عفيفي مطر.. طمي السرد الخفيف

محمد عفيفي مطر في ذكرى رحيله التي تصادف اليوم، يبدو الشاعر محمد عفيفي مطر (1935-2010) هادئ الحضور، عميقه وشفّافه كما كان على امتداد حياته التي ما انفكت تشقّ مساراتها الخاصة المتعافية بإشراقة الشعر وتجلياته ودفاعه عن الإنسان ومستقبله في الدنيا وفي "أم الدنيا".
مثلما يحرث الفلاح الأرض يحرث عفيفي مطر اللغة، محاولاً ألا يشبه في بنيته اللغوية أحداً، فبينما كانت لغة صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل ترتبط بالواقع بدرجات متفاوتة، كان صاحب "من دفتر الصمت 1968" يغرّد وحده فيما وراء اللغة المباشرة، حتى أصبح بعد ذلك توجهاً شعرياً له تلاميذه خلال مسيرة شعرية امتدت قرابة الخمسين عاماً، لم تنقطع خلالها إصداراته بين مجموعات شعرية وكتب سردية وقصص أطفال ومقالات نقدية وترجمات شعرية.
"ولدتني أمي على شاطئ النيل، حيث جاءها المخاض فانتزعتني وذهبتْ بين الحقول، ومن يومها وأنا أعشق النيل والطمي والرمل والحقول"، هكذا يتحدث "شاعر الطمي" عن نفسه حيث ولد في قرية "رملة الأنجب" التابعة لمحافظة المنوفية، وكانت القرية المصرية بطقوسها وحكاياتها ومواويلها وأساطيرها إحدى أهم المؤثرات في تجربة صاحب "الجوع والقمر" و"يتحدث الطمي" في مرحلته الشعرية الأولى.
من يقرأ دواوين صاحب "رسوم على قشرة الليل" يلاحظ أن عفيفي مطر المزدحم بالتجربة الصوفية، المُحَمَّل بالأسئلة الوجودية، الممتلئ بعوالم القرية، الذي درَّس الفلسفة في المدارس لسنوات (حصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة) يحاول دائماً أن يمزج بين كل هذه العوالم ليخلق أسطورته الخاصة.
علاقته بالفلسفة ظهرت جلية في ديوانه "رباعية الفرح" الذي يتكون من أربع قصائد طويلة تتعلّق كل قصيدة بعنصر من عناصر الخلق (الماء والنار والهواء والتراب) في الفلسفة اليونانية القديمة.
تنوعت مصادر ثقافة صاحب "النهر يلبس الأقنعة"، لكنه ظل وفياً لعلاقته مع تراثه العربي والإسلامي، فتجده يتجادل مع عمر بن الخطاب، كما كتب في مقدمة ديوانه "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت" إهداء إلى الرسول هو "محمد.. سيد الأوجه الطالعة".
وصف الناقد محمد عبد المطلب شعرية "مطر" بأنها "شعرية التراكم لا القطيعة، كأن قصائده عمرها ألف عام مع أنّها بنت لحظتها، وهذا البعد الزمني المتوّهم جاء لأنّ الإنسانية كلها حاضرة في هذه الشعرية، حاضرة بعقائدها وأساطيرها وخرافاتها وفلسفاتها وأحلامها وتاريخها، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن نفصل هذه الشعرية الإنسانية الحضارية عن ذاتية عفيفي وهمّه الوطني والقومي والإنساني".
"
استمرت خلافات عفيفي مطر الثقافية والسياسية مع السلطة واعتقل أثناء حرب الخليج الثانية، بعد نشاط محموم ومواقف جذرية ضد العدوان على العراق
"
تعمدت المؤسسة الثقافية المصرية تهميشه بسبب مواقفه السياسية المعارضة للسلطة، حيث نشر في مجلة "سنابل" (1969-1972) التي كان يحررها مع مجموعة من أصدقائه بجهودهم الذاتية، قصيدة بعنوان "68" يحثّ فيها الطلاب على التظاهر لإنهاء فترة اللاسلم واللاحرب التي وسمت بدايات عصر السادات.
لكن التهميش الذي تعمّدته السلطة المصرية آنذاك لعفيفي مطر لم يتوقف عند هذا الحد، بل صادر النظام الساداتي مجلة "سنابل" عقب نشرهم "أغنية الكعكة الحجرية" لأمل دنقل، ولم تكن "سنابل" مجرد مجلة ثقافية تهتم بالإبداع فقط بل كانت بمثابة تيار ثقافي معارض لتيار مثقفي السلطة.
ففي الوقت الذي كان فيه الشعراء والكتاب يتغنون بإنجازات مشروع النهضة العربي، دون النظر إلى الخطر الذي يهدده من الداخل، كان مطر يكتب ديوانه "شهادة البكاء في زمن الضحك" مما جعل محمود أمين العالم يقول: "شاعر يبكي ونحن نبني السد العالي"!
وبالرغم من التهميش الذي عاناه من المؤسسة الثقافية، إلا أن شعراء السبعينيات من جماعة "إضاءة 77" و"أصوات" التفوا حول تجربته، وأعجبوا بلغته الشعرية الجديدة التي تخفّفت من الشعارات السائدة آنذاك، واعتبروا تجربته انتقالاً بالقصيدة العربية من حالة الأحادية التي اتسمت بها قصائد المد القومي، إلى الذات المحملة بموروثها التاريخي وهمومها الواقعية، وصار عفيفي مطر لديهم شاعر الحداثة الأول في مصر.
ومثل كثير من المثقفين المعارضين لاتفاقية "كامب ديفيد" الذين فرّوا من مصر في هذه الفترة، فرّ محمد عفيفي مطر إلى السودان ومنها إلى العراق 1976 ليعمل محرراً ثقافياً في مجلة "الأقلام"، وكان خلال إقامته في العراق قريباً من فكر "حزب البعث" على المستوى القومي، كما يقول صديقه الروائي سعيد الكفراوي لـ"العربي الجديد" ولم يتمكن من العودة إلى مصر إلا بعد رحيل السادات بعدة أعوام.
بعد العودة إلى مصر، وفي ظل محاولة النظام المصري الجديد تغيير السياسة التي انتهجها السادات في آخر عهده، تم منحه جائزة الدولة التشجيعية 1989، إلا أنه كان يدرك أبعاد هذه اللعبة جيداً، وفي كتاب سيرته "أول زيارات الدهشة.. سنوات التكوين" خصّ فصلاً كاملاً بعنوان "الغول للأبد" تحدّث فيه عن استخدام النظام آلته الإعلامية الضخمة في احتواء وإبراز المثقفين الذين ينحازون إليه ويبررون فساده، بالتوازي مع تهميش كل من يخالفونه.
عفيفي مطر الذي كانت الأسئلة تظلّله كسحابة، ظلّ على خلافٍ دائم مع دعاة امتلاك الحقيقة، سواء من التيار الديني أو التيار الماركسي، فكلاهما اتهماه، لكنه ظل يدافع عن وجهات نظره ضد الأطروحات التي ظهرت في الستينيات، وخاض صراعات فكرية عديدة، منها خلافه مع المثقفين الذين أرادوا أن يقطعوا كل صلة لهم بالتراث، فمطر، كما ذكر عنه صديقه الروائي سعيد الكفراوي، كان يرى "بلادنا عربية ودينها الإسلام وهويتها مشرقية".
استمرت خلافات عفيفي مطر الثقافية والسياسية مع السلطة واعتقل أثناء حرب الخليج الثانية، بعد نشاط محموم ومواقف جذرية ضد العدوان على العراق، فتعرّض لتعذيب همجي، وتضامن معه عدد كبير من الشعراء والكتاب المصريين والعرب، وكتب خلال فترة اعتقاله ديوان "احتفاليات المومياء المتوحشة" سرد فيه تجربة تعذيبه في السجن.
وعن رفيق رحلته الطويلة وصديقه الأقرب يقول الروائي سعيد الكفرواي: "تجربة مطر الشعرية تنطوي على عمقها الخاص الذي يشبهه ويشبه هؤلاء المغمورين من أهل القرى الذين كانوا مادة لخياله. ظل مطر وفياً لحياته وجماعته، وانشغل بالنبش في ضمير أمته". ويضيف الكفراي: "الاحتفاء الرسمي من الدولة بـعفيفي مطر، جاء متأخراً جداً بحصوله على جائزة الدولة التقديرية 2006"، ويرجع الكفراوي ذلك إلى أن مطر كانت له مواقفه الواضحة في معارضة السلطة، ولم يكن ينتظر شيئاً من الدولة ومؤسساتها حيث كان يكسب قوت يومه بيديه، حيث زرع الأرض وربى النحل.
ويبقى في البال ما ردده محمد عفيفي مطر في تلويحة الوداع: "حياتي مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي وكريم استحقاقي، لم أغلق باباً في وجه أحد، ولم أخطتف شيئاً من يد أحد، ولم أكن عوناً على كذب أو ظلم أو فساد.. الله فاشهد".

القاهرة - أحمد زكريا
28 يونيو 2014

****

يا محمّد

باسم النبريص

يا محمّد
سيّدُ من تأمَّل ليل الحقول، واستبطنَ أسراره - يوصي ألاّ يُدفن في الليل. هكذا هو. رغم أنه ذاهب إلى ضفاف ليل أبدي، ينحاز كعادته للشمس.
نعم. من عاش حياته كلّها في النور، وأعلن مواقفه كلّها في النور، وكالنور عاش ومات، لا تليق به العتمة.
أتذكّر محمد عفيفي مطر، في هذا الليل البرشلوني الطيّب، وأسترجع ذكرياتي القليلة معه. في القاهرة حيث سهرنا ليلة في حي "الحسين" وهو يأخذ بيدي من زقاقٍ إلى عطفةٍ إلى مقهى. ويخبّ كعصفور داخل جلبابه الريفي. وفي بغداد، قبل 13 سنة، إذ كانت آخر سهرة جمعتنا على انفراد في فندق المنصور.
هل أنسى؟
حكيت له وقتها كيف سرقت متشاعرة من عائلة يسارية ـ صارت بنت وزير بعد ذلك ـ قصيدة طويلة مدوّرة له، وكيف كنتُ اتهمتها بالسرقة، معتمداً على حدسٍ يعوزه إثباتُ الاسم. حتى جاء البرهان سريعاً، فنزلتْ القصيدة باسمه في صفحة "القدس" الثقافية، بعد شهر. وحكيت أنني أصررت حينها على خروج الفتاة من المسابقة، إلاّ أن لجنة التحكيم بحروف دالِها [وكانت أجمعت على منحها الجائزة الأولى] تنازلت بسبب اعتراضي ومنحتها الجائزة الثالثة! وهكذا فاز عفيفي (من خلال منتحلة القصيدة) بتلك المرتبة في مسابقة محلية باسم ناجي العلي.
وأنا إلى اليوم، لا يمكن أن أنسى تعقيبه أبداً: "مرتبة ثالثة في مسابقة تحمل اسم ناجي، ولا جائزة مبارك".
ضحكنا طويلاً على المفارَقة، والألم العراقي يتمرأى من تحتنا ونراه من الشرفة، وقال لي: حرام أن تكسر خاطرها، فما دامت البُنيّة أحبت القصيدة فأنا متنازل لها.
ثم أخذنا الحديث، فحمّلني رسالة إلى صديقنا العزيز مروان برزق. وكم ضحكنا على ذكرياته الطريفة مع مروان "التّقيل" وقول محمد "إنه أكبر شاعر طفل رأيته في حياتي"
الآن أتذكّره ويمضّني الأسى على الحال والمآل. فها هي الثورة التي حلم بها وأرّث نارها ـ في قصائد مشغولة بخيوط الذهب ـ تُخطف من أيدي صانعيها، وتنام مدحورةً في لحية شيخٍ أو خوذة جنرال.
تُرى متى سيستبدل شعبك "احتفالات المومياء المتوحشة" بـ "رباعية الفرح"؟
متى يا محمد؟
أيها الصوت الطالع ثقيلاً وكثيفاً مثل بقبقة في الطّمي.
يا مُواطن الألم الجمّ.
سلاماً لِنُبلك،
وسلاماً على يدك الباقية.

28 يونيو 2014
*شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة

************

محطات في زمن الشاعر

نزار قنديل

28 يونيو 2010

من جدة إلى مطار القاهرة ومنه إلى غرفته في بيته - الذي بناه له الشعر، كما قال لي ذات مساء - بين زوجته وأبنائه وأشقائي وجدته ممدّاً. رفع رأسه قليلاً حين اقتربت منه، خلتُ أنه ابتسم. أعاد رأسه إلى الوسادة، قرأت "يس" وصلّيت بجواره في غرفته، في الركعة الأخيرة، سمعت شهقة طويلة، انتهيت من صلاتي، وعلى وقع صوت شقيقي الأكبر يطالب الحاضرين بالخروج، تيقنت أنها كانت "شهقة الموت"؛ فقبلها بعشرين عاماً وفي 28 يونيو 1980 سمعت نفس "الشهقة" من أبي؛ أحد أساتذة مطر الذين كتب عنهم في"أوائل زيارات الدهشة".

26 يونيو 2010

أتاني صوته - لم يكن مجلجلاً كعادته: "إنت فين، طولت السفر؟"، كنت معه قبلها بأسبوعين، قلت له: الآن أمر على شركة الطيران، آخذ تذكرة والليلة أصل. شيء ما أحبط محاولتي في منع نفسي من البكاء، فأنا لم أعتد أن يكون صوته بهذا الوهن. باغتني: لا تربك نفسك، تعال على مهلك، سأنتظرك، لا تخف، لن أموت قبل أن أراك.

يوم في يونيو 1991

بعد يوم من جلسة المحاكمة، التي قال فيها القاضي للمحامي عادل عيد، أحد 17 برلمانياً اضطروا السادات إلى حل مجلس الشعب بسبب فضحهم لاتفاقية "كامب ديفيد": يا أستاذ عادل لا تتعب نفسك بالمرافعة، فالقضية ليس فيها أوراق سوى محضر تحريات، المتهم براءة. في مقهى "زهرة البستان" كان لقاؤنا الأول بعد خروجه من المعتقل، كنت أستحثه على السفر إلى الرملة قريتنا، وكان يطلب مني الانتظار للغد، فربما يكون في حال أفضل صحياً؛ وحتى لا تراه صغرى بناته "رحمة" بوجهه المتعب. بكيت، فضحك وقال لي: "أهو كلام يا عم نزار، يعني الجرح الغائر في أنفي من صعق الكهرباء في المعتقل كيف أداريه". باغتنا أحد مدّعي الثقافة المشهورين بالقدوم للسلام على عفيفي بترحاب بالغ؛ فقابله على غير المعتاد بفتور أكبر. مضى المدعي، فقال لي عفيفي: هذا الـ... كان أحد الحاضرين لجلسات تعذيبي في "لاظوغلي"(أمن الدولة). رحل مطر ولا زالت الأوساط المتثاقفة تحتفي بالدعي، كأحد كتاب القصة والرواية!
لعلها كانت جلسة التعذيب، التي كتب عنها:
"وكان "غويا" واقفاً ويهمّ بالطيران في ألوانه
كان جلاد بكعب حذائه يهوي علي فطقطقت ضلع
ولعلعت الرصاصة فارتمي "غويا"
ارتميت
وليس من وطني سوى هذا الرماد".

يوم في يونيو 1991

أمام محكمة أمن الدولة في مدينة نصر، منتظراً ومتأهباً لسلام عابر في المسافة ما بين الهبوط من سيارة الترحيلات القادمة من سجن طره، والدخول إلى قاعة المحكمة، لمحني ضابط حراسة صغير، حال بيني وبينه بعنف بالغ، ثم احتضنه صارخاً: "عمو عفيفي، أنا خالد ابن الجيران في كفر الشيخ"، تذكره وسأله عن أسرته، وبكى لأنه لن يستطيع فك القيد من يديه، خوفاً من مسؤوله، اعتذر لي ودلفا للقاعة.

يوم في شتاء 1989

قادماً كنت من القاهرة، حاملاً نسخاً من جريدة الجمهورية، لتقرأ أمي اسمي موضوعاً على "قراءة في كتاب، الطريق إلى مكة" لمحمد أسد؛ ووجدت عفيفي هناك جالساً بجوارها يشربان "شاي العصاري". كان يحب الكاتب والكتاب والتجربة. ذكرته أنني استعرت الكتاب منه، فباغتني: عندك فأس؟ قلت له: أكتب بها مثلاً؟! جذبني من يدي فنهضت، نادى على المزارع (الذي يوكله بفلاحة أرض)، ناولني فأساً وأخذ أخرى؛ وهو يقول: تعال لنتكلم عن محمد أسد، ونحن نحفر جورات؛ لأننا اقتربنا من "خرجة العين" موسم زراعة الأشجار في مصر، وحديقة بيتكم كأنها قاحلة، وبدأنا الحفر.

يوم في ربيع 1989

جالساً كنت بشرفة منزلنا في رملة الأنجب، وإذا "أبو لؤي" قادماً فوق "عربة كارو"، محملة بصناديق خشبية كثيرة؛ مربعة وذات قوائم. بدأ بإنزالها، فنهضت أشاركه، قال لي: بالقرب تماماً من طرف الحديقة الذي زرعنا فيها الأشجار من شهور سيكون"المنحل"؛ سأشرف عليه بنفسي وسنتقاسم المحصول من العسل في موسم "القطف"؛ في كل موسم يأتي بماكينة فرز العسل؛ يتركه لنا كاملاً ويكتفي بالغداء معنا، يطلق جملته الأشهر: "ربنا يجعل بيت المحسنين عمار" ونضحك حتى تورق العيون بدموع فرح لم أعد أعيشه.

يوم في صيف 1969

لا أتذكره جيداً، كنت طفلاً يتابع فرَحاً في بيتهم وكبرى شقيقاته تُزف إلى محمد عفيفي مطر؛ وأنا شديد الحنق عليه؛ لأنه سيأخذها إلى بيته البعيد في كفر الشيخ. وكنت أتخيلها وقتها أقصى بقاع الأرض. أذكر أنه رفعني لأعلى من كتفيه، قال لي: إن شئت تعال معنا وسنعود جميعاً ذات يوم إلى البلد، حين نقولها نعني "رملة الأنجب".
... رحمة وسلام عليك أبا لؤي.

* كاتب مصري من أسرة العربي الجديد

********

نثر عفيفي مطر.. مسبحة من الأصوات

أحمد ندا

28 يونيو 2014

يحتشد صوت محمد عفيفي مطر (1935-2010) بذوات متشابكة، ووعي مفارق للحظته الزمنية. الشاعر المعجون من طميها كان يشبه الأرض، وكانت تشبهه، كانا ندّين جليلين على عتبات الخوف والبهجة في آن. الشاعر الذي لا يشبه إلا نفسه كان جديراً بعصابة العين التي لازمته أيام حبسه في التسعينيات ليفتح بصيرته "على مد الحصيرة والمواويل"، يعرف المواقيت بحدس الموجودات من حوله، وكان غيابه هائلاً كحضوره، وموته مسألة من مسائل الجمال. وما نعثر عليه في شعره، نجده مضاعفاً في أعماله النثرية التي لم تقرأ بما تستحق من اهتمام، ولعلها غير معروفة لدى من تسنت لهم قراءة بعض شعره أو السماع باسمه الذي طالما حجبته المؤسسة الرسمية.
"كان قلبي معلّقاً بين مخالب طائر جارحٍ محموم بالسياحات في الأعالي، علوّه فزعٌ ورعب، وانطلاقاته كارثة الاحتمالات، ومناوشاته لعبٌ فوضويّ بين الأمل والموت، وكلما حطّ ليستريح نفّرته الدهشة بزياراتها المباغتة، وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المرّة والغربة الفسيحة".
عفيفي مطر كاتب النثر الخفي، كان يخفي في طيات قصيدته حكياً، يعرف أن الحكاية الواضحة محض هباء ملوّن، وأن القصيدة عابرة لزمنيتها إلى أزمنة تصفّي منها خلاصة الحكاية.
كان "أوائل زيارات الدهشة" كتاب سيرته الذاتية النثري، لحظة إنسانية خالصة من البوح، عبور برزخ بين جسده العجوز وقتها، وطفولة تهدهدت تحت كنف أمومة امتزجت بالترتيل، ومنحته طاقة الجمال دون حاجة إلى التعريفات الباذخة. كان البذخ مختبئاً في التفاصيل، و"ثلج الجيم المعطشة" يفتح سخريات أقرانه الصبيان على سلامته اللغوية.
نعرفُ أن السيرة الذاتية لحظات بوح منتقاة من وعي يريد أن يقول شيئاً ما، ولاوعي يبرّئ كيانه من همّ الذكريات؛ ذكريات عفيفي مطر كانت تبحث عن بدايات الشعر في صوت أمّه المرتّل للقرآن، عن حمّى الجسد في حضرة محمد حسن إسماعيل، الشاعر الهادر فوق رومانسية ضيقة وكلاسيكية صارمة.
"
لا
تلقِ بقيـادك ولا تطأطئ بولائك إلا لأشد الأشياء هشاشة وضعفاً
"
حاول مطر أن يفصّل الحكاية ويختزل الوجود، فكان أن اختزل الحكاية وفصّل الوجود، وجوده ووجودنا. لعبٌ حرٌ بلغة خرجت من جحيم معاجم بليت بالتكرار الممل، كان مطر يخلّي بينه وبين اللغة صراطاً، حتى همّت به وهمّ بها، فرأى برهان قصيدته ماثلا في الحكاية كما أرادت، لا كما أراد.
"لا تلقِ بقيـادك ولا تطأطئ بولائك إلا لأشد الأشياء هشاشة وضعفاً: حشرة طنانـة، أو طحالب بركـة، أو بيضة طائر، أو رائحـة عرق، أو دمعــة مقهـور".
الهشاشة التي سكنت تحت جلده، مكّنته من امتلاك الدهشة على هيئة قصائد محمومة، أراد في سيرة الطفولة أن يقول: ها أنا دون خوارق في التكوين، دون معجزات في النشأة غير الخيال، كنتُ فلاحاً يحرث الأرض واللغة، ويبتعد عن توافه الكلام واليومي الصغير. الهشاشة هي امتلاك الذات وتماهيها مع الجمال الكامن، كمونه عصيّ على محبّي المقولب والجاهز. لا يقدر على محبة البوح إلا من امتلك نفسه، وقد امتلكها عفيفي مطر.
"كنت أقلب صفحات الأطلس العجيب فأسمع وأرى وقائع السيرة الذاتية للأسلحة، أعجب السير الذاتية على الإطلاق وأتساءل بانبهار الحيرة: من يخلق الآخر ويقوده السلاح أم الإنسان؟ وكلما رأيت وسمعت أهوال الانحسار والابتلاع المتبادلين وانتقال الخطوط والألوان في دوي الانتصارات والهزائم، ازددت يقينا أن الأرض ذات قلب ورئتين، تنبض وتشهق وتزفر في أحوال من القبض والبسط العجيبين المنضبطين على إيقاع الأسلحة وضربات القرار والجواب في موسيقى التهليل بالنصر والأنين الدامي بالهزيمة".
الروح المعاندة التي ملأته، والتمرد الذي كلّفه عصابة على عينيه طوال فترة حبسه الآثمة في سجن "طرّة" رافضاً التدخل الأمريكي في حرب الخليج الثانية؛ كل ذلك لم يكسر من روحه ولا جسده، إلا بمقدار قشرة من الدم والصديد على أنفه، علامة على تجبّر الدولة وفجورها، إنسانيته لم تنحز إلى سياسة بل إلى الإنسانية.. كتب عفيفي مطر كتابه النثري ليحكي سيرته، لنكتشف أن في سطور السيرة سيرتنا نحن:
"كانت أمه جليلة الجليلات تستعيد الاستماع إلى ما حفظ ابنها من قصار السور‏، صعوداً إلى السور الطويلة‏،‏ ومن جزء عم إلى جزء تبارك‏، وتصحح بصوتها الرخيم ووجهها المضيء بالفرح‏، وعينيها المسبلتين المتبتلتين ما يخطئ فيه‏.‏ كان الإيقاع الجليل بصفائه يشمل كل شيء‏.‏ وكانت الدنيا كأنها مسبحة أخاذة من الأصوات والانسجام المحكم‏.‏
ثم ذهب الولد إلى الكتّاب وحين أخذ مكانه على الحصيرة بين جماعة المبتدئين انتبه مفزوعاً مرتعباً على صوت‏ "سيدنا" وهو يعنف امرأته وابنته الشابة وهما وراء الباب‏،‏ ثم علا صوته الأجش الغليظ بآيات قصار السور فقال الولد لنفسه‏:‏ لا بد أن الآيات أمومة خالصة لا يعرفها الرجال واكتشف أن كل ما حفظه من قبل قد سقط من ذاكرته‏.‏ فبكى!
وأمسك الولد مرة بكتاب أخذ يقلّب صفحاته واحدة واحدة، وهو يبلل أصابعه بريقه ويحصي بصوت مسموع‏:‏ آدي واحد‏.‏ آدي اتنين‏.‏ آدي تلاتة‏...‏ إلخ. وفجأة ظهرت أمامه صورة قربها من عينيه ليري أدق تفاصيلها‏.‏ كانت الصورة لفتاة صغيرة مهلهلة الثياب‏، تبكي وتولول تحت نعش يحمله رجال أربعة‏.‏ فشق صراخها قلب الولد وامتلأت عيناه بالدموع‏، وهبّت من صفحات الكتاب لوعة متربة مازال يشمها منذ ذلك الزمن البعيد‏،‏ يشمها وهو يلملم الدموع من الكتب ويتشقق صدره لصرخات الموتى والأحياء"‏.‏
لم يغب الشعر عن نثر مطر، لكن كفت الدهشة عن زيارتنا حين واراه التراب، ولم ير الثورة المصرية وهي تقوم ثم تسرق.

* شاعر من مصر

************

عفيفي مطر.. طمي السرد الخفيف

محمود الحاج

28 يونيو 2014

محمد عفيفي مطر لطالما وصفتْ تجربة محمد عفيفي مطر الشعرية بأنها صعبة النفاذ. في هذا المقام، تُستحضر، غالباً، على سبيل الاستشهاد، عناصر قصيدته الأكثر ملاحظةً: ريفيته أو برّيته كثيمة عامة وبستاناً لقطف الصور والاستعارات، لغته المعجمية كحامل للنص، واستعاداته التاريخية (فلسفيةً وأسطورية ودينية) كاشتغال معرفي أو هاجس جمالي وكثيمة في كثير من الأحيان أيضاً.
ويبدو، ببديهية مفرطة، أن خلطة شعرية كهذه لن تنتهي إلى قصيدة سلسة ومرنة خصوصاً (وهذا عنصر رابع يضاف إلى العناصر السابقة) وأن النص مفصّل، غالباً، على قالب عروضي صارم.
غير أنه، رغم ذلك، وهذه بديهية أخرى، فثمة خصوصية شعرية لنص عفيفي مطر. ولولا ذلك لما كان صاحب "رسوم على قشرة الليل" ليسمّى كأحد أهم وجوه جيل الستينيات الشعري في مصر، وهو كذلك بالفعل.
نحاول اقتراح تصور عن ماهية وشكل الشعرية في تجربة عفيفي مطر، انطلاقاً من قاعدة أنه ليس ثمة هناك تعريف أو حضور ثابت للشعرية وأن ماهيتها، بطبيعة الحال، تختلف بين تجربة شاعر وآخر بل حتى بين قصائد شاعر واحد.
ووفقاً لهذا التصور فإن السرد، بأدواته: القص والدراما والشخوص والمحاكاة، يلعب دور الحامل الخفي للشعرية في هذه التجربة. إذ ثمة، على امتداد منجز عفيفي مطر الشعري، قصة أو حدوتة تشكل عموداً فقرياً لنصه الذي غالباً ما يستجيب إليها، فيطول ويبني معماره وصوره وتدفقه على أساسها. ومن هنا، يمكن فهم قلة النصوص القصيرة جداً في أعمال محمد عفيفي مطر وكذلك قلة النصوص المجردة من الشخصي أو التي لا تنبني على قصّ أو استعادةً تاريخية.
"
يلعب السرد دور الحامل الخفي للشعرية في تجربة عفيفي مطر
"
إلى جانب ذلك، يقوم السرد بتخفيف الثقل المعرفي والمعجمي في القصيدة. فأدوات ونماذج القص المألوفة حتى لأكثر الناس عاديةً، تساعد، إلى حد بعيد، على مجاراة نص متخم بالإحالات والترميزات التي تتطلب اطلاعاً وفهماً لسياقها الأصلي من أجل مجاراتها أو "الاستمتاع بها" في سياق النص الشعري. وعلى الرغم من دور السرد الكبير على هذا المستوى، إلا أن نص عفيفي مطر يبقى مشبعاً بما نشعر أنه يثقل على القصيدة.
على هذا الأساس، لن تبدو شعرية مطر مخبأة ومستقرة كنواة داخل طبقات من لغته التراثية ومحاكاته الفلسفية والتاريخية، بل إنها موزعة على أسطر القصيدة ومنثورة هنا وهناك بفعل تنامي الحدوتة في النص والتي تتكامل، في حالته، مع الغنائية (بمعناها الحرفي) التي يفرضها الوزن العروضي.
وقد لا يبدو معقداً على القارئ تحديد علامات حضور السرديّ في منجز مطر، أقله على صعيد الشكل. ويمكن ملاحظة هذه التمظهرات في غزارة النص وتدفقه بشكل واسع على الوزن وكذلك على الصفحة المطبوعة.
كما يصح، أيضاً، الحديث عن العناوين (الكلاسيكية، غالباً) لمجموعاته ونصوصه والتي تفيض بدلالات القص والإخبار والدعوة إلى الإنصات: "الجوع والقمر"، "كتاب الأرض والدم"، "شهادة البكاء في زمن الضحك"، "يتحدث الطمي" (...).
إضافة إلى هذا وذاك، تجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى الكيفية المكررة في بناء عدد من الأعمال التي تتصل قصائدها، فيما بينها، بخيط سردي وكذلك بثيمة معينة يحمل أحدهما الآخر. ويحيل هذا إلى حاجة الشاعر، في الأماكن التي يبتعد بها عن الشخصي، إلى أيقونة تاريخية لينطلق من سرديتها مكتملة الحبكة والدلالة إلى ما يريد أن يقوله أو يسقطه في قصيدته التي غالباً ما تلتزم عناء القول. وتتجلى كيفية البناء هذه بوضوح شديد في أعمال مثل "شهادة البكاء في زمن الضحك" و"كتاب الأرض والدم".

* شاعر سوري مقيم في باريس

************

شعر عفيفي مطر: قطار إلى الطفولة

محمد عريقات

28 يونيو 2014

محمد عفيفي مطر كثيرون هم الشعراء الذين لا ينتمي شعرهم إلى طفولتهم، نجدهم ينطلقون في سيرهم الذاتية من تلك اللحظة التي صفقوا بها باب العائلة وراءهم، ومضوا في طريق المغامرة. فهُم بحاجة إلى مفارقة لم تتحْها لهم طفولتهم، كما لم تترك لهم ندوباً صغيرةً على ركبهم لتعود بهم إلى حكاية ما؛ طفولة غارقة في الفراء والسكينة، وديعة بلا مخالب، وبلا أهازيج أم، وصلوات أب، وأقاصيص جدة.
أما الشاعر المصري محمد عفيفي مطر (1935- 2010) فلم يكن من هؤلاء، ولا ممن كانت طفولتهم مجرد استرجاع أو أثاث خيال، بل كان من أولئك الذين يضعون طفولتهم محل مستقبلهم لتظلّ كل قطارات العمر توصل إلى محطة واحدة هي الطفولة، حيث نراها داخل شعره وخارجه فهو يقول: "أمي كانت تدفن أخوتي الموتى في شقوق جدار البيت لتدرأ الموت عنه، وكانت تحييهم بحكاياتها فأراهم ليلا على شكل قطط تموء".
هكذا يكون الشعر رديف طفولة، لا يختارُ غير الأرواحِ الهشّة لتكتبه وتكونه، تتورّط فيه ويتورطُ فيها، عبر علاقة ملتبسةٍ لا تحسن معها هذه الأرواح أن تتحررَ أو تفرض قطيعة، فالشعر هو مسقط أجسادها، والقصيدة هي تلك الجدران التي جعلت من صرخة ولادتها ذاكرة ودروب مستقبلٍ مليء بالمرايا التي تعكس ما يكتظ خلفها. وكي تأمن الأمام عليها بالنظر الدائمِ إلى الخلف، وهنا لا ضرورة للبوصلة.
من قصيدة "الخفافيش أبدا": "فتحت عيني فيِ ذبول الشمس وهي تجر في أظلافها رملاً تذريه على شفق الغروب/ والظل يزحف صاعداً فوق الحوائط/ ناسجاً دغْش الزوال سقيفةً تدنو قتامتها رواقاً لانفلات الصبْية اللاهين والمتنظرين أمام باب الليل أن تنقض/ أسراب من الفحم المجنح: خفة، وذكاءُ تحويمي، ومكرُ مناوراتي، وانقضاض ليس يوقفه اصْطدام بالحصى أو بالعصا أو بالحوائط والسقوف".
"
ظل حتى لحظاته الأخيرة يمدّ الحياة بالامتنان عبر قصائده التي تُوّجت بالخلود رغم كثرة أعدائها
"
محمد عفيفي مطر، شاعر أتت أهميته من رؤيته الخاصة للشعر، فقد التفَتَ في وقت مفصلي إلى تجربته الشخصية واستمع إلى صوته الداخلي الذي يربطه بالحس الإنساني وأسئلته البسيطة في مرحلة اصطخبت بالشعارات السياسية ويافطات القضايا الكبرى، فغاص في دهاليز اللغة العصية، مقارنة بلغة مجايليه آنذاك، فحقق اختلافاً رُفض في بادئ الأمر، إلا أنه شكّل مدرسة ظهر أثرها في ما أنتجته الأجيال الشعرية التي تلته.
انشغل صاحب "رباعية الفرح" بإعمال الذهن في نسج جملته الشعرية، فجاءت محملة بكم هائل من المعرفة التي نهل منها بما يوسع من فضاء قصيدته، لتطلع على العالم المقابل لها. فهو يدرك مدى الاستحواذ الذي تمارسه عليه بيئته القروية وعشقه لتفاصيل الحياة الصعبة هناك، ويدرك تصالحه مع هذا الاستحواذ، فاستثمر كل ذلك بذكاء نجح في خلق معادلة صعبة دون أن تضطره إلى فرض قطيعة مع أحد الطرفين.
لكن صاحب "دفتر الصمت"، و"كتاب الأرض والدم" كان على قطيعة أو على موقف واضح من السلطة، وممن يقف في مواجهتها، فقد اختار لنفسه أن يظل حرّاً، واختار لقصيدته ألا تدجّن في أقفاص تلك السلطة، ولو كانت قضبانها من الذهب، أو كانت أبواقها تصدح بأسماء مساجينها، وهذا ما دفع بشعراء أقل أهمية وأقل قيمة منه لأن يختطفوا الظهور واهتمام النقد والإعلام.
من قصيدة "مراودة الهدهد": "من خفة التحليق حول العرش والتيجان والأمم السوالف/ ليس إلا الدود ينغل في بقايا الهالكين!/ راودْته عن عِلم ما يدريه/ شاغلني بخفّته وطيش النقر ما بين الشقوق/ نقر التلفّت نافشاً زهو التشكك واحتمالات اليقين".
ظل محمد عفيفي مطر حتى قصائده الأخيرة، مشغولاً بالتجريب والتجديد، أسير مختبر قصيدته الذي لم يغادره منذ اللحظة التي أدرك فيها أن لا مكان له في هذا العالم خارج القصيدة، فاعتزل الناس لكنه لم يعتزل الحياة، بل ظلّ يستمد منها الأمل والإشراق، وظلّ حتى لحظاته الأخيرة يمدّها بالامتنان عبر قصائده التي تُوّجت بالخلود والاستذكار رغم كثرة أعدائها.

* شاعر من الأردن

******************

محمد عفيفي مطر.. تقرير إلى النيل

القاهرة - أحمد زكريا

28 يونيو 2014

محمد عفيفي مطر في ذكرى رحيله التي تصادف اليوم، يبدو الشاعر محمد عفيفي مطر (1935-2010) هادئ الحضور، عميقه وشفّافه كما كان على امتداد حياته التي ما انفكت تشقّ مساراتها الخاصة المتعافية بإشراقة الشعر وتجلياته ودفاعه عن الإنسان ومستقبله في الدنيا وفي "أم الدنيا".
مثلما يحرث الفلاح الأرض يحرث عفيفي مطر اللغة، محاولاً ألا يشبه في بنيته اللغوية أحداً، فبينما كانت لغة صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل ترتبط بالواقع بدرجات متفاوتة، كان صاحب "من دفتر الصمت 1968" يغرّد وحده فيما وراء اللغة المباشرة، حتى أصبح بعد ذلك توجهاً شعرياً له تلاميذه خلال مسيرة شعرية امتدت قرابة الخمسين عاماً، لم تنقطع خلالها إصداراته بين مجموعات شعرية وكتب سردية وقصص أطفال ومقالات نقدية وترجمات شعرية.
"ولدتني أمي على شاطئ النيل، حيث جاءها المخاض فانتزعتني وذهبتْ بين الحقول، ومن يومها وأنا أعشق النيل والطمي والرمل والحقول"، هكذا يتحدث "شاعر الطمي" عن نفسه حيث ولد في قرية "رملة الأنجب" التابعة لمحافظة المنوفية، وكانت القرية المصرية بطقوسها وحكاياتها ومواويلها وأساطيرها إحدى أهم المؤثرات في تجربة صاحب "الجوع والقمر" و"يتحدث الطمي" في مرحلته الشعرية الأولى.
من يقرأ دواوين صاحب "رسوم على قشرة الليل" يلاحظ أن عفيفي مطر المزدحم بالتجربة الصوفية، المُحَمَّل بالأسئلة الوجودية، الممتلئ بعوالم القرية، الذي درَّس الفلسفة في المدارس لسنوات (حصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة) يحاول دائماً أن يمزج بين كل هذه العوالم ليخلق أسطورته الخاصة.
علاقته بالفلسفة ظهرت جلية في ديوانه "رباعية الفرح" الذي يتكون من أربع قصائد طويلة تتعلّق كل قصيدة بعنصر من عناصر الخلق (الماء والنار والهواء والتراب) في الفلسفة اليونانية القديمة.
تنوعت مصادر ثقافة صاحب "النهر يلبس الأقنعة"، لكنه ظل وفياً لعلاقته مع تراثه العربي والإسلامي، فتجده يتجادل مع عمر بن الخطاب، كما كتب في مقدمة ديوانه "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت" إهداء إلى الرسول هو "محمد.. سيد الأوجه الطالعة".
وصف الناقد محمد عبد المطلب شعرية "مطر" بأنها "شعرية التراكم لا القطيعة، كأن قصائده عمرها ألف عام مع أنّها بنت لحظتها، وهذا البعد الزمني المتوّهم جاء لأنّ الإنسانية كلها حاضرة في هذه الشعرية، حاضرة بعقائدها وأساطيرها وخرافاتها وفلسفاتها وأحلامها وتاريخها، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن نفصل هذه الشعرية الإنسانية الحضارية عن ذاتية عفيفي وهمّه الوطني والقومي والإنساني".
"
استمرت خلافات عفيفي مطر الثقافية والسياسية مع السلطة واعتقل أثناء حرب الخليج الثانية، بعد نشاط محموم ومواقف جذرية ضد العدوان على العراق
"
تعمدت المؤسسة الثقافية المصرية تهميشه بسبب مواقفه السياسية المعارضة للسلطة، حيث نشر في مجلة "سنابل" (1969-1972) التي كان يحررها مع مجموعة من أصدقائه بجهودهم الذاتية، قصيدة بعنوان "68" يحثّ فيها الطلاب على التظاهر لإنهاء فترة اللاسلم واللاحرب التي وسمت بدايات عصر السادات.
لكن التهميش الذي تعمّدته السلطة المصرية آنذاك لعفيفي مطر لم يتوقف عند هذا الحد، بل صادر النظام الساداتي مجلة "سنابل" عقب نشرهم "أغنية الكعكة الحجرية" لأمل دنقل، ولم تكن "سنابل" مجرد مجلة ثقافية تهتم بالإبداع فقط بل كانت بمثابة تيار ثقافي معارض لتيار مثقفي السلطة.
ففي الوقت الذي كان فيه الشعراء والكتاب يتغنون بإنجازات مشروع النهضة العربي، دون النظر إلى الخطر الذي يهدده من الداخل، كان مطر يكتب ديوانه "شهادة البكاء في زمن الضحك" مما جعل محمود أمين العالم يقول: "شاعر يبكي ونحن نبني السد العالي"!
وبالرغم من التهميش الذي عاناه من المؤسسة الثقافية، إلا أن شعراء السبعينيات من جماعة "إضاءة 77" و"أصوات" التفوا حول تجربته، وأعجبوا بلغته الشعرية الجديدة التي تخفّفت من الشعارات السائدة آنذاك، واعتبروا تجربته انتقالاً بالقصيدة العربية من حالة الأحادية التي اتسمت بها قصائد المد القومي، إلى الذات المحملة بموروثها التاريخي وهمومها الواقعية، وصار عفيفي مطر لديهم شاعر الحداثة الأول في مصر.
ومثل كثير من المثقفين المعارضين لاتفاقية "كامب ديفيد" الذين فرّوا من مصر في هذه الفترة، فرّ محمد عفيفي مطر إلى السودان ومنها إلى العراق 1976 ليعمل محرراً ثقافياً في مجلة "الأقلام"، وكان خلال إقامته في العراق قريباً من فكر "حزب البعث" على المستوى القومي، كما يقول صديقه الروائي سعيد الكفراوي لـ"العربي الجديد" ولم يتمكن من العودة إلى مصر إلا بعد رحيل السادات بعدة أعوام.
بعد العودة إلى مصر، وفي ظل محاولة النظام المصري الجديد تغيير السياسة التي انتهجها السادات في آخر عهده، تم منحه جائزة الدولة التشجيعية 1989، إلا أنه كان يدرك أبعاد هذه اللعبة جيداً، وفي كتاب سيرته "أول زيارات الدهشة.. سنوات التكوين" خصّ فصلاً كاملاً بعنوان "الغول للأبد" تحدّث فيه عن استخدام النظام آلته الإعلامية الضخمة في احتواء وإبراز المثقفين الذين ينحازون إليه ويبررون فساده، بالتوازي مع تهميش كل من يخالفونه.
عفيفي مطر الذي كانت الأسئلة تظلّله كسحابة، ظلّ على خلافٍ دائم مع دعاة امتلاك الحقيقة، سواء من التيار الديني أو التيار الماركسي، فكلاهما اتهماه، لكنه ظل يدافع عن وجهات نظره ضد الأطروحات التي ظهرت في الستينيات، وخاض صراعات فكرية عديدة، منها خلافه مع المثقفين الذين أرادوا أن يقطعوا كل صلة لهم بالتراث، فمطر، كما ذكر عنه صديقه الروائي سعيد الكفراوي، كان يرى "بلادنا عربية ودينها الإسلام وهويتها مشرقية".
استمرت خلافات عفيفي مطر الثقافية والسياسية مع السلطة واعتقل أثناء حرب الخليج الثانية، بعد نشاط محموم ومواقف جذرية ضد العدوان على العراق، فتعرّض لتعذيب همجي، وتضامن معه عدد كبير من الشعراء والكتاب المصريين والعرب، وكتب خلال فترة اعتقاله ديوان "احتفاليات المومياء المتوحشة" سرد فيه تجربة تعذيبه في السجن.
وعن رفيق رحلته الطويلة وصديقه الأقرب يقول الروائي سعيد الكفرواي: "تجربة مطر الشعرية تنطوي على عمقها الخاص الذي يشبهه ويشبه هؤلاء المغمورين من أهل القرى الذين كانوا مادة لخياله. ظل مطر وفياً لحياته وجماعته، وانشغل بالنبش في ضمير أمته". ويضيف الكفراي: "الاحتفاء الرسمي من الدولة بـعفيفي مطر، جاء متأخراً جداً بحصوله على جائزة الدولة التقديرية 2006"، ويرجع الكفراوي ذلك إلى أن مطر كانت له مواقفه الواضحة في معارضة السلطة، ولم يكن ينتظر شيئاً من الدولة ومؤسساتها حيث كان يكسب قوت يومه بيديه، حيث زرع الأرض وربى النحل.
ويبقى في البال ما ردده محمد عفيفي مطر في تلويحة الوداع: "حياتي مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي وكريم استحقاقي، لم أغلق باباً في وجه أحد، ولم أخطتف شيئاً من يد أحد، ولم أكن عوناً على كذب أو ظلم أو فساد.. الله فاشهد".

****

محمد عفيفي مطر.. الفرح الآن وغداً

ملف ــ العربي الجديد

28 يونيو 2014

تمر الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر محمد عفيفي مطر (1935 - 2010)، و"المومياء المتوحشة" تحتفل بسلطتها، وفي أقبيتها رفاق وأبناء لصاحب "رباعية الفرح". سيرة تستعاد وتحضر معها لحظات ومقولات هي في عصب الأسئلة التي تزداد إلحاحاً: مواجهة الاستبداد، العروبة الثقافية، تحرر الإنسان الآن وغداً.

محمد عفيفي مطر.. تقرير إلى النيل
شعر عفيفي مطر: قطار إلى الطفولة
نثر عفيفي مطر.. مسبحة من الأصوات
طمي السرد الخفيف
يا محمّد
محطات في زمن الشاعر
لم يمنحنا العالم رشفة ماء
مسامرة الأولاد كي لا يناموا
فيلم رباعية الفرح - سيرة شعرية

****

لم يمنحنا العالم رشفة ماء

محمد عفيفي مطر

28 يونيو 2014

1

لم يمنحنا العالم رشفة ماء
)مقاطع مختارة(

أمي.. ضربتها صاعقةٌ خضراء
فانفجرتْ من قدميها العاريتين عروق الماء
واختبأت في رئتيها النار
وتكسّر في عينيها بحر العنبر والقصدير.
أمي كانت تتقلب فوق سرير الطلق
تسقيها شمس الصيف.. فيندفق الأبناء
أمي ولدتنا دوامات بشرية
تتراكض، ترقص في الأبواب
أمي هجرتنا ذات مساء
ركبتْ مركبة الهيضةِ واللاجرا والتيفوس
فرضعنا خشب المقصلة السوداء
وشربنا مطر السوس
ودخلنا في غابات الخوف..
كنا في قلب النهر، ولم يمنحنا العالمُ رشفة ماء.

(من "الحصان والجبل"، 1966)

أغنّي وأكتب أقمار عشبٍ مجنحةً وشموساً معلقةً
بالشبابيك، أكتب إكليل فاكهةٍ وأضفّره في
زواج المواويل والماء والطمي،
أكتب فجر المواني وقُبّرة الموج والسفنَ العائدة
وأكتب شال الصبايا الملوّن أكتب أجسادهنّ
المليئة بالرعدة الموقدةْ
وأكتب أغنية الريش والقشّ أكتب تاج
العصافير للرحم الواعدة
وأكتب جوعي على واجهات المتاجر، أكتبه في
الرياح الثقيلة بالغيم، أكتبه في احتلام
التلاميذ وقت البلوغ، وأكتبه في سروج الخيول
ووشم الرصاص على قبة الجامعة.

(من "أكتب نافذة على مملكة الموت الآخر"، 1973)

ألتفّ بالشمس وغبار المسافات المفتوحة
أغسل جسدي بالقشّ ورغوة الغضب
وخناجر العشب المسننة
وأفتضّ أختام الريح وكُمون الندى في البراعم.
يسكن النحل تحت إبطيّ وبين أصابعي تختبئ
الينابيع الخائفة
والأرض زجاجةٌ تهشِّم ألوان الطيف وتذرّيها على
جسدي المعلق بين الجوع والربيع
أمتلئ شيئاً فشيئاً كاليقطين العسليّ الأحمر المدلّى
فوق أهرامات التراب ومصاطب التحاريق
أنضج بطيئاً
بـ
طـ
يـ
ئـ
اً
وأفرح بمراهقتي واكتشاف دمي

(من "فرح بالماء"، 1980)

أحدّق عبر صمت معتم علّي أرى
آثار ‬عرس أو بقايا مأتم أو‬‬
صندلاً‮ ‬لصبية قد أعْجلتْها الغول عنه‬‬
أو انفراط ‬الأحرف الأولى بأقلام‬‬
الطباشير الملوّن خطّها طفلٌ‮ ‬صغير‬‬
هي قفزة‮ ‬أعلو بها فوق الجدار‬‬
وخطوة‮.. ‬فأكون أول من يرى
النسيان رأي العين‮:‬‬

آنية‮ ‬تكسّر طينَها حرقاً‮ ‬من العطش‬‬‬‬
استنامتْ‮ ‬في ‬نسيج العنكبوت‬‬‬‬
ومراقد الحيوان والإنسان ربْقة ماعزي‮ ‬بليتْ‬‬
وفضْل حصيرة شرب التراب ترابها
تتآكل الجدران تحت نضائح الملح المرقّدِ،
والمهجات العميقة والشنشْنات التي اكتحلتْ
بدخان المصابيح القديمة حفّها جير‮ ‬من‬‬
الذرْق المنمّش‮.‬‬‬
هذه الأعشاشّ‮ ‬خالية‮..‬‬‬‬‬
نداء الشمس والريح الطليقة بعثرا أسرابها
عُيّثتْ في ظلم المهجات
ارتعدت بنقرتي‮ ‬وبخمش أظفاري‬‬
وريشي‮ ‬مرتعبْ‬‬
من مكْمن البوم اسْتللتُ البومة ‬الكبرى،‬‬
لويت جناحها بجناحها،
انتفضتْ‮ ‬وحاولتِ الهربْ‬‬
ورجعت‮ ‬وهي أسيرة الفخّين‮: ‬كفي والعشى‮ ‬في الضوء،‬‬‬‬‬‬
وجه‮ ‬في مهابته كوجه الأولياء الملهمين‬‬
حفّتْ‮ ‬به من هالة الأسفار في الظلمات شيْبته‬‬
حريراً ‬في‮ ‬نديفي‮ ‬من زغبْ‬‬‬‬
عينان واسعتان شهْلاوان كالبحر المصفي
في زجاج كهوفه،
لا تنظران وليستا تريان شيئاً من‮ ‬غثاء الصبح،‬‬
منقار‮ ‬به كِبر الملوك وكبرياء الفهم‮.‬‬‬‬‬
‬أنتِ‮ ‬وريثة الأهل القدامى الراحلين‬‬:
وحفيظة الدّمنِ‮ ‬البواليِ‬‬
والعليمة بالسرائر كيف كانت تغْتلي ‬بالعشق
والشعر المجنٌّح بالجنون
وهواجسِ‮ ‬الأهوالِ‮ ‬من‮ ‬غلّ ‬وجوع واحْتراب وانكسار‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أطلقْتها بعد انحدار الشمس،
‮روحي‮ ‬واشهدي في ظلمة الملكوت‬‬‬‬
هوْلَ ‬الذاكرة‮..‬‬‬

(من "سلطانة الأصل"، 2007)
العربي الجديد- يونيو 2014