاعرالكبير.

7/7/2010

يتبع ...