عفيفي مطر.. طمي السرد الخفيف
في ذكرى رحيله التي تصادف اليوم، يبدو الشاعر محمد عفيفي مطر (1935-2010) هادئ الحضور، عميقه وشفّافه كما كان على امتداد حياته التي ما انفكت تشقّ مساراتها الخاصة المتعافية بإشراقة الشعر وتجلياته ودفاعه عن الإنسان ومستقبله في الدنيا وفي "أم الدنيا".
مثلما يحرث الفلاح الأرض يحرث عفيفي مطر اللغة، محاولاً ألا يشبه في بنيته اللغوية أحداً، فبينما كانت لغة صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل ترتبط بالواقع بدرجات متفاوتة، كان صاحب "من دفتر الصمت 1968" يغرّد وحده فيما وراء اللغة المباشرة، حتى أصبح بعد ذلك توجهاً شعرياً له تلاميذه خلال مسيرة شعرية امتدت قرابة الخمسين عاماً، لم تنقطع خلالها إصداراته بين مجموعات شعرية وكتب سردية وقصص أطفال ومقالات نقدية وترجمات شعرية.
"ولدتني أمي على شاطئ النيل، حيث جاءها المخاض فانتزعتني وذهبتْ بين الحقول، ومن يومها وأنا أعشق النيل والطمي والرمل والحقول"، هكذا يتحدث "شاعر الطمي" عن نفسه حيث ولد في قرية "رملة الأنجب" التابعة لمحافظة المنوفية، وكانت القرية المصرية بطقوسها وحكاياتها ومواويلها وأساطيرها إحدى أهم المؤثرات في تجربة صاحب "الجوع والقمر" و"يتحدث الطمي" في مرحلته الشعرية الأولى.
من يقرأ دواوين صاحب "رسوم على قشرة الليل" يلاحظ أن عفيفي مطر المزدحم بالتجربة الصوفية، المُحَمَّل بالأسئلة الوجودية، الممتلئ بعوالم القرية، الذي درَّس الفلسفة في المدارس لسنوات (حصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة) يحاول دائماً أن يمزج بين كل هذه العوالم ليخلق أسطورته الخاصة.
علاقته بالفلسفة ظهرت جلية في ديوانه "رباعية الفرح" الذي يتكون من أربع قصائد طويلة تتعلّق كل قصيدة بعنصر من عناصر الخلق (الماء والنار والهواء والتراب) في الفلسفة اليونانية القديمة.
تنوعت مصادر ثقافة صاحب "النهر يلبس الأقنعة"، لكنه ظل وفياً لعلاقته مع تراثه العربي والإسلامي، فتجده يتجادل مع عمر بن الخطاب، كما كتب في مقدمة ديوانه "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت" إهداء إلى الرسول هو "محمد.. سيد الأوجه الطالعة".
وصف الناقد محمد عبد المطلب شعرية "مطر" بأنها "شعرية التراكم لا القطيعة، كأن قصائده عمرها ألف عام مع أنّها بنت لحظتها، وهذا البعد الزمني المتوّهم جاء لأنّ الإنسانية كلها حاضرة في هذه الشعرية، حاضرة بعقائدها وأساطيرها وخرافاتها وفلسفاتها وأحلامها وتاريخها، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن نفصل هذه الشعرية الإنسانية الحضارية عن ذاتية عفيفي وهمّه الوطني والقومي والإنساني".
"
استمرت خلافات عفيفي مطر الثقافية والسياسية مع السلطة واعتقل أثناء حرب الخليج الثانية، بعد نشاط محموم ومواقف جذرية ضد العدوان على العراق
"
تعمدت المؤسسة الثقافية المصرية تهميشه بسبب مواقفه السياسية المعارضة للسلطة، حيث نشر في مجلة "سنابل" (1969-1972) التي كان يحررها مع مجموعة من أصدقائه بجهودهم الذاتية، قصيدة بعنوان "68" يحثّ فيها الطلاب على التظاهر لإنهاء فترة اللاسلم واللاحرب التي وسمت بدايات عصر السادات.
لكن التهميش الذي تعمّدته السلطة المصرية آنذاك لعفيفي مطر لم يتوقف عند هذا الحد، بل صادر النظام الساداتي مجلة "سنابل" عقب نشرهم "أغنية الكعكة الحجرية" لأمل دنقل، ولم تكن "سنابل" مجرد مجلة ثقافية تهتم بالإبداع فقط بل كانت بمثابة تيار ثقافي معارض لتيار مثقفي السلطة.
ففي الوقت الذي كان فيه الشعراء والكتاب يتغنون بإنجازات مشروع النهضة العربي، دون النظر إلى الخطر الذي يهدده من الداخل، كان مطر يكتب ديوانه "شهادة البكاء في زمن الضحك" مما جعل محمود أمين العالم يقول: "شاعر يبكي ونحن نبني السد العالي"!
وبالرغم من التهميش الذي عاناه من المؤسسة الثقافية، إلا أن شعراء السبعينيات من جماعة "إضاءة 77" و"أصوات" التفوا حول تجربته، وأعجبوا بلغته الشعرية الجديدة التي تخفّفت من الشعارات السائدة آنذاك، واعتبروا تجربته انتقالاً بالقصيدة العربية من حالة الأحادية التي اتسمت بها قصائد المد القومي، إلى الذات المحملة بموروثها التاريخي وهمومها الواقعية، وصار عفيفي مطر لديهم شاعر الحداثة الأول في مصر.
ومثل كثير من المثقفين المعارضين لاتفاقية "كامب ديفيد" الذين فرّوا من مصر في هذه الفترة، فرّ محمد عفيفي مطر إلى السودان ومنها إلى العراق 1976 ليعمل محرراً ثقافياً في مجلة "الأقلام"، وكان خلال إقامته في العراق قريباً من فكر "حزب البعث" على المستوى القومي، كما يقول صديقه الروائي سعيد الكفراوي لـ"العربي الجديد" ولم يتمكن من العودة إلى مصر إلا بعد رحيل السادات بعدة أعوام.
بعد العودة إلى مصر، وفي ظل محاولة النظام المصري الجديد تغيير السياسة التي انتهجها السادات في آخر عهده، تم منحه جائزة الدولة التشجيعية 1989، إلا أنه كان يدرك أبعاد هذه اللعبة جيداً، وفي كتاب سيرته "أول زيارات الدهشة.. سنوات التكوين" خصّ فصلاً كاملاً بعنوان "الغول للأبد" تحدّث فيه عن استخدام النظام آلته الإعلامية الضخمة في احتواء وإبراز المثقفين الذين ينحازون إليه ويبررون فساده، بالتوازي مع تهميش كل من يخالفونه.
عفيفي مطر الذي كانت الأسئلة تظلّله كسحابة، ظلّ على خلافٍ دائم مع دعاة امتلاك الحقيقة، سواء من التيار الديني أو التيار الماركسي، فكلاهما اتهماه، لكنه ظل يدافع عن وجهات نظره ضد الأطروحات التي ظهرت في الستينيات، وخاض صراعات فكرية عديدة، منها خلافه مع المثقفين الذين أرادوا أن يقطعوا كل صلة لهم بالتراث، فمطر، كما ذكر عنه صديقه الروائي سعيد الكفراوي، كان يرى "بلادنا عربية ودينها الإسلام وهويتها مشرقية".
استمرت خلافات عفيفي مطر الثقافية والسياسية مع السلطة واعتقل أثناء حرب الخليج الثانية، بعد نشاط محموم ومواقف جذرية ضد العدوان على العراق، فتعرّض لتعذيب همجي، وتضامن معه عدد كبير من الشعراء والكتاب المصريين والعرب، وكتب خلال فترة اعتقاله ديوان "احتفاليات المومياء المتوحشة" سرد فيه تجربة تعذيبه في السجن.
وعن رفيق رحلته الطويلة وصديقه الأقرب يقول الروائي سعيد الكفرواي: "تجربة مطر الشعرية تنطوي على عمقها الخاص الذي يشبهه ويشبه هؤلاء المغمورين من أهل القرى الذين كانوا مادة لخياله. ظل مطر وفياً لحياته وجماعته، وانشغل بالنبش في ضمير أمته". ويضيف الكفراي: "الاحتفاء الرسمي من الدولة بـعفيفي مطر، جاء متأخراً جداً بحصوله على جائزة الدولة التقديرية 2006"، ويرجع الكفراوي ذلك إلى أن مطر كانت له مواقفه الواضحة في معارضة السلطة، ولم يكن ينتظر شيئاً من الدولة ومؤسساتها حيث كان يكسب قوت يومه بيديه، حيث زرع الأرض وربى النحل.
ويبقى في البال ما ردده محمد عفيفي مطر في تلويحة الوداع: "حياتي مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي وكريم استحقاقي، لم أغلق باباً في وجه أحد، ولم أخطتف شيئاً من يد أحد، ولم أكن عوناً على كذب أو ظلم أو فساد.. الله فاشهد".
القاهرة - أحمد زكريا
28 يونيو 2014
****
يا محمّد
سيّدُ من تأمَّل ليل الحقول، واستبطنَ أسراره - يوصي ألاّ يُدفن في الليل. هكذا هو. رغم أنه ذاهب إلى ضفاف ليل أبدي، ينحاز كعادته للشمس.
نعم. من عاش حياته كلّها في النور، وأعلن مواقفه كلّها في النور، وكالنور عاش ومات، لا تليق به العتمة.
أتذكّر محمد عفيفي مطر، في هذا الليل البرشلوني الطيّب، وأسترجع ذكرياتي القليلة معه. في القاهرة حيث سهرنا ليلة في حي "الحسين" وهو يأخذ بيدي من زقاقٍ إلى عطفةٍ إلى مقهى. ويخبّ كعصفور داخل جلبابه الريفي. وفي بغداد، قبل 13 سنة، إذ كانت آخر سهرة جمعتنا على انفراد في فندق المنصور.
هل أنسى؟
حكيت له وقتها كيف سرقت متشاعرة من عائلة يسارية ـ صارت بنت وزير بعد ذلك ـ قصيدة طويلة مدوّرة له، وكيف كنتُ اتهمتها بالسرقة، معتمداً على حدسٍ يعوزه إثباتُ الاسم. حتى جاء البرهان سريعاً، فنزلتْ القصيدة باسمه في صفحة "القدس" الثقافية، بعد شهر. وحكيت أنني أصررت حينها على خروج الفتاة من المسابقة، إلاّ أن لجنة التحكيم بحروف دالِها [وكانت أجمعت على منحها الجائزة الأولى] تنازلت بسبب اعتراضي ومنحتها الجائزة الثالثة! وهكذا فاز عفيفي (من خلال منتحلة القصيدة) بتلك المرتبة في مسابقة محلية باسم ناجي العلي.
وأنا إلى اليوم، لا يمكن أن أنسى تعقيبه أبداً: "مرتبة ثالثة في مسابقة تحمل اسم ناجي، ولا جائزة مبارك".
ضحكنا طويلاً على المفارَقة، والألم العراقي يتمرأى من تحتنا ونراه من الشرفة، وقال لي: حرام أن تكسر خاطرها، فما دامت البُنيّة أحبت القصيدة فأنا متنازل لها.
ثم أخذنا الحديث، فحمّلني رسالة إلى صديقنا العزيز مروان برزق. وكم ضحكنا على ذكرياته الطريفة مع مروان "التّقيل" وقول محمد "إنه أكبر شاعر طفل رأيته في حياتي"
الآن أتذكّره ويمضّني الأسى على الحال والمآل. فها هي الثورة التي حلم بها وأرّث نارها ـ في قصائد مشغولة بخيوط الذهب ـ تُخطف من أيدي صانعيها، وتنام مدحورةً في لحية شيخٍ أو خوذة جنرال.
تُرى متى سيستبدل شعبك "احتفالات المومياء المتوحشة" بـ "رباعية الفرح"؟
متى يا محمد؟
أيها الصوت الطالع ثقيلاً وكثيفاً مثل بقبقة في الطّمي.
يا مُواطن الألم الجمّ.
سلاماً لِنُبلك،
وسلاماً على يدك الباقية.
28 يونيو 2014
*شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة
************
28 يونيو 2010
من جدة إلى مطار القاهرة ومنه إلى غرفته في بيته - الذي بناه له الشعر، كما قال لي ذات مساء - بين زوجته وأبنائه وأشقائي وجدته ممدّاً. رفع رأسه قليلاً حين اقتربت منه، خلتُ أنه ابتسم. أعاد رأسه إلى الوسادة، قرأت "يس" وصلّيت بجواره في غرفته، في الركعة الأخيرة، سمعت شهقة طويلة، انتهيت من صلاتي، وعلى وقع صوت شقيقي الأكبر يطالب الحاضرين بالخروج، تيقنت أنها كانت "شهقة الموت"؛ فقبلها بعشرين عاماً وفي 28 يونيو 1980 سمعت نفس "الشهقة" من أبي؛ أحد أساتذة مطر الذين كتب عنهم في"أوائل زيارات الدهشة".
26 يونيو 2010
أتاني صوته - لم يكن مجلجلاً كعادته: "إنت فين، طولت السفر؟"، كنت معه قبلها بأسبوعين، قلت له: الآن أمر على شركة الطيران، آخذ تذكرة والليلة أصل. شيء ما أحبط محاولتي في منع نفسي من البكاء، فأنا لم أعتد أن يكون صوته بهذا الوهن. باغتني: لا تربك نفسك، تعال على مهلك، سأنتظرك، لا تخف، لن أموت قبل أن أراك.
يوم في يونيو 1991
بعد يوم من جلسة المحاكمة، التي قال فيها القاضي للمحامي عادل عيد، أحد 17 برلمانياً اضطروا السادات إلى حل مجلس الشعب بسبب فضحهم لاتفاقية "كامب ديفيد": يا أستاذ عادل لا تتعب نفسك بالمرافعة، فالقضية ليس فيها أوراق سوى محضر تحريات، المتهم براءة. في مقهى "زهرة البستان" كان لقاؤنا الأول بعد خروجه من المعتقل، كنت أستحثه على السفر إلى الرملة قريتنا، وكان يطلب مني الانتظار للغد، فربما يكون في حال أفضل صحياً؛ وحتى لا تراه صغرى بناته "رحمة" بوجهه المتعب. بكيت، فضحك وقال لي: "أهو كلام يا عم نزار، يعني الجرح الغائر في أنفي من صعق الكهرباء في المعتقل كيف أداريه". باغتنا أحد مدّعي الثقافة المشهورين بالقدوم للسلام على عفيفي بترحاب بالغ؛ فقابله على غير المعتاد بفتور أكبر. مضى المدعي، فقال لي عفيفي: هذا الـ... كان أحد الحاضرين لجلسات تعذيبي في "لاظوغلي"(أمن الدولة). رحل مطر ولا زالت الأوساط المتثاقفة تحتفي بالدعي، كأحد كتاب القصة والرواية!
لعلها كانت جلسة التعذيب، التي كتب عنها:
"وكان "غويا" واقفاً ويهمّ بالطيران في ألوانه
كان جلاد بكعب حذائه يهوي علي فطقطقت ضلع
ولعلعت الرصاصة فارتمي "غويا"
ارتميت
وليس من وطني سوى هذا الرماد".
يوم في يونيو 1991
أمام محكمة أمن الدولة في مدينة نصر، منتظراً ومتأهباً لسلام عابر في المسافة ما بين الهبوط من سيارة الترحيلات القادمة من سجن طره، والدخول إلى قاعة المحكمة، لمحني ضابط حراسة صغير، حال بيني وبينه بعنف بالغ، ثم احتضنه صارخاً: "عمو عفيفي، أنا خالد ابن الجيران في كفر الشيخ"، تذكره وسأله عن أسرته، وبكى لأنه لن يستطيع فك القيد من يديه، خوفاً من مسؤوله، اعتذر لي ودلفا للقاعة.
يوم في شتاء 1989
قادماً كنت من القاهرة، حاملاً نسخاً من جريدة الجمهورية، لتقرأ أمي اسمي موضوعاً على "قراءة في كتاب، الطريق إلى مكة" لمحمد أسد؛ ووجدت عفيفي هناك جالساً بجوارها يشربان "شاي العصاري". كان يحب الكاتب والكتاب والتجربة. ذكرته أنني استعرت الكتاب منه، فباغتني: عندك فأس؟ قلت له: أكتب بها مثلاً؟! جذبني من يدي فنهضت، نادى على المزارع (الذي يوكله بفلاحة أرض)، ناولني فأساً وأخذ أخرى؛ وهو يقول: تعال لنتكلم عن محمد أسد، ونحن نحفر جورات؛ لأننا اقتربنا من "خرجة العين" موسم زراعة الأشجار في مصر، وحديقة بيتكم كأنها قاحلة، وبدأنا الحفر.
يوم في ربيع 1989
جالساً كنت بشرفة منزلنا في رملة الأنجب، وإذا "أبو لؤي" قادماً فوق "عربة كارو"، محملة بصناديق خشبية كثيرة؛ مربعة وذات قوائم. بدأ بإنزالها، فنهضت أشاركه، قال لي: بالقرب تماماً من طرف الحديقة الذي زرعنا فيها الأشجار من شهور سيكون"المنحل"؛ سأشرف عليه بنفسي وسنتقاسم المحصول من العسل في موسم "القطف"؛ في كل موسم يأتي بماكينة فرز العسل؛ يتركه لنا كاملاً ويكتفي بالغداء معنا، يطلق جملته الأشهر: "ربنا يجعل بيت المحسنين عمار" ونضحك حتى تورق العيون بدموع فرح لم أعد أعيشه.
يوم في صيف 1969
لا أتذكره جيداً، كنت طفلاً يتابع فرَحاً في بيتهم وكبرى شقيقاته تُزف إلى محمد عفيفي مطر؛ وأنا شديد الحنق عليه؛ لأنه سيأخذها إلى بيته البعيد في كفر الشيخ. وكنت أتخيلها وقتها أقصى بقاع الأرض. أذكر أنه رفعني لأعلى من كتفيه، قال لي: إن شئت تعال معنا وسنعود جميعاً ذات يوم إلى البلد، حين نقولها نعني "رملة الأنجب".
... رحمة وسلام عليك أبا لؤي.
* كاتب مصري من أسرة العربي الجديد
********
28 يونيو 2014
يحتشد صوت محمد عفيفي مطر (1935-2010) بذوات متشابكة، ووعي مفارق للحظته الزمنية. الشاعر المعجون من طميها كان يشبه الأرض، وكانت تشبهه، كانا ندّين جليلين على عتبات الخوف والبهجة في آن. الشاعر الذي لا يشبه إلا نفسه كان جديراً بعصابة العين التي لازمته أيام حبسه في التسعينيات ليفتح بصيرته "على مد الحصيرة والمواويل"، يعرف المواقيت بحدس الموجودات من حوله، وكان غيابه هائلاً كحضوره، وموته مسألة من مسائل الجمال. وما نعثر عليه في شعره، نجده مضاعفاً في أعماله النثرية التي لم تقرأ بما تستحق من اهتمام، ولعلها غير معروفة لدى من تسنت لهم قراءة بعض شعره أو السماع باسمه الذي طالما حجبته المؤسسة الرسمية.
"كان قلبي معلّقاً بين مخالب طائر جارحٍ محموم بالسياحات في الأعالي، علوّه فزعٌ ورعب، وانطلاقاته كارثة الاحتمالات، ومناوشاته لعبٌ فوضويّ بين الأمل والموت، وكلما حطّ ليستريح نفّرته الدهشة بزياراتها المباغتة، وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المرّة والغربة الفسيحة".
عفيفي مطر كاتب النثر الخفي، كان يخفي في طيات قصيدته حكياً، يعرف أن الحكاية الواضحة محض هباء ملوّن، وأن القصيدة عابرة لزمنيتها إلى أزمنة تصفّي منها خلاصة الحكاية.
كان "أوائل زيارات الدهشة" كتاب سيرته الذاتية النثري، لحظة إنسانية خالصة من البوح، عبور برزخ بين جسده العجوز وقتها، وطفولة تهدهدت تحت كنف أمومة امتزجت بالترتيل، ومنحته طاقة الجمال دون حاجة إلى التعريفات الباذخة. كان البذخ مختبئاً في التفاصيل، و"ثلج الجيم المعطشة" يفتح سخريات أقرانه الصبيان على سلامته اللغوية.
نعرفُ أن السيرة الذاتية لحظات بوح منتقاة من وعي يريد أن يقول شيئاً ما، ولاوعي يبرّئ كيانه من همّ الذكريات؛ ذكريات عفيفي مطر كانت تبحث عن بدايات الشعر في صوت أمّه المرتّل للقرآن، عن حمّى الجسد في حضرة محمد حسن إسماعيل، الشاعر الهادر فوق رومانسية ضيقة وكلاسيكية صارمة.
"
لا
تلقِ بقيـادك ولا تطأطئ بولائك إلا لأشد الأشياء هشاشة وضعفاً
"
حاول مطر أن يفصّل الحكاية ويختزل الوجود، فكان أن اختزل الحكاية وفصّل الوجود، وجوده ووجودنا. لعبٌ حرٌ بلغة خرجت من جحيم معاجم بليت بالتكرار الممل، كان مطر يخلّي بينه وبين اللغة صراطاً، حتى همّت به وهمّ بها، فرأى برهان قصيدته ماثلا في الحكاية كما أرادت، لا كما أراد.
"لا تلقِ بقيـادك ولا تطأطئ بولائك إلا لأشد الأشياء هشاشة وضعفاً: حشرة طنانـة، أو طحالب بركـة، أو بيضة طائر، أو رائحـة عرق، أو دمعــة مقهـور".
الهشاشة التي سكنت تحت جلده، مكّنته من امتلاك الدهشة على هيئة قصائد محمومة، أراد في سيرة الطفولة أن يقول: ها أنا دون خوارق في التكوين، دون معجزات في النشأة غير الخيال، كنتُ فلاحاً يحرث الأرض واللغة، ويبتعد عن توافه الكلام واليومي الصغير. الهشاشة هي امتلاك الذات وتماهيها مع الجمال الكامن، كمونه عصيّ على محبّي المقولب والجاهز. لا يقدر على محبة البوح إلا من امتلك نفسه، وقد امتلكها عفيفي مطر.
"كنت أقلب صفحات الأطلس العجيب فأسمع وأرى وقائع السيرة الذاتية للأسلحة، أعجب السير الذاتية على الإطلاق وأتساءل بانبهار الحيرة: من يخلق الآخر ويقوده السلاح أم الإنسان؟ وكلما رأيت وسمعت أهوال الانحسار والابتلاع المتبادلين وانتقال الخطوط والألوان في دوي الانتصارات والهزائم، ازددت يقينا أن الأرض ذات قلب ورئتين، تنبض وتشهق وتزفر في أحوال من القبض والبسط العجيبين المنضبطين على إيقاع الأسلحة وضربات القرار والجواب في موسيقى التهليل بالنصر والأنين الدامي بالهزيمة".
الروح المعاندة التي ملأته، والتمرد الذي كلّفه عصابة على عينيه طوال فترة حبسه الآثمة في سجن "طرّة" رافضاً التدخل الأمريكي في حرب الخليج الثانية؛ كل ذلك لم يكسر من روحه ولا جسده، إلا بمقدار قشرة من الدم والصديد على أنفه، علامة على تجبّر الدولة وفجورها، إنسانيته لم تنحز إلى سياسة بل إلى الإنسانية.. كتب عفيفي مطر كتابه النثري ليحكي سيرته، لنكتشف أن في سطور السيرة سيرتنا نحن:
"كانت أمه جليلة الجليلات تستعيد الاستماع إلى ما حفظ ابنها من قصار السور، صعوداً إلى السور الطويلة، ومن جزء عم إلى جزء تبارك، وتصحح بصوتها الرخيم ووجهها المضيء بالفرح، وعينيها المسبلتين المتبتلتين ما يخطئ فيه. كان الإيقاع الجليل بصفائه يشمل كل شيء. وكانت الدنيا كأنها مسبحة أخاذة من الأصوات والانسجام المحكم.
ثم ذهب الولد إلى الكتّاب وحين أخذ مكانه على الحصيرة بين جماعة المبتدئين انتبه مفزوعاً مرتعباً على صوت "سيدنا" وهو يعنف امرأته وابنته الشابة وهما وراء الباب، ثم علا صوته الأجش الغليظ بآيات قصار السور فقال الولد لنفسه: لا بد أن الآيات أمومة خالصة لا يعرفها الرجال واكتشف أن كل ما حفظه من قبل قد سقط من ذاكرته. فبكى!
وأمسك الولد مرة بكتاب أخذ يقلّب صفحاته واحدة واحدة، وهو يبلل أصابعه بريقه ويحصي بصوت مسموع: آدي واحد. آدي اتنين. آدي تلاتة... إلخ. وفجأة ظهرت أمامه صورة قربها من عينيه ليري أدق تفاصيلها. كانت الصورة لفتاة صغيرة مهلهلة الثياب، تبكي وتولول تحت نعش يحمله رجال أربعة. فشق صراخها قلب الولد وامتلأت عيناه بالدموع، وهبّت من صفحات الكتاب لوعة متربة مازال يشمها منذ ذلك الزمن البعيد، يشمها وهو يلملم الدموع من الكتب ويتشقق صدره لصرخات الموتى والأحياء".
لم يغب الشعر عن نثر مطر، لكن كفت الدهشة عن زيارتنا حين واراه التراب، ولم ير الثورة المصرية وهي تقوم ثم تسرق.
* شاعر من مصر
************
28 يونيو 2014
لطالما وصفتْ تجربة محمد عفيفي مطر الشعرية بأنها صعبة النفاذ. في هذا المقام، تُستحضر، غالباً، على سبيل الاستشهاد، عناصر قصيدته الأكثر ملاحظةً: ريفيته أو برّيته كثيمة عامة وبستاناً لقطف الصور والاستعارات، لغته المعجمية كحامل للنص، واستعاداته التاريخية (فلسفيةً وأسطورية ودينية) كاشتغال معرفي أو هاجس جمالي وكثيمة في كثير من الأحيان أيضاً.
ويبدو، ببديهية مفرطة، أن خلطة شعرية كهذه لن تنتهي إلى قصيدة سلسة ومرنة خصوصاً (وهذا عنصر رابع يضاف إلى العناصر السابقة) وأن النص مفصّل، غالباً، على قالب عروضي صارم.
غير أنه، رغم ذلك، وهذه بديهية أخرى، فثمة خصوصية شعرية لنص عفيفي مطر. ولولا ذلك لما كان صاحب "رسوم على قشرة الليل" ليسمّى كأحد أهم وجوه جيل الستينيات الشعري في مصر، وهو كذلك بالفعل.
نحاول اقتراح تصور عن ماهية وشكل الشعرية في تجربة عفيفي مطر، انطلاقاً من قاعدة أنه ليس ثمة هناك تعريف أو حضور ثابت للشعرية وأن ماهيتها، بطبيعة الحال، تختلف بين تجربة شاعر وآخر بل حتى بين قصائد شاعر واحد.
ووفقاً لهذا التصور فإن السرد، بأدواته: القص والدراما والشخوص والمحاكاة، يلعب دور الحامل الخفي للشعرية في هذه التجربة. إذ ثمة، على امتداد منجز عفيفي مطر الشعري، قصة أو حدوتة تشكل عموداً فقرياً لنصه الذي غالباً ما يستجيب إليها، فيطول ويبني معماره وصوره وتدفقه على أساسها. ومن هنا، يمكن فهم قلة النصوص القصيرة جداً في أعمال محمد عفيفي مطر وكذلك قلة النصوص المجردة من الشخصي أو التي لا تنبني على قصّ أو استعادةً تاريخية.
"
يلعب السرد دور الحامل الخفي للشعرية في تجربة عفيفي مطر
"
إلى جانب ذلك، يقوم السرد بتخفيف الثقل المعرفي والمعجمي في القصيدة. فأدوات ونماذج القص المألوفة حتى لأكثر الناس عاديةً، تساعد، إلى حد بعيد، على مجاراة نص متخم بالإحالات والترميزات التي تتطلب اطلاعاً وفهماً لسياقها الأصلي من أجل مجاراتها أو "الاستمتاع بها" في سياق النص الشعري. وعلى الرغم من دور السرد الكبير على هذا المستوى، إلا أن نص عفيفي مطر يبقى مشبعاً بما نشعر أنه يثقل على القصيدة.
على هذا الأساس، لن تبدو شعرية مطر مخبأة ومستقرة كنواة داخل طبقات من لغته التراثية ومحاكاته الفلسفية والتاريخية، بل إنها موزعة على أسطر القصيدة ومنثورة هنا وهناك بفعل تنامي الحدوتة في النص والتي تتكامل، في حالته، مع الغنائية (بمعناها الحرفي) التي يفرضها الوزن العروضي.
وقد لا يبدو معقداً على القارئ تحديد علامات حضور السرديّ في منجز مطر، أقله على صعيد الشكل. ويمكن ملاحظة هذه التمظهرات في غزارة النص وتدفقه بشكل واسع على الوزن وكذلك على الصفحة المطبوعة.
كما يصح، أيضاً، الحديث عن العناوين (الكلاسيكية، غالباً) لمجموعاته ونصوصه والتي تفيض بدلالات القص والإخبار والدعوة إلى الإنصات: "الجوع والقمر"، "كتاب الأرض والدم"، "شهادة البكاء في زمن الضحك"، "يتحدث الطمي" (...).
إضافة إلى هذا وذاك، تجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى الكيفية المكررة في بناء عدد من الأعمال التي تتصل قصائدها، فيما بينها، بخيط سردي وكذلك بثيمة معينة يحمل أحدهما الآخر. ويحيل هذا إلى حاجة الشاعر، في الأماكن التي يبتعد بها عن الشخصي، إلى أيقونة تاريخية لينطلق من سرديتها مكتملة الحبكة والدلالة إلى ما يريد أن يقوله أو يسقطه في قصيدته التي غالباً ما تلتزم عناء القول. وتتجلى كيفية البناء هذه بوضوح شديد في أعمال مثل "شهادة البكاء في زمن الضحك" و"كتاب الأرض والدم".
* شاعر سوري مقيم في باريس
************
28 يونيو 2014
كثيرون هم الشعراء الذين لا ينتمي شعرهم إلى طفولتهم، نجدهم ينطلقون في سيرهم الذاتية من تلك اللحظة التي صفقوا بها باب العائلة وراءهم، ومضوا في طريق المغامرة. فهُم بحاجة إلى مفارقة لم تتحْها لهم طفولتهم، كما لم تترك لهم ندوباً صغيرةً على ركبهم لتعود بهم إلى حكاية ما؛ طفولة غارقة في الفراء والسكينة، وديعة بلا مخالب، وبلا أهازيج أم، وصلوات أب، وأقاصيص جدة.
أما الشاعر المصري محمد عفيفي مطر (1935- 2010) فلم يكن من هؤلاء، ولا ممن كانت طفولتهم مجرد استرجاع أو أثاث خيال، بل كان من أولئك الذين يضعون طفولتهم محل مستقبلهم لتظلّ كل قطارات العمر توصل إلى محطة واحدة هي الطفولة، حيث نراها داخل شعره وخارجه فهو يقول: "أمي كانت تدفن أخوتي الموتى في شقوق جدار البيت لتدرأ الموت عنه، وكانت تحييهم بحكاياتها فأراهم ليلا على شكل قطط تموء".
هكذا يكون الشعر رديف طفولة، لا يختارُ غير الأرواحِ الهشّة لتكتبه وتكونه، تتورّط فيه ويتورطُ فيها، عبر علاقة ملتبسةٍ لا تحسن معها هذه الأرواح أن تتحررَ أو تفرض قطيعة، فالشعر هو مسقط أجسادها، والقصيدة هي تلك الجدران التي جعلت من صرخة ولادتها ذاكرة ودروب مستقبلٍ مليء بالمرايا التي تعكس ما يكتظ خلفها. وكي تأمن الأمام عليها بالنظر الدائمِ إلى الخلف، وهنا لا ضرورة للبوصلة.
من قصيدة "الخفافيش أبدا": "فتحت عيني فيِ ذبول الشمس وهي تجر في أظلافها رملاً تذريه على شفق الغروب/ والظل يزحف صاعداً فوق الحوائط/ ناسجاً دغْش الزوال سقيفةً تدنو قتامتها رواقاً لانفلات الصبْية اللاهين والمتنظرين أمام باب الليل أن تنقض/ أسراب من الفحم المجنح: خفة، وذكاءُ تحويمي، ومكرُ مناوراتي، وانقضاض ليس يوقفه اصْطدام بالحصى أو بالعصا أو بالحوائط والسقوف".
"
ظل حتى لحظاته الأخيرة يمدّ الحياة بالامتنان عبر قصائده التي تُوّجت بالخلود رغم كثرة أعدائها
"
محمد عفيفي مطر، شاعر أتت أهميته من رؤيته الخاصة للشعر، فقد التفَتَ في وقت مفصلي إلى تجربته الشخصية واستمع إلى صوته الداخلي الذي يربطه بالحس الإنساني وأسئلته البسيطة في مرحلة اصطخبت بالشعارات السياسية ويافطات القضايا الكبرى، فغاص في دهاليز اللغة العصية، مقارنة بلغة مجايليه آنذاك، فحقق اختلافاً رُفض في بادئ الأمر، إلا أنه شكّل مدرسة ظهر أثرها في ما أنتجته الأجيال الشعرية التي تلته.
انشغل صاحب "رباعية الفرح" بإعمال الذهن في نسج جملته الشعرية، فجاءت محملة بكم هائل من المعرفة التي نهل منها بما يوسع من فضاء قصيدته، لتطلع على العالم المقابل لها. فهو يدرك مدى الاستحواذ الذي تمارسه عليه بيئته القروية وعشقه لتفاصيل الحياة الصعبة هناك، ويدرك تصالحه مع هذا الاستحواذ، فاستثمر كل ذلك بذكاء نجح في خلق معادلة صعبة دون أن تضطره إلى فرض قطيعة مع أحد الطرفين.
لكن صاحب "دفتر الصمت"، و"كتاب الأرض والدم" كان على قطيعة أو على موقف واضح من السلطة، وممن يقف في مواجهتها، فقد اختار لنفسه أن يظل حرّاً، واختار لقصيدته ألا تدجّن في أقفاص تلك السلطة، ولو كانت قضبانها من الذهب، أو كانت أبواقها تصدح بأسماء مساجينها، وهذا ما دفع بشعراء أقل أهمية وأقل قيمة منه لأن يختطفوا الظهور واهتمام النقد والإعلام.
من قصيدة "مراودة الهدهد": "من خفة التحليق حول العرش والتيجان والأمم السوالف/ ليس إلا الدود ينغل في بقايا الهالكين!/ راودْته عن عِلم ما يدريه/ شاغلني بخفّته وطيش النقر ما بين الشقوق/ نقر التلفّت نافشاً زهو التشكك واحتمالات اليقين".
ظل محمد عفيفي مطر حتى قصائده الأخيرة، مشغولاً بالتجريب والتجديد، أسير مختبر قصيدته الذي لم يغادره منذ اللحظة التي أدرك فيها أن لا مكان له في هذا العالم خارج القصيدة، فاعتزل الناس لكنه لم يعتزل الحياة، بل ظلّ يستمد منها الأمل والإشراق، وظلّ حتى لحظاته الأخيرة يمدّها بالامتنان عبر قصائده التي تُوّجت بالخلود والاستذكار رغم كثرة أعدائها.
* شاعر من الأردن
******************
28 يونيو 2014
في ذكرى رحيله التي تصادف اليوم، يبدو الشاعر محمد عفيفي مطر (1935-2010) هادئ الحضور، عميقه وشفّافه كما كان على امتداد حياته التي ما انفكت تشقّ مساراتها الخاصة المتعافية بإشراقة الشعر وتجلياته ودفاعه عن الإنسان ومستقبله في الدنيا وفي "أم الدنيا".
مثلما يحرث الفلاح الأرض يحرث عفيفي مطر اللغة، محاولاً ألا يشبه في بنيته اللغوية أحداً، فبينما كانت لغة صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل ترتبط بالواقع بدرجات متفاوتة، كان صاحب "من دفتر الصمت 1968" يغرّد وحده فيما وراء اللغة المباشرة، حتى أصبح بعد ذلك توجهاً شعرياً له تلاميذه خلال مسيرة شعرية امتدت قرابة الخمسين عاماً، لم تنقطع خلالها إصداراته بين مجموعات شعرية وكتب سردية وقصص أطفال ومقالات نقدية وترجمات شعرية.
"ولدتني أمي على شاطئ النيل، حيث جاءها المخاض فانتزعتني وذهبتْ بين الحقول، ومن يومها وأنا أعشق النيل والطمي والرمل والحقول"، هكذا يتحدث "شاعر الطمي" عن نفسه حيث ولد في قرية "رملة الأنجب" التابعة لمحافظة المنوفية، وكانت القرية المصرية بطقوسها وحكاياتها ومواويلها وأساطيرها إحدى أهم المؤثرات في تجربة صاحب "الجوع والقمر" و"يتحدث الطمي" في مرحلته الشعرية الأولى.
من يقرأ دواوين صاحب "رسوم على قشرة الليل" يلاحظ أن عفيفي مطر المزدحم بالتجربة الصوفية، المُحَمَّل بالأسئلة الوجودية، الممتلئ بعوالم القرية، الذي درَّس الفلسفة في المدارس لسنوات (حصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة) يحاول دائماً أن يمزج بين كل هذه العوالم ليخلق أسطورته الخاصة.
علاقته بالفلسفة ظهرت جلية في ديوانه "رباعية الفرح" الذي يتكون من أربع قصائد طويلة تتعلّق كل قصيدة بعنصر من عناصر الخلق (الماء والنار والهواء والتراب) في الفلسفة اليونانية القديمة.
تنوعت مصادر ثقافة صاحب "النهر يلبس الأقنعة"، لكنه ظل وفياً لعلاقته مع تراثه العربي والإسلامي، فتجده يتجادل مع عمر بن الخطاب، كما كتب في مقدمة ديوانه "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت" إهداء إلى الرسول هو "محمد.. سيد الأوجه الطالعة".
وصف الناقد محمد عبد المطلب شعرية "مطر" بأنها "شعرية التراكم لا القطيعة، كأن قصائده عمرها ألف عام مع أنّها بنت لحظتها، وهذا البعد الزمني المتوّهم جاء لأنّ الإنسانية كلها حاضرة في هذه الشعرية، حاضرة بعقائدها وأساطيرها وخرافاتها وفلسفاتها وأحلامها وتاريخها، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن نفصل هذه الشعرية الإنسانية الحضارية عن ذاتية عفيفي وهمّه الوطني والقومي والإنساني".
"
استمرت خلافات عفيفي مطر الثقافية والسياسية مع السلطة واعتقل أثناء حرب الخليج الثانية، بعد نشاط محموم ومواقف جذرية ضد العدوان على العراق
"
تعمدت المؤسسة الثقافية المصرية تهميشه بسبب مواقفه السياسية المعارضة للسلطة، حيث نشر في مجلة "سنابل" (1969-1972) التي كان يحررها مع مجموعة من أصدقائه بجهودهم الذاتية، قصيدة بعنوان "68" يحثّ فيها الطلاب على التظاهر لإنهاء فترة اللاسلم واللاحرب التي وسمت بدايات عصر السادات.
لكن التهميش الذي تعمّدته السلطة المصرية آنذاك لعفيفي مطر لم يتوقف عند هذا الحد، بل صادر النظام الساداتي مجلة "سنابل" عقب نشرهم "أغنية الكعكة الحجرية" لأمل دنقل، ولم تكن "سنابل" مجرد مجلة ثقافية تهتم بالإبداع فقط بل كانت بمثابة تيار ثقافي معارض لتيار مثقفي السلطة.
ففي الوقت الذي كان فيه الشعراء والكتاب يتغنون بإنجازات مشروع النهضة العربي، دون النظر إلى الخطر الذي يهدده من الداخل، كان مطر يكتب ديوانه "شهادة البكاء في زمن الضحك" مما جعل محمود أمين العالم يقول: "شاعر يبكي ونحن نبني السد العالي"!
وبالرغم من التهميش الذي عاناه من المؤسسة الثقافية، إلا أن شعراء السبعينيات من جماعة "إضاءة 77" و"أصوات" التفوا حول تجربته، وأعجبوا بلغته الشعرية الجديدة التي تخفّفت من الشعارات السائدة آنذاك، واعتبروا تجربته انتقالاً بالقصيدة العربية من حالة الأحادية التي اتسمت بها قصائد المد القومي، إلى الذات المحملة بموروثها التاريخي وهمومها الواقعية، وصار عفيفي مطر لديهم شاعر الحداثة الأول في مصر.
ومثل كثير من المثقفين المعارضين لاتفاقية "كامب ديفيد" الذين فرّوا من مصر في هذه الفترة، فرّ محمد عفيفي مطر إلى السودان ومنها إلى العراق 1976 ليعمل محرراً ثقافياً في مجلة "الأقلام"، وكان خلال إقامته في العراق قريباً من فكر "حزب البعث" على المستوى القومي، كما يقول صديقه الروائي سعيد الكفراوي لـ"العربي الجديد" ولم يتمكن من العودة إلى مصر إلا بعد رحيل السادات بعدة أعوام.
بعد العودة إلى مصر، وفي ظل محاولة النظام المصري الجديد تغيير السياسة التي انتهجها السادات في آخر عهده، تم منحه جائزة الدولة التشجيعية 1989، إلا أنه كان يدرك أبعاد هذه اللعبة جيداً، وفي كتاب سيرته "أول زيارات الدهشة.. سنوات التكوين" خصّ فصلاً كاملاً بعنوان "الغول للأبد" تحدّث فيه عن استخدام النظام آلته الإعلامية الضخمة في احتواء وإبراز المثقفين الذين ينحازون إليه ويبررون فساده، بالتوازي مع تهميش كل من يخالفونه.
عفيفي مطر الذي كانت الأسئلة تظلّله كسحابة، ظلّ على خلافٍ دائم مع دعاة امتلاك الحقيقة، سواء من التيار الديني أو التيار الماركسي، فكلاهما اتهماه، لكنه ظل يدافع عن وجهات نظره ضد الأطروحات التي ظهرت في الستينيات، وخاض صراعات فكرية عديدة، منها خلافه مع المثقفين الذين أرادوا أن يقطعوا كل صلة لهم بالتراث، فمطر، كما ذكر عنه صديقه الروائي سعيد الكفراوي، كان يرى "بلادنا عربية ودينها الإسلام وهويتها مشرقية".
استمرت خلافات عفيفي مطر الثقافية والسياسية مع السلطة واعتقل أثناء حرب الخليج الثانية، بعد نشاط محموم ومواقف جذرية ضد العدوان على العراق، فتعرّض لتعذيب همجي، وتضامن معه عدد كبير من الشعراء والكتاب المصريين والعرب، وكتب خلال فترة اعتقاله ديوان "احتفاليات المومياء المتوحشة" سرد فيه تجربة تعذيبه في السجن.
وعن رفيق رحلته الطويلة وصديقه الأقرب يقول الروائي سعيد الكفرواي: "تجربة مطر الشعرية تنطوي على عمقها الخاص الذي يشبهه ويشبه هؤلاء المغمورين من أهل القرى الذين كانوا مادة لخياله. ظل مطر وفياً لحياته وجماعته، وانشغل بالنبش في ضمير أمته". ويضيف الكفراي: "الاحتفاء الرسمي من الدولة بـعفيفي مطر، جاء متأخراً جداً بحصوله على جائزة الدولة التقديرية 2006"، ويرجع الكفراوي ذلك إلى أن مطر كانت له مواقفه الواضحة في معارضة السلطة، ولم يكن ينتظر شيئاً من الدولة ومؤسساتها حيث كان يكسب قوت يومه بيديه، حيث زرع الأرض وربى النحل.
ويبقى في البال ما ردده محمد عفيفي مطر في تلويحة الوداع: "حياتي مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي وكريم استحقاقي، لم أغلق باباً في وجه أحد، ولم أخطتف شيئاً من يد أحد، ولم أكن عوناً على كذب أو ظلم أو فساد.. الله فاشهد".
****
28 يونيو 2014
تمر الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر محمد عفيفي مطر (1935 - 2010)، و"المومياء المتوحشة" تحتفل بسلطتها، وفي أقبيتها رفاق وأبناء لصاحب "رباعية الفرح". سيرة تستعاد وتحضر معها لحظات ومقولات هي في عصب الأسئلة التي تزداد إلحاحاً: مواجهة الاستبداد، العروبة الثقافية، تحرر الإنسان الآن وغداً.
محمد عفيفي مطر.. تقرير إلى النيل
شعر عفيفي مطر: قطار إلى الطفولة
نثر عفيفي مطر.. مسبحة من الأصوات
طمي السرد الخفيف
يا محمّد
محطات في زمن الشاعر
لم يمنحنا العالم رشفة ماء
مسامرة الأولاد كي لا يناموا
فيلم رباعية الفرح - سيرة شعرية
****
28 يونيو 2014
1
لم يمنحنا العالم رشفة ماء
)مقاطع مختارة(
أمي.. ضربتها صاعقةٌ خضراء
فانفجرتْ من قدميها العاريتين عروق الماء
واختبأت في رئتيها النار
وتكسّر في عينيها بحر العنبر والقصدير.
أمي كانت تتقلب فوق سرير الطلق
تسقيها شمس الصيف.. فيندفق الأبناء
أمي ولدتنا دوامات بشرية
تتراكض، ترقص في الأبواب
أمي هجرتنا ذات مساء
ركبتْ مركبة الهيضةِ واللاجرا والتيفوس
فرضعنا خشب المقصلة السوداء
وشربنا مطر السوس
ودخلنا في غابات الخوف..
كنا في قلب النهر، ولم يمنحنا العالمُ رشفة ماء.
(من "الحصان والجبل"، 1966)
أغنّي وأكتب أقمار عشبٍ مجنحةً وشموساً معلقةً
بالشبابيك، أكتب إكليل فاكهةٍ وأضفّره في
زواج المواويل والماء والطمي،
أكتب فجر المواني وقُبّرة الموج والسفنَ العائدة
وأكتب شال الصبايا الملوّن أكتب أجسادهنّ
المليئة بالرعدة الموقدةْ
وأكتب أغنية الريش والقشّ أكتب تاج
العصافير للرحم الواعدة
وأكتب جوعي على واجهات المتاجر، أكتبه في
الرياح الثقيلة بالغيم، أكتبه في احتلام
التلاميذ وقت البلوغ، وأكتبه في سروج الخيول
ووشم الرصاص على قبة الجامعة.
(من "أكتب نافذة على مملكة الموت الآخر"، 1973)
ألتفّ بالشمس وغبار المسافات المفتوحة
أغسل جسدي بالقشّ ورغوة الغضب
وخناجر العشب المسننة
وأفتضّ أختام الريح وكُمون الندى في البراعم.
يسكن النحل تحت إبطيّ وبين أصابعي تختبئ
الينابيع الخائفة
والأرض زجاجةٌ تهشِّم ألوان الطيف وتذرّيها على
جسدي المعلق بين الجوع والربيع
أمتلئ شيئاً فشيئاً كاليقطين العسليّ الأحمر المدلّى
فوق أهرامات التراب ومصاطب التحاريق
أنضج بطيئاً
بـ
طـ
يـ
ئـ
اً
وأفرح بمراهقتي واكتشاف دمي
(من "فرح بالماء"، 1980)
أحدّق عبر صمت معتم علّي أرى
آثار عرس أو بقايا مأتم أو
صندلاً لصبية قد أعْجلتْها الغول عنه
أو انفراط الأحرف الأولى بأقلام
الطباشير الملوّن خطّها طفلٌ صغير
هي قفزة أعلو بها فوق الجدار
وخطوة.. فأكون أول من يرى
النسيان رأي العين:
آنية تكسّر طينَها حرقاً من العطش
استنامتْ في نسيج العنكبوت
ومراقد الحيوان والإنسان ربْقة ماعزي بليتْ
وفضْل حصيرة شرب التراب ترابها
تتآكل الجدران تحت نضائح الملح المرقّدِ،
والمهجات العميقة والشنشْنات التي اكتحلتْ
بدخان المصابيح القديمة حفّها جير من
الذرْق المنمّش.
هذه الأعشاشّ خالية..
نداء الشمس والريح الطليقة بعثرا أسرابها
عُيّثتْ في ظلم المهجات
ارتعدت بنقرتي وبخمش أظفاري
وريشي مرتعبْ
من مكْمن البوم اسْتللتُ البومة الكبرى،
لويت جناحها بجناحها،
انتفضتْ وحاولتِ الهربْ
ورجعت وهي أسيرة الفخّين: كفي والعشى في الضوء،
وجه في مهابته كوجه الأولياء الملهمين
حفّتْ به من هالة الأسفار في الظلمات شيْبته
حريراً في نديفي من زغبْ
عينان واسعتان شهْلاوان كالبحر المصفي
في زجاج كهوفه،
لا تنظران وليستا تريان شيئاً من غثاء الصبح،
منقار به كِبر الملوك وكبرياء الفهم.
أنتِ وريثة الأهل القدامى الراحلين:
وحفيظة الدّمنِ البواليِ
والعليمة بالسرائر كيف كانت تغْتلي بالعشق
والشعر المجنٌّح بالجنون
وهواجسِ الأهوالِ من غلّ وجوع واحْتراب وانكسار.
أطلقْتها بعد انحدار الشمس،
روحي واشهدي في ظلمة الملكوت
هوْلَ الذاكرة..
(من "سلطانة الأصل"، 2007)
العربي الجديد- يونيو 2014
كان للشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر، الذي غيَّبه الموت مساء أول من أمس عن عمر يناهز 75 سنة، حضوره وتأثيره البارز في الأجيال الشعرية التي تلته، وفي مقدمها شعراء جيل السبعينات الذين تأثروا بجملته الدائرية، واعتنائه باللغة، واعتماده تقنية الحلم في الرصد الشعري، ما جعل خصومه ممن تمثلت أهميتهم الشعرية في المباشرة والوضوح يتهمونه بالصعوبة والغموض. ويبدو أن هذه التهمة لاقت هوى لدى بعض من لا يحبذون إعمال الذهن في تلقي الشعر، ما أنتج نوعين من الحكم على شعرية مطر، كان أولها لدى الأجيال التي تأثرت به وآمنت بأهمية تجربته الشعرية وخروجها على المألوف في البلاغة والمجاز وطرائق التصوير، والثاني لدى معاصريه الذين لم يروا في مشروعه الكبير غير الغموض وصعوبة المفردات.
ومثَلت أعمال صاحب «الجوع والقمر» و «كتاب الأرض والدم»، و«أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت»، مرجعية جمالية لشعراء الثمانينات والتسعينات، وجسّدت حضوراً قوياً له في الساحة الثقافية العربية، فنال عنها عدداً من الجوائز المهمة، من بينها جائزة الدولة التشجيعية (1989)، جائزة سلطان العويس 1999، جائزة الدولة التقديرية (2006). لكن التتويج الأهم جاء من جموع المثقفين المصريين والعرب الذين تضامنوا مع محمد عفيفي مطر حين اعتقلته السلطات المصرية أثناء حرب الخليج الثانية في مطلع التسعينات، وكان هذا التضامن بمثابة اعتراف غير رسمي بأهمية منجزه الشعري، واعتباره أحد أبرز شعراء جيل الستينات، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق. في قريته رملة الأنجب الواقعة في نطاق محافظة المنوفية في شمال مصر، وافته المنية بعد صراع طويل مع مرض تليف الكبد. وفي القرية نفسها كان يطيب لمحمد عفيفي مطر أن يقضي أيامه منشغلاً بالزراعة وتربية النحل والحمام، مثل كثير من القرويين، ويطل بين الحين والآخر على القاهرة، التي قرر، على ما يبدو، مقاطعتها بعدما منح أحمد عبد المعطي حجازي نفسه جائزة ملتقاها للشعر العربي قبل نحو عامين.
ولد محمد عفيفي مطر في 30 آيار (مايو) 1935، وبدأ حياته العملية مدرساً في محافظة كفر الشيخ في شمال مصر، وأثناء عمله فيها حصل على ليسانس الآداب (قسم الفلسفة)، من جامعة القاهرة، وأصدر مجلة «سنابل» الثقافية التي صودرت عقب نشرها قصيدة «الكعكة الحجرية» لأمل دنقل. بعد ذلك سافر مطر إلى السودان ليعمل مدرساً، وسرعان ما انتقل إلى العراق ليعمل محرراً ثقافياً في مجلة «الأقلام»، وحرمه خلافه مع النظام المصري آنئذ من العودة إلى مصر إلا بعد رحيل السادات بثلاث سنوات. ثم عمل مستشاراً للنشر في الهيئة المصرية العامة للكتاب، وظل يبتكر طرقه الخاصة في محاصرة فيروس «سي» الذي أصاب كبده، من دون أن تبادر الدولة إلى علاجه على نفقتها من المرض اللعين إلى أن قضى بعد غيبوبة كبدية دامت أياماً عدة. من وجهة نظر كثير من النقاد كان محمد عفيفي مطر شاعراً يلتزم قضايا جماعته البشرية، بدءاً من قريته وشخوصها وأساطيرها الشعبية في دواوينه الأولى، مروراً بأمته العربية وثقافتها وتاريخها وموروثاتها التي تجلت في أعماله التي أسست لشهرته كواحد من أبرز الأصوات الشعرية في العالم العربي، وانتهاء بأمته الإسلامية وصراعها في مواجهة المركزية الأوروبية بحسبما تجلى في أعماله الأخيرة. ويرى عدد من النقاد أن محمد عفيفي مطر قدم طرحاً جمالياً انتقل بالنص الشعري من الحالة الأحادية التي عرفت بها قصائد المد القومي في الستينات إلى آفاق أوسع تؤمن بالتعددية الثقافية والإنسانية، رافضاً أغراض الشعر القديمة من مديح وهجاء وطارحاً مفهوماً جديداً عن الذات المحملة بموروثها التاريخي وتقاطعها مع همومها الواقعية، فظلت نصوصه تمثل الجمالية الفنية المطرزة بالمعرفة الفلسفية وأسئلتها الوجودية، لتصبح واحداً من أبرز التجليات الشعرية العربية المعاصرة.
الاربعاء, 30 يونيو 2010
*****
شاعر الطمي والدم... عابر المراحل
«شاعر مئذنة الدمع»، هكذا أسميت الكتاب التذكاري الذي أعددته عنه، بتكليف من لجنة الشعر في «المجلس الأعلى للثقافة في مصر»، عام 2007، احتفالاً ببلوغه عامه السبعين. هذا هو الشاعر المصري العربي الكبير محمد عفيفي مطر، الذي رحل، عن خمسة وسبعين سنة، بعد أن عانى طويلاً من داء الكبد.
محمد عفيفي مطر تجربة عريضة عميقة، متشابكة ومتراكبة: من شهقة الطين المغموسة بقهر القرية المصرية، إلى تصفح كتاب الأرض والدم، حيث «العالم متر في مترين» من جراء العنت والاستبداد، ومن التغلف المقنع بالفيلسوف الاغريقي أنبادوقليس إلى إيقاعات النمل حين تدب ببساطة الخرافة الريفية وتراجيدياها، ومن قشرة الليل المدلهم إلى تكنولوجيا التعذيب بأحدث الأدوات في ليمان طرة، ومن رصد تطوّحات عمر إلى عالم الأطفال حيث «غزالة المعنى» وسيرة «زيارات الدهشة» في الطفولة البعيدة.
وفي كل ذلك، هناك النسيج المعشق، والغوص في أحشاء التراث لتفكيكه وتركيبه، والأبنية الكبيرة المتواشجة التي تعز على المتساهلين والعابرين. وهناك الاحتفاء بشعائر القرية وشعرها، بمحاصيلها وجنونها، وهناك تقديس العمل واليد الصانعة.
على مدى يزيد على خمسين سنة قدّم مطر (المولود في قرية رملة الأنجب في محافظة المنوفية عام 1935) دواوين: «مجمرة البدايات»، «الجوع والقمر»، «يتحدث الطمي»، «دفتر الصمت»، «رسوم على قشرة الليل»، «كتاب الأرض والدم»، «شهادة البكاء في زمن الضحك»، «ملامح من الوجه الأنبادقليسي»، «النهر يلبس الأقنعة»، «رباعية الفرح»، «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت»، «فاصلة إيقاعات النمل»، «احتفاليات المومياء المتوحشة»، و«رعويات عبدالله».
وتضع هذه المسيرة الثرية أيدينا على ثلاثة ملامح كبرى رافقت تجربة شاعر الحرث والزروع – كما أطلقت عليه من قبل – عبر مراحلها المختلفة.
الأول: هو سطوع الطابع الفلسفي في شعره، وقد درس مطر الفلسفة، ثم درّسها طيلة عشرين سنة في المدارس الثانوية، ويهيمن هذا الملمح، في شكل أكثر بروزاً على ديواني «ملامح من الوجه الأنبادوقليسي» و «رباعية الفرح»، الذي يقوم على أربع قصائد طويلة تتعلق كل واحدة منها بأصل من أصول الحياة في الفلسفة اليونانية القديمة: الماء والنار والهواء والتراب.
أما الثاني فهو الاستناد الشامل على التراث العربي الإسلامي، حتي ليخيل إليك أن تجربة مطر هي مغامرة الغوص في التاريخ العربي القديم، لتقديم إحالة، أو مساءلة معاصرة. لذا نواجه الحسن بن الهيثم وغيلان الدمشقي وعلي بن أبي طالب وأبا ذر الغفاري وعمر بن الخطاب، والأخير بطل أساسي في ديوانين كاملين: هما «كتاب الأرض والدم» و «شهادة البكاء في زمن الضحك».
ونواجه المتصوفة المسلمين الذين كان مطر واحداً من المبكرين في كشف نبعهم الثرّ المكنون لنا وللأجيال التالية، في «تطوّحات عمر» يقول: «هذا حصاد القمر:/ الحارس الذي أقمته في هذه المدينة/ خربها كي يبتني بوابة للقصر/ رأيته منتفخ العينين (عله يفسق في الظلام)/ رأيته مرتعش اليدين (عله يبسط كفّه في المال أو في الجسد الحرام)/ رأيتني أنام/ على مكائد الإمارة – الجيفة/ والحبالة التي تنصب لي في طرق الخيبة والجحيم».
والثالث هو النهل من ميثولوجيا القرية وتجسيد الأمثولة الريفية، مع تحويل شعري لطقوس الفلاحة وشعائر الحرث والغرس. يقول في «نوبة رجوع : «ثقلت على عباءة الدم والرماد/ والريح تصفر في بوالي العظم/ أدّكر التصاريف التي عُلّمت من لغة الصفير إلى البهائم والحمائم والكلاب/ فنفخة بين القواطع لاستقاء الخيل والأغنام/ أخرى – بين تقطيع ومدٍّ – فالحمائم وقع فوق الذراع/ ونفخة في هيئة التقبيل تصفر من مقام العشق فالأبواب تُفتح والنوافذُ/ بين إبهامين في الشفتين أو سبابتين يهر كلب أو تفر دجاجة/ أو تؤذن النوق العصية بالحليب أو السِّفاد». وهكذا، نسج مطر من الأسطورة اليونانية والأسطورة العربية والأسطورة الريفية سبيكة أسطورته الفريدة.
وصفه الناقد إبراهيم فتحي، مرة، بأنه «شاعر عابر للأجيال»، وهو وصف محكم ودقيق، فقارئ شعر مطر سيجد فيه ملمحاً من ملامح كل جيل: بدءاً من المدرسة الرومنطيقية السابقة على حركة الشعر الحر، وانتهاء بالقصيدة الشابة الراهنة، مروراً بقصيدة التفعيلة، وحداثة السبعينات. انه ضارب في كل حلبة منها بسهم «إذا استثنينا موقفه المحافظ في الفترة الأخيرة من قصيدة النثر».
والحق أن مطر بنى بيته الشعري الشاهق (الذي شرح الناقد محمد عبد المطلب طوابقه وحجراته وشرفاته في دراسة ضافية) من غير مساندة من السلطة، ومن غير مساندة من المعارضة، على السواء. بل لعله اصطلى بنارهما جميعاً (السلطة والمعارضة معاً)، ولذا كنت أعيد عليه جملة جميلة من شعره، أردها عليه كلما مرّ بعنت: «احتملْ غُمّةَ البرمكيّين». وحينما منحته المؤسسة الثقافية، قبل سنوات قليلة، جائزة الدولة التقديرية كانت قد تأخرت في اعترافها كثيراً، وكانت قد منحتها قبله لشعراء هم أصغر منه قيمة وقامة.
يقول الشاعر الذي عاد لبارئه للتو: «الحق قد يقال مرتين:/ فمرة يقوله العراف/ ومرة يقوله السياف»، وقد خبر مطر الحالتين: قولة العراف أو الشاعر أو المفكر أو الفيلسوف، وقولة الجلاد. الأولى حينما قدم للحياة الشعرية العربية عطاء عميقاً من خصيب الشعر، والثانية حينما اعتقل في مطلع التسعينات، إبان حرب الخليج الأولى، ومورست عليه ألوان بشعة من التعذيب، صورها بعد ذلك في «طقوس متقابلة» بقوله: «إنني الظمأ المرفوف في رخام لا يبيد/ فليس من شيء لشيء غير عصف الروح في عصف الرماد/ مستحدث التعذيب بالكيمياء يكشط من ظلامك طينة للخلق فالملكوت يسطع/ والحشود المبهمات».
سلاماً أيها الرجل الذي علمنا ذات يوم أن «الشعر ملزم لا ملتزم»، فعرفنا أن الشعر أعلى من أي غرض أو منفعة أو وظيفة. وسلاماً أيها الرجل الذي لن نستطيع أن نقول له مجدداً: «احتمل غمة البرمكيين» لأنه صار أخف من كل قبيلة، وأرفع من كل عسف. وسلاماً أيها الرجل الذي قال في بدء مساره: «لو كنت شاعراً يا سادتي القراء/ لاغتسلت في أحرفي قوالب الأشياء»، وها قد حدث: صار شاعراً، واغتسلت في أحرفه قوالب الأشياء. وأسميناه: شاعر مئذنة الدمع.
الاربعاء, 30 يونيو 2010
*******
محمد عفيفي مطر الفلاح المطارد والشاعر البديل
رحل ليلة أول أمس الاثنين الشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر لينهي مسيرة شعرية وثقافية طويلة ومتميزة كان فيها ملء السمع والبصر كرائد متوج لشعر الحداثة المصري منذ بداياته في السبعينيات، وأصدر خلالها أربعة عشر ديوانا وسيرة ذاتية والعديد من الترجمات والمقالات وقصص الأطفال التي اهتم بها في الفترة الأخيرة من حياته.
عفيفي مطر ولد عام 1935 بقرية «رملة الأنجب» بمحافظة المنوفية شمال القاهرة لأسرة من «مساتير» الفلاحين، وفي بداية شبابه نال شهادة متوسطة واشتغل بالتدريس وتزوج السيدة «نفيسة» ابنه عمدة القرية، ثم التحق بكلية الآداب وحصل على شهادة في الفلسفة، ولكنه ظل عمره محبا للزراعة وكان يزرع أرضه القليلة بنفسه حتى أقعده المرض.
وبدأ مسيرته الشعرية في الخمسينيات، وفي بداياته كان يوقع باسمه كاملا «محمد عفيفي مطر عامر»، وأصدر، من قريته وبالجهود الذاتية، مجلة «سنابل» التي استمرت سنوات تنشر الكتابات الشعرية والقصصية والنقدية حتى صادرتها السلطات الرقابية في عهد الرئيس السادات بسبب نشرها قصيدة «الكعكة الحجرية» لأمل دنقل في بداية السبعينيات.
ومصادرة «سنابل» كانت بداية لمصادرات كثيرة لازمت عفيفي مطر في مصر طوال الفترة الأطول والأغزر من حياته، ووصلت الى حد منع نشر أعماله نهائيا من النشر في المؤسسات الرسمية في مصر حتى نهاية التسعينيات، وسجنه وتعذيبه وانتهاك جسده أثناء حرب الخليج الثانية.
وبعد مصادرة «سنابل» بدأ مطر يتخلى عن الانعزال في قريته ويقوي ارتباطه بالقاهرة، هو من بداياته كان يتردد على القاهرة، وكأي فلاح لم يصبر على الإقامة بها، وكأي شاعر لم يصبر على الابتعاد عنها، وفي النهاية استقر على يومين في القاهرة وباقي الاسبوع في القرية، وهذا ما التزم به حتى رحيله، وفي القاهرة التف حوله شعراء السبعينيات في مصر، ورأوا وهو الجهم الحاد والغامض ايضا رائدا لتيار شعري اعتبروه طليعيا ومخالفا لتيار الشعر السياسي القومي الذي كان مسيطرا في السبعينيات.
البديل الحداثي
معروف ان عفيفي مطر قدم في دواوينه الاولى لغة شعرية جديدة تخففت من الشعارات، وتميزت بالتراكيب والصور اللغوية المدهشة والغامضة أيضا، ونزعة جمالية غير مألوفة في الشعرية المصرية، وفي مطلع السبعينيات صار مطر شاعر الحداثة الأول في مصر، واتخذه شعراء السبعينيات من تجربته معادلا محليا او وطنيا لتجربة أدونيس، وفي الوقت نفسه وجدوا فيها بديلا لائقا بتغييب تجربة أمل دنقل التي اعتبروها شعارية تهتم بالسياسي على حساب الجمالي ووصفوه بأنه «آخر الشعراء الجاهلين»!!
وفي عام 1975 احتفلوا ببلوغة سن الأربعين، وأصدروا ملفا عنه في مجلة «الشباب» التي كان يصدرها الاتحاد الاشتراكي ويشرف على تحريرها الشاعر سيد حجاب، وكانت أول وربما آخر مرة يتم الاحتفال بشاعر لبلوغه الأربعين في مصر، وكان الغرض الأساسي من الاحتفال تدشينه رائدا لشعر «الحداثة المصري»، غير ان عفيفي المطر القلق المتوتر دائما ترك هذه الريادة الممنوحة وسافر إلى العراق سنة 1976.
في هذه الفترة غادر والأدق فر العديد من المثقفين المصريين لأسباب سياسية، غير أن مطر الذي كان منعزلا، ولم يكن له أي نشاط سياسي، ولم يسجن كالعديد من المثقفين في الستينيات والسبعينيات – غادر لأسباب شخصية، وفي ليلة سفره قال لأحد المقربين منه «انه مدرس، وإنه سيسافر للعراق للعمل بالتدريس وليس شيئا آخر».
التباس عراقي
مطر أقام في بغداد عشر سنوات، ويبدو أن ظروف العراق في هذه الفترة لم تسمح له بتحقيق وعده بالابتعاد عن العمل السياسي، وانضم وقيل أجبر على الانضمام لحزب البعث، واشتغل في «إذاعة صوت مصر العربية» التي أسسها صدام حسين خصيصا لمهاجمة النظام المصري، وشاع انه أثناء إقامته في العراق كان مرهوب الجانب، وأن الأدباء العراقيين أنفسهم كانوا يرهبونه، وكانوا يلتزمون الصمت لمجرد دخوله عليهم في المقاهي والجلسات الخاصة. بالطبع الأحوال كانت مرعبة في العراق، والحرب مع ايران على أشدها، والأخ كان يشك في أخيه، والوشاية - مجرد الوشاية – كانت تطيح الرقاب.
والحقيقة أنها فترة ملتبسة في مسيرة عفيفي مطر، وضاعفت رفضه في مصر لدرجة ان الشاعر الرائد صلاح عبد الصبور أعلن او قل صرخ على الملأ «على جثتي نشر أي شيء له في هيئة الكتاب»، وهي فترة ربما لخصها الشاعر العراقي سامي المهدي بقوله «التقيت عفيفي مطر في بغداد، وبعد طول تفكير اكتشفت أن المسكوت عنه في علاقتنا في العراق كان أكثر من المصرح به، واقتنعت بأن ما كان ينبغي ان يُسكت عنه في هذه الأيام ينبغي أن يظل مسكوتا عنه للأبد»!
إصرار الفلاح
غير ان مطر نفسه كان مرعوبا، والكثير من المثقفين العراقيين كانوا يثقون فيه ويحبونه، وقضى آخر ستة شهور في بغداد يخطط للهرب، وفي النهاية نجح وعاد الى القاهرة سنة 1986، وقيل ان آثار الرعب كانت بادية عليه، والشاعر احمد طه الذي التقاه ليلة وصوله للقاهرة قال «كان مرعوبا، ويعاني من آثار جرح نفسي عميق».
لكنه كأي فلاح أصيل لم يهاجم الأحوال في العراق، وحينما وقعت حرب الخليج الثانية وقف ضدها بضراوة، ودخل في سجالات عنيفة مع العديد من المثقفين المصريين، ووقف في «مقهى ريش» بوسط القاهرة مدافعا عن العراق وشعبه، وإن كانت أخذته الحماسة لدرجة انه خلط بين الشعب العراقي والرئيس العراقي وأطلق مقولته الشهيرة عن «مسمار حذاء صدام حسين» التي استفزت العديد من المثقفين المصريين، وسخر منها ومنه المفكر الراحل فرج فودة بمقال «الشاعر المسمار» او «المسمار الشاعر. وبسبب رفض مطر لضرب العراق واحتلاله اعتقل اثناء حرب الخليج، وتعرض لتعذيب جسدي رهيب ظلت آثاره ظاهرة في وجهه كالوشم حتى رحل. عفيفي مطر واحد من أبرز شعراء الحداثة في مصر والعالم العربي، وطوال مسيرته أصدر 14 ديوانا منها «يتحدث الطمي» و«وملامح الوجه الانبا دوقليس» و«الجوع والقمر» و«من دفتر الصمت» و«ورسوم على دفتر النيل» و«كتاب الدم والأرض» و«أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت»، وله العديد الترجمات عن الانكليزية كما اصدر جزءا من سيرته الذاتية «مجمرة البدايات» وبعض الأعمال في أدب الطفل، وفي السنوات الأخيرة رُفع الحظر الرسمي عن أعماله في مصر وصدر بعضها في هيئة الكتاب وهيئة قصور الثقافة وحصل على جائزة الدولة التقديرية وقبلها جوائز «سلطان العويس» و«كفافيس» و«جامعة اركانسو» الأميركية.
السفير
*******
وفاة الشاعر محمد عفيفي مطر بعد معاناة مع المرض
القاهرة - (ا ف ب):
توفي الشاعر المصري المعارض للنظام السياسي المصري محمد عفيفي مطر مساء الاثنين عن عمر 75 عاما اثر معاناة مع مرض تليف الكبد استمرت سنوات طويلة على ما افاد اتحاد الكتاب المصريين.
وعاش الشاعر الراحل حياة متقشفة بعدما اضطر الى اللجوء للعراق بعد معارضته اتفاقيات كامب ديفيد التي وقعها الرئيس المصري الراحل محمد انور السادات وهي الفترة التي شهدت رحيل عدد كبير من المثقفين والمبدعين المصريين عن بلادهم ليلجأوا الى عدد من الدول العربية بينها لبنان والعراق والامارات العربية وغيرها.
وبعد عودته هجر الوظيفة الرسمية في التعليم ولجأ الى زراعة ارضه في قريته مواصلا نظم الشعر والنثر والترجمة. ويعتبر بعض الشعراء والنقاد الشاعر الراحل من اهم شعراء الحداثة العربية الى جانب الشاعر السوري ادونيس ومن اثرى الاصوات الشعرية العربية والمصرية عموما.
وقد اتخذ محمد عفيفي مطر مواقف سياسية اودت به الى السجن خصوصا معارضته والمثقفيين المصريين لموقف الحكومة المصرية اتجاه الحرب على العراق حيث تم اعتقاله واخرين العام 1991.
وقد عكست تجربة الاعتقال نفسها على شعره فيما بعد وتجلت في ديوان 'احتفاليات المومياء المتوحشة'.
ولد مطر في قرية رملة الانجب في محافظة المنوفية العام 1935 ودرس الفلسفة في كلية الاداب وعمل مدرسا في مصر ورئس تحرير مجلة 'السنابل' التي كانت مساندة للحركة الطلابية مطلع السبعينات فقامت الدولة باقفالها.
وحصل عفيفي مطر على الكثير من الجوائز المحلية والعربية والعالمية من اهمها جائزة العويس الاماراتية على الصعيد العربي وعلى الصعيد المحلي فاز بجائزتي الدولة التشجيعية والتقديرية الى جانب جوائز من جامعات محلية وحاز جائزة كفافيس اليونانية الى جانب جائزة من جامعة اركنسو الاميركية وجائزة المؤسسة العالمية للشعر في روتردام الهولندية.
ومن اعماله الشعرية 'من دفتر الصمت' الذي صدر في دمشق العام 1968 و'ملامح من الوجه الامبادوقليسي' ( بيروت 1969) و'الجوع والقمر' (دمشق 1972) و'كتاب الارض والدم' (بغداد 1972) و'شهادة البكاء في زمن الضحك' (بيروت 1973) و'النهر يلبس الاقنعة' (بغداد 1975) . ومن اخر اعماله 'معلقة دخان القصيدة' (القاهرة 2006) و'المنمنمات' (القاهرة 2007). كذلك صدرت اعماله الشعرية الكاملة عن دار الشروق بالقاهرة العام 2003.
وفي النثر له عدد من الكتابات هي 'شروخ في مرآة الاسلاف' و'محمود سامي البارودي (دراسة ومختارات)' و'اوائل زيارات الدهشة' الى جانب قصص للاطفال وللصبية بعنوان 'مسامرات الاولاد كي لا يناموا'.
كذلك قام بترجمة الاعمال الكاملة للشاعرة السويدية اديث سودر غران مع عدد من المترجمين الاخرين وكذلك مختارات من شعر الشاعر اليوناني ايليتيس.
القدس العربي
30/6/2010
*******
غياب شاعر الأقنعة.. محمد عفيفي مطر
رحيل إثر رحيل، تغيب الوجوه فيحضر تاريخها أكثر مما كان، لنعيد ترتيب مواقفنا وأفكارنا، ما بدأنا به وما نحن عليه. في أقل من أسبوع تودع الساحة الثقافية في مصر رجلين من جيل واحد، أثارا جدلا بكتباتهما كما بمواقفهما، هكذا تودع الساحة الشاعر محمد عفيفي مطر الذي توفي أمس الاول عن عمر يناهز 75 عاما بعد معاناته مع المرض، وذلك بعد غياب الناقد فاروق عبد القادر بأيام قلائل.
انتمى عفيفي إلى جيل الستينات أيضا، واستطاع أن يشكل حضورا مميزا بين أقطاب الشعر في ذلك الوقت من صلاح عبد الصبور وحجازي إلى أمل دنقل. هذا الريفي القادم من قرية رملة الأنجب بمحافظة المنوفية، وطالب الفلسفة الذي ما لبث أن عمل معلما، أدخل إلى شعر المرحلة نفسا جديدا مغايرا، وترك وراءه ما يتجاوز 15 كتابا ما بين الأعمال الشعرية والنثرية وكتيبات الأطفال. لكن تبقى أعماله الشعرية هي الأهم بطبيعة الحال.
شعرية خاصة
ارتكزت شعرية عفيفي مطر على عناصر ليست بالضرورة متوافقة، فمن الريف المصري كانت إعادة تمثل دراما الحياة كبناء كلي ورؤية لتاريخ ممتد ومتناقض، ومن مفردات الطمي والنيل، تشكل عالم من الأقنعة ومن أساطير الحكائين أعيد بناؤه شعريا، وهو ما ميز قصيدة مطر بكثافة وغموض، لم يكونا موضع ترحيب واسع، ومن الفلسفة بأصدائها اليونانية جاءت رؤوس عناوين جدل الحياة والموت، ومن التجريب الشعري جاءت اللغة التي تحاول القبض على الشعر كجسد حسي لا يشير مباشرة إلى واقع، وأخيرا كان المعجم الشعري المغاير الذي قرن بين مفردات الريف ماء وشجرا وسنابل، وبين المفردة العربية شبه القاموسية أحيانا، ليشكل في النهاية خصوصية عالم جعل البعض يرى فيه «القصيدة المصرية»، تلك القصيدة ربما وجدت فيها أجيال أخرى نفسا مغايرا للواقعية الناعمة والمغامرة المحدودة في قصائد عبد الصبور وحجازي، أو للمباشرة السياسية لدى أمل دنقل.
لم يكن عفيفي مطر شاعرا جماهيريا، لكنه مدين بإحيائه إلى تلك الأجيال الباحثة عن نموذج مصري للتجريب الشعري يوازي حضور أدونيس، ونفوذ محمود درويش.
أصدر عفيفي الكثير من الأعمال الشعرية: الجوع والقمر، يتحدث الطمي، النهر يلبس الأقنعة، كتب الأرض والدم، من دفتر الصمت، شهادة البكاء في زمن الضحك، ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي، رباعية الفرح، أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت، فاصلة إيقاعات النمل، احتفاليات المومياء المتوحشة، وغيرها. كما اصدر عفيفي مطر مجلة «سنابل»، وهي إحدى مجلات الهامش، التي رفض أصحابها الاندراج في المؤسسات الرسمية.
ومع هذا فقد حصل عفيفي مطر على جائزتي الدولة التشجيعية والتقديرية، كما حصل على جائزة سلطان العويس.
أقنعة واستعارات
ربما بدا عفيفي مطر سباقا إلى ذلك التعاطي الذاتي مع التجربة الوطنية ـ إذا صح التعبير ـ بأسلوب مغلف بالغموض والأقنعة والاستعارات الذهنية الصادمة، قبل أن يصبح هناك تيار كامل بعد عام 1967، يرى في هذا الشكل الذي كان يعد تجريبيا انتصارا للجمالي على الواقعي الذي كان بدوره مهزوما بالفعل. لقد شغلت فكرة السلطة هذا الجيل ومن ثم شعوره بالإقصاء والتهميش، فارضة نوعا من الكبرياء الذاتي الملتبس بالشاعرية، ومن ثم تشابهت نظرة عفيفي مطر إلى الشاعر مع صيغ صارت معتمدة وشائعة، عن الشاعر الذي لا يعنيه القارئ، ولايبحث عن النجومية، الشاعر الذي هو عبد للشعر ـ بحسب تعبير مطر نفسه في حوار له ـ والذي يتعمد بحسب تعبيره أيضا أن يشق على القارئ ويتعبه.
المسافة الذهنية التي يتخذها شعر عفيفي مطر من الحياة هي مسافة تحويلها إلى مواقف وأفكار مجردة ترتدي الأقنعة والصور، التي تتداعى في تحرر من الأصل. من ثم تصبح الصورة نفسها قناعا للفكرة، بدلا من أن تكون اكتشافا لها في لحظة التعين، ولحظة التجربة. ربما هذا ما دفع الناقد الكبير لويس عوض في مقال قديم له عن عفيفي مطر بعنوان «في السريالية المصرية» إلى القول «ولذا نجد أن مجازاته واستعاراته وكناياته معقدة وكأن فيها طرفا ثالثا خفيا، أو كأنها ناقصة دائما في «المعادل الموضوعي».
دخل الهاجس السياسي إلى مطر ليس من باب الخطابية، ولا من باب نقد الفعل اليومي، بل من باب البانوراما الأسطورية التي يمكن أن تستدعي تاريخا من المواجهات ومآسي التمرد من غيلان الدمشقي، إلى النفري. وإن كان ذلك الهاجس يطل برأسه مباشرة أحيانا في بعض الأعمال.
لقد اعتبر البعض هذا النهج الشعري انسحابيا وذاتيا، وفي تعليقه على ديوان «النهر يلبس الأقنعة» الذي يختتمه مطر بالإشارة إلى ثورة الطلاب عام 1968 في عهد عبد الناصر يقول لويس عوض «هل عرفت الآن لماذا فشلت ثورة الطلبة عام 1968؟ لأن المثقفين انفصلوا عن الجماهير وانسحبوا إلى الماضي البعيد وخرجوا من سياق القرن العشرين، وذهبوا يستلهمون تراثا عظيما حقا في عالم الفكر لكنه لا يطعم فما ولا يبني بيتا، ولايحرث أرضا ولا ينشئ مصنعا ولا يجيش جيشا ولا يصلح نظاما، ولأنه يحتفل بالتصورات أكثر مما يحتفل بحقائق الحياة».
قد لا يتفق الكثيرون مع رؤية كهذه، لأنه ليس مطلوبا من الشعر أن يطعم ويبني، ويجيش، لكن ربما ما كان يعنيه لويس عوض هو طبيعة الوعي الذي تمثله هذه الشاعرية، التي تعيش مع أشباحها أكثر مما تواجهها.
رحم الله الراحلين.
القبس
*******
أدباء: مطر ظل مهملاً طيلة عمره وإنصافه جاء متأخراً
محمد عفيفى مطر مثل الكثيرين من المبدعين الكبار الذين خاصموا المؤسسة الثقافية ظلوا مهملين طوال عمرهم، وأنصفوه فى النهاية.
كانت هذه الكلمات التى اتفق عليها الكثيرون ممن تحدثوا عن الشاعر الراحل الكبير محمد عفيفى مطر الذى رحل عن دنيانا مساء أمس الاثنين عن عمر يناهز الخامسة والسبعين بمنزله فى بلدة "رملة الأنجب" بمركز أشمون محافظة المنوفية.
حيث أكد الروائى والقاص جار النبى الحلو على صداقته العميقة بالراحل الكبير عفيفى مطر، وقال لليوم السابع إنه التقاه أول مرة فى مدينة كفر الشيخ، وكان مطر هناك يصدر مجلته "سنابل"، وبدأ ينشر له بعض أعماله فيها عام 1971، وامتدت علاقته بمطر وصارت حميمة، حتى أنه صادق أولاده وأسرته.
ويشير جار النبى الحلو إلى أن مطر شاعر كبير جدا لم يعرفه أحد، وتجاهله النقاد فترة كبيرة من الزمن، ولم يتم تقديمه بما يليق به، ومارس الكتابة للطفل باقتدار، ويؤكد جار النبى الحلو على أن مطر كان يطلعه على كتاباته للطفل قبل نشرها، لأنه كان يعتبره من كتاب الأطفال المجيدين.
ويقول جار النبى الحلو: آخر مكالمة بينى وبين مطر كانت من 10 أيام، وشعرت بالإجهاد الشديد والمعاناة مع المرض فى صوته، وشعرت بأننا سنفتقده كثيرا.
وقال الشاعر حزين عمر إن محمد عفيفى مطر حالة خاصة من المبدعين فى مصر، وربما لا يتشابه فنيا وإنسانيا مع آخرين.
ويؤكد عمر على أن الإبداع المركب الذى كتبه مطر، كتب فى مقابله الإبداع المبسط جداً وهو الكتابة للأطفال، حيث أنتج مطر عدة أعمال لهم، وكان يفتخر بها، مثلما يفتخر بشعريته وقدرته على الغوص والتصوير فى أعماق الرؤى.
وأشار عمر إلى استقلالية مطر عن مؤسسات الحكومة، حيث عاش معارضاً للكثير من التوجهات الرسمية ودفع ثمنا لهذه المواقف، ومنها اعتقاله فى التسعينيات.
ويضيف عمر: ابتعد مطر بعد ذلك، ولجأ إلى قريته، حيث عاش يزرع أرضه بيديه، تعبيراً عن انتمائه للشعب قولاً وفعلاً، وكان من الطريف أنه ظل مطارداً ليس فقط بمواقفه المعارضة، بل كذلك بشبهة تقليده لأدونيس، وطرقه لمفاهيم القصيدة العربية، مما أدى لاصطدامه مع بعض شعرائنا الكبار أمثال صلاح عبد الصبور، ولم تكن المعركة بينه وبين الشعراء السابقين عليه معركة شخصية، بل حول مفاهيم الشعر وجماليته.
ويؤكد عمر أنه نال بعض الإنصاف فى أخريات أيامه، حيث حصل على جوائز الدولة التشجيعية والتقديرية والتفوق، والجائزة الأكبر التى نالها هى حب المبدعين له وإن أختلف معه الكثيرون حول منطقه الفنى.
جدير بالذكر أن الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر من شعراء الستينات، نشر ديوانه الأول "من مجمرة البدايات" فى مطلع الخمسينات، واتبعه بأربعة عشر ديواناً شعرياً كان آخرها "المنمنمات" الذى صدر منذ عامين عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
وكان للراحل الكبير عدة معارك ثقافية متعددة دخلها رغما عنه، حيث تسبب خلافه الشعرى مع الراحل صلاح عبد الصبور إلى منع دواوينه من النشر حيث كان عبد الصبور وقتها رئيسا لهيئة الكتاب الذى أقسم أمام عدد من الشعراء والأصدقاء أنه لن ينشر له ديوانا ولو على جثته، كما رفضت نفس المؤسسة الثقافية نشر دواوينه فى عهد رئيسها الأسبق سمير سرحان، رغم أنه وقع معه عقدا، وهو ما دفع مطر لنشر أعماله الكاملة فى دار الشروق التى أصدرتها فى ثلاثة مجلدات.
اليوم السابع
الثلاثاء، 29 يونيو 2010
*******
من قريته رملة الأنجب بالمنوفية..
شيعت فى العاشرة من صباح اليوم الثلاثاء، جنازة الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر الذى وافته المنية أمس الاثنين، بقريته رملة الأنجب مركز أشمون بمحافظة المنوفية، وذلك فى حضور عدد كبير من الأدباء والمثقفين على رأسهم الدكتور صابر عرب رئيس هيئة دار الكتب والروائى سعيد الكفراوى "صديق عمره" والشاعر محمد سليمان والدكتور عبد الوهاب عبد المحسن الفنان التشكيلى والشعراء فتحى عبد الله ومحمد سعد شحاتة وطاهر البربرى ومصطفى سليم، وأيضاً الأدباء سامى إدريس وبهجت فرج ووائل قنديل مدير تحرير جريدة الشروق وزوج شقيقته ولفيف من القيادات التنفيذية بمحافظة المنوفية وحضور جماهيرى كبير.
خيم الحزن على وجه أبنائه الثلاثة المهندس لؤى الابن الأكبر وناهد الابنة الوسطى وكذلك رحمة الابنة الصغرى، والتى ذكرها فى عدد من دواوينه منهم ديوان "احتفاليات المومياء الموحشة" والذى تحدث فيه عن تجربة اعتقاله فى عام 1990 بعد حرب الخليج الأولى.
ويقام العزاء اليوم أمام منزله برملة الأنجب التابعة، كما سيقام عزاء آخر مساء الخميس القادم بمسجد عمر مكرم بالقاهرة.
جدير بالذكر أن الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر توفى أمس الاثنين فى منزله بقرية رملة الأنجب بمحافظة المنوفية عن عمر يناهز 75 عاماً، بعد أن تمكن المرض منه، حيث كان يعانى من تليف كامل بالكبد أصابه بغيبوبة لمدة أسبوعين توفى على إثرها.
وتمنى مطر كما يذكر المقربون منه أن يموت دون ألم، وكان يقول دائماً "أنا لا أخشى الموت ولكن أخشى الألم"، ومؤخراً اشترى قطعة أرض بقريته بنى عليها مقبرة ليدفن فيها.
اليوم السابع
الثلاثاء، 29 يونيو 2010
*******
بالصوت.. اليوم السابع تنشر "هلاوس ليلة الظمأ" لمطر
أهدى الشاعر الكبير الراحل محمد عفيفى مطر ملفاً صوتياً لليوم السابع لقصيدته "هلاوس ليلة الظمأ" والتى كتبها فى معتقل طره عام 1990، وتم قام اليوم السابع بنشر القصيدة وملف الصوت فى الأول من يونيو الجارى، ويعيد نشرها اليوم الثلاثاء بعد رحيله أمس عن عالمنا عن عمر يناهز الخامسة والسبعين.
وتقول القصيدة:
غبشُ يبلله دخول الليل، والغيطان تسحب
من بدايات النعاس تنفس الإيقاع منتظمًا على
مد الحصيرة والمواويل.
- الزمان كأنه فجر قديم مستعاد -
قد كنت مضطجعا أعابث شعر بنتىَّ الصغيرة أفزعتها
قشرة الدم والصديد على عظام الأنف
- أهذى أم هى الزنزانة انفتحت على زمانين واتسعت على هول المكان؟! -
ريق وجمرة حنظل، تتشقق الشفتان:
-: يا عبد العليم
ما للجرار ادحرجت والقلة الفخار عفرها الرماد
والملح، والنهر القريب مشقق، ما للتحاريق ارتعت
بالجمر والنسج المهلهل أعظمى وأديم هذا الليل
يا عبد العليم!!
أهذى وألهث أم هى البنت الصغيرة من ظلام الغيم
تخرج فى يديها الكوز والإبريق تلمع فى نحاسهما الزخارف
بالعناقيد المندّاة؟!
التفت.. فراعها أن القيود تعض لحم المعصمين
فيرشح الدم
فاستدارت وارتمت فى عثرة الرهبوت
قد نبهت رحمة أن يكون الماء والفخار مشمولين
بالسعد المفوح واللبان
قال المخنث للمخنث: إن هذا الأهبل المجنون يهرف بالكلام
(فعرفت أنهما هما..
والجسر بين الصالحية والرشيد مرجِّعٌ
للبلغم الدهنى فى صوتيهما)
قال المخنث للمخنث:
إن نوبة نومى اقتربت
فأخرس صوته بعصاك
فانفجرت برأسى الصاعقة
كان الصدى متشظيا بدم الهلاوس
آه يا عبد العليم
لم يترك الأهلون من نبل العصا فى لعبة التحطيب ميراثا
بأوغاد الزمان النذل
هل رجل وضربته تجىء من الوراء!!
أدرك دمى بالبن بعد الماء يا عبد العليم
كانوا ثلاثة أصدقاء
والموت رابعهم، وأيديهم تجمعها قصاع الفت فى
ليل الموالد بعد رقص الذكر والتخمير..
كان أبوك يهدر فى مقام الحشد تأخذه الجلالة،
وجهه الطينى يلمع، والعصى فى إصبعيه تدور مثل مغازل الأفلاك
يا جمل المحامل – إنه جمل يطمطم من ضراب الرقص فى
أعضائه.. يا أم هاشم.. ثم تنكسر العصى على عصاه
ثانيهمو ينشق عنه الحشد:
قفطان يضيئ بياضه الزهرى، والشال المرفرف، بسطة الأفيون،
والقد النحيل كالخيزرانة، والعصا ليست ترى من كرها بين اليدين يفح،
يصفر، يرتمى وتداً يلين وينثنى كالصل..
آه وألف آه
هى نقرة الطرف الرشيق من العصا بفجاءة التلميح والتصريح..
لا تجدى مقاومة ولا يجدى دفاع اللاعبين
يعلو ضجيج الحشد ما بين الصهيل الحر والفوضى وإنشاد الذهول
مس وطائف بهجة ورؤى جنون الوصل توصل نشوة الملكوت
بالإنسان فى وجد الجنون
حتى إذا اقتربت خطى عمى معوض بالعصا حط السكون
هو صخرة قدت من الأهواء والخمر الرخيص فأفردته العائلة
هجرته زوجته وفر بنوه فى تسعينه الأولى
فزوجته الزجاجة والعصا والذكريات مع النساء
كفاه كالمذراة ساعده عروق السنط خطوته انصباب السيل،
كان الحشد ينصت وهو تغمز عينه ببقية من كحلها المعتاد من عسل وششم،
دار ملتفتاً إلى ركن النساء على السطح وحاجباه يراقصان
الشمس والحناء والذكر الغويّة،
ثم مر اللاعبون وتخلعت أعضاؤه خشباً وفولاذاً ورقصاً عارى الإيماء
كان اللاعبون أمامه لعباً تطيش عصيهم وتطيب من
أيديهمو والكحل فى عينيه يغمز للنساء
والليل يطوى خيمة الصبح المعفر لانعقاد الذكر والتخمير..
واشتبكت أصابعهم بدفء الفت واللحم السمين،
ورابع الأصحاب يرقبهم، يطيف على الرؤوس مرفرفاً
كالصقر، ينسج من تواشيج الصبابة والولاية
مدرج الكفن الحرير.
موضوعات متعلقة
بالصوت.. قصيدة "هلاوس ليلة الظمأ" لعفيفى مطر
http://www.youm7.com/News.asp?NewsID=247225&SecID=94&IssueID=0
اليوم السابع
الثلاثاء، 29 يونيو 2010
*******
قصائده تضج بالألم والأحلام المغدورة
القاهرة - “الخليج”:
غيب الموت أمس الأول الشاعر المصري محمد عفيفي مطر، عن عمر ناهز 75 عاماً، إثر غيبوبة، اقتضت نقله إلى العناية المركزة بأحد المستشفيات بفي مسقط رأسه في محافظة المنوفية، بعد وصول نسبة تليف الكبد لديه إلى أكثر من 70% .
ينتمي عفيفي مطر إلى الجيل الثاني من أجيال الريادة الشعرية التي كتبت قصيدة التفعيلة، ولد في 30 مايو/أيار عام ،1935 وتخرج في كلية الآداب بجامعة عين شمس، قسم الفلسفة، حيث عمل مدرساً للفلسفة لمدة عشرين عاماً .
حصل مطر على عدة جوائز عربية وعالمية منها جائزة الدولة التقديرية في مصر عام ،2006 إضافة إلى جائزة كفافيس، وجائزة سلطان العويس التي جاء في حيثيات فوزه بها أن “الشاعر عانى هيمنة الاغتراب في الحياة اليومية، في تجربة ممضة، تجعل من القول الشعري تعبيرا ذاتيا وجماعيا في آن، وتحيل القصيدة إلى نقد للواقع وشوق ملح إلى أفق جديد، بما تنطوي عليه من إبراز لقيم الخير والجمال والمسؤولية الأخلاقية والحس الوطني والالتزام القوي، الذي يرى عروبة الشعر في الدفاع عن القضايا العادلة” .
كان مطر رئيساً لتحرير المجلة الطليعية “سنابل” التي صدرت في العام 1969 وأغلقتها السلطات المصرية عام 1972 بسبب نشر قصيدة أمل دنقل “الكعكة الحجرية” التي تتضامن مع مظاهرات الطلبة المعتصمين بميدان التحرير آنذاك .
وسافر مطر إلى العراق ليقضي أكثر من 15 عاماً هناك، ويعمل ضمن هيئة تحرير مجلة “الأقلام” في الفترة من 1977 إلى ،1983 وحين عاد إلى مصر في بداية التسعينات اعتقلته أجهزة الأمن المصرية، بتهمة الانتماء إلى حزب البعث العراقي وخرج من هذه التجربة القاسية بديوانه “احتفالات المومياء المتوحشة” .
أصدر عفيفي مطر حوالي 14 ديواناً شعرياً، منها “رباعية الفرح و”الجوع والقمر” و”النهر يلبس الأقنعة” و”شهادة البكاء في زمن الضحك” و”أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت” و”كتاب الأرض والدم” كما قام بترجمة مختارات شعرية من أعمال الشاعر اليوناني “ايليتس” والشاعرة السويدية “أديث سودر جران” وله دراسات نقدية منها “شروخ في مرآة الأسلاف” إضافة إلى كتاباته للناشئة ومنها “صيد اليمام” و”حكايات الشعر والشاعر” وصدرت في الشارقة . يشير الناقد د .محمد عبدالمطلب إلى بدايات عفيفي مطر الأولى، والتي تعود إلى العام ،1957 عندما نشر قصيدته الأولى بعنوان “فردوس بائعة المانجو” وكانت هناك محاولات أولى لابد أنه أسقطها، لأنها كانت إرهاصاً بالشعر، ثم جاءت قصيدته “أريد السلام” التي يقول عنها عفيفي مطر نفسه: “كانت قصائدي الأولى هراء يعيد إنتاج الهراء” .
ويقول عنه الشاعر الفلسطيني المتوكل طه' . لقد استطاع محمد عفيفي مطر- هذا الشاعر المنسي أو المُغيَّب - أن يقدم صيغة مبدعة لعلاقة الشاعر/ المثقف بالسلطة وإفرازاتها وهيمنتها وما تضعه حولها من نخب تتبنى وتردد أطروحاتها، خالقة بذلك “ظلاماً “ كثيفاً يمنع الرؤيا ويقتل الرؤية ويغتال البصيرة والحياة .
إنّ مفردة “الظلام” التي يستعملها الشاعر محمد عفيفي مطر هي من أكثر المفردات تكراراً في دواوينه، الظلام الذي يعيشه الشاعر ليس فقط، في زنزانته التي يسميها “جحيماً” وإنما في لحظته المعيشة وفي تاريخه . إن ما يعانيه ويكابده الشاعر جعله يرى الأشياء من جديد ويقرأ التاريخ بعيون وروح جديدة ، أو لنقل ، بنظرية جديدة هي نظرية “الخوف من الخوف” . وما بين “الظلام” و”الخوف” يكون الموت، وفي هذه الكآبة، والقتامة، تلد قصيدة الشاعر محمد عفيفي مطر، قصيدة تضجّ بالألم والفزع والكوابيس والرؤى المقتولة والأماني المغدورة ووجوه الأحبة الموتى والمدن التي يسكنها الأشباح كما أنها قصيدة مُركّبة تستند إلى الأسطورة التي يُعيد إنتاجها بلغة حداثية فلسفية، تؤكد أن صاحبها شاعر رجل يستحق الاحترام .
قصيدة هذا الليل
هذا الليل يبدأ
دهر من الظلمات أم هي ليلة جمعت سواد
الكحل والقطران من رهج الفواجع في الدهور!
عيناك تحت عصابة عقدت وساخت في
عظام الرأس عقدتها،
وأنت مجندل - يا آخر الأسرى . .
ولست بمفتدى . .
فبلادك انعصفت وسيق هواؤها وترابها سبياً
وهذا الليل يبدأ،
تحت جفنيك البلاد تكومت كرتين من ملح الصديد
الليل يبدأ
والشموس شظية البرق الذي يهوي إلى
عينيك من ملكوته العالي،
فتصرخ، لا تغاث بغير أن ينحل وجهك جيفة
تعلو روائحها فتعرف أن هذا الليل يبدأ،
لست تحصي من دقائقه سوى عشر استغاثات
لفجر ضائع تعلو بهن الريح جلجلة
هذا الليل يبدأ
فابتدئ موتاً لحلمك وابتدع حلماً لموتك
أيها الجسد الصبور
الخوف أقسى ما تخاف . . ألم تقل؟!
فابدأ مقام الكشف للرهبوت
وانخل من رمادك، وانكشف عنك،
اصطف الآفاق مما يبدع الرخ الجسور . .
الخليج
30/06/2010
*******
لغة التراب
أخمن أن محمد عفيفي مطر، الراحل أول أمس، كان في الثلاثين يوم التقيت به، كان شاباً بسمرة قمحية وسيماً متواضعاً وحيياً. لم يكن عبد الصبور وحجازي أسنّ منه لكنهما سبقاه إلى الظهور، أسبقيّة بقيت تحسب لهما، توج عبد الصبور وتوج بعده حجازي وبقي مطر بلا تاج. لم يكن محمد عفيفي مطر يومئذ مجهولاً وبالنسبة لي كان مميزاً. القصائد التي قرأتها له في الآداب لم تخف مسحتها «اللوركية» لكنها للسبب نفسه كانت جديدة. استلهامها «اللوركي» وقدرة الشاعر على تمثله وموازاته أفرداه عن سابقيه اللذين استلهما في الغالب قصيدة ذات منبت يساري، تراءى لي يومئذ أن مطر تنكب الأصعب، وأنه طلب الشعر من منابع أصفى، فقد كانت «رومانسيرو جيتانو» للوركا من مثالاتي الشعرية وكان لوركا يومئذ يكاد يختصر الشعر من العالم. كان واضحاً ان مطر لم يسلك الطريق التي وجدها أيسر وأكثر بديهية، إنه اختط في الشعر والشعر المصري طريقاً آخر، وإن قصيدة الصبور/ حجازي من مدرسة وقصيدته من مدرسة معاكسة. كان شعر الإثنين الأولين يومذاك يؤسس لاتجاه واقعي، قوامه لغة لا تجانب النثر ولا تتجنب المباشرة ولا تعيا بالوضوح ولا توارب الأفكار، فضلاً عن انها لا تمتنع عن إخراج الشعر إلى سياسة معلنة ودعوة إنسانية او أخلاقية. شعر مطر، حتى في ذلك الوقت، كان شغلاً على اللغة وبناءً مجازياً متكاملاً وعبارة مضمرة مقبوضة لمّاحة، وإيعازاً لا إعلاناً واستقلالاً بالشعر عن النثر والأغراض السياسية والإنسانية، وغموضاً مضيئاً وشفافاً وصورة مشدودة متوترة وإيقاعاً محسوباً. مدرستان، الأولى أكثر بداهة وأكثر تعاطياً مع الواقع وأكثر جذباً في ظرف غليان سياسي واجتماعي، والثانية تمتدح الشعر وتفرده وتستقل به وله وتبدو لكثيرين آنذاك تقديماً للفن على الحياة.
لعل هذا جعل محمد عفيفي مطر ضائعاً في جيله حتى نكاد نظن أنه من جيل تال، بل نشعر في النهاية انه ضائع الجيل. بدا ان الصبور وحجازي مثلا وحدهما مدرسة مصرية في الشعر، وأن شعر مطر أقرب إلى المدرسة السورية اللبنانية، والأرجح ان قصيدة مطر ومفهومه للشعر تقاطع مع مدرسة «شعر» والتجربة الأدونيسية بوجه خاص، ذلك نقل مطر من لغة «رومانسيرو جيتانو» المتوترة المقصبة إلى احتفال لغوي تتناسل تداعياته وتتراكب في نوع من تهويم متصل وسديمي أحياناً.
مع شعراء السبعينيات حظي مطر باعتراف وازن. عارض شعراء السبعينيات شعر الصبور وحجازي بقصائد تتقاطع مع دعوة «شعر» والتجربة الأدونيسيه، وتتقاطع من هذا الباب مع قصيدة مطر. تلاقى شعراء السبعينيات مع مطر أكثر مما تسلسلوا منه. مع ذلك اكتشفوا فيه رائداً مبكراً وكرموه. بقي دينهم لمطر أخلاقياً وتاريخياً لكنه مع ذلك لم يعدّل في سلسلة الرتب، فقد بقي لحجازي الرائد تاريخيته وجعلته هذه متوجاً بدون منازع وزعيماً رسمياً للشعر المصري. هكذا ظل مطر رغم كل التكريم ضائعاً بين الأجيال.
كان مطر سعيداً حين يقول إنه فلاح لكنه كان بحق الفلاح الفصيح، يتدخل ويعلم ويصوّب بحق او غير حق، كان يرى ان في شعره أيضاً الصهد والتراب والطين والطمي، ويرى ان سديمته وكثافته من كثافة التراب وسديمته، بل لعله كان يبني قصيدته من تراب لغوي، من تراث يقوم مقام الأرض والطين. على هذا فكر مطر أنه يؤسس لقصيدة تشبه في بنائها وتشكيلها الأرابسك العربي وربما سيولة المقامات وألف ليلة وليلة، وربما تشابك وتداعيات «لسان العرب».
غير أن حياة محمد عفيفي مطر السياسية أخذت من التراب والحجر عنادهما وقسوتهما، ولعل ذلك دخل في طبعه أيضاً. كان مطر يملك طيبة الصعيدي وتشبثه، وحين دخل إلى السياسة متأخراً دخلها هائجاً بل وطائشاً ولم ينج «الفلاح الطيب» من عنف وسجن وتعذيب، لكنه لم ينج أيضاً من عداوات جرتها عليه مواقفه الوعرة، فالرجل الذي كان يقدم مفتاحه لكل وافد على القاهرة كان يابس الرأس أحياناً جامداً عند رأيه. اذكر ندوة للروائيين لم يكن فيها وإنما صادف وجوده في المكان نفسه، لكنه لم يمنع نفسه من التصويب والتدخل الى أن قال له إبراهيم اصلان الواسع الصدر عادة «لا تفت في الرواية يا محمد».
قرأت له في «أخبار الأدب» مؤخراً قصائد احببتها، وجدت فيها خفة وضبطاً وبناءً واقتصاداً افتقدتها في الكثير من أعماله الأخيرة. كان شاباً من جديد، ولاح لي انه يتصل ثانية بتجربة شبابه اللوركية التي ضاع عنها من زمان، احسب انها كانت مادة ديوان وأن الديوان اليوم بين يدي القراء وأقدّر ان قراءته بوعي أفضل ما يمكن تقديمه لذكرى «مطر».
لا نعرف شاعراً بكّر وتأخر كما فعل محمد عفيفي مطر، وفي الحالين تأخر بدقيقة عن ان يكون في زمنه. ربما لذلك لم يستقر حال مطر ولا رتبته ولا جيله ولا حتى أسلوبه. لقد بقي قلقاً في موضع قلق، واليوم وقد رحل نعرف ان الجدل سيستمر حوله زمناً أطول. ستكون له بسبب ذلك في الأغلب بعد موته حياة ثانية، وربما مديدة.
السفير
*******
أنهكه تليف الكبد فصمت في رملة الأنجب
هناء البنهاوي ـ القاهرة، أحمد الكناني ـ جدة
ودعت الساحة الشعرية العربية الشاعر المصري محمد عفيفي مطر عن عمر ناهز 75 عاما بعد صراع طويل مع مرض تليف الكبد.
وغيب الموت مطر البارحة الأولى في منزله في قرية «رملة الأنجب» في مركز أشمون في محافظة المنوفية (شمالي القاهرة) بعد دخوله في غيبوبة منذ أسبوع.
ولد مطر عام 1935 وتخرج من كلية الآداب (قسم الفلسفة). اعتقل عام 1991 لمعارضته مشاركة مصر في التحالف الدولي الذي قادته أمريكا لإخراج العراق من الكويت.
من أبرز دواوينه: (الجوع والقمر)، (يتحدث الطمى)، (رباعية الفرح)، وسجل تجربة الاعتقال في عدة قصائد أشهرها «هلاوس ليلة ظمأ» وأثمرت تلك التجربة ديوانه (احتفالية المومياء المتوحشة). صدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق عام 2000. وله أيضا كتاب للناشئة عنوانه «مسامرة الأطفال كي لا يناموا»، وكتب جانبا من سيرته الذاتية في كتاب «أوائل زيارات الدهشة».
نال مطر جائزتين من مصر هما: جائزة الدولة التشجعية في الشعر عام 1989، وجائزة الدولة التقديرية 2006. كما فاز بجائزة سلطان العويس من الإمارات عام 1999.
ويعتبر النقاد أن ديوانه (كتاب الأرض والدم) بغداد 1972 بمثابة الالتفاتة الأولى للتراث العربي، الذي استثمره مع الأساطير جنبا إلى جنب، بينما رأوا في ديوانه (شهادة البكاء في زمن الضحك) علامة فارقة في التاريخ الحديث لمصر، حيث سجل فيه شهادته على زمن عبد الناصر ونكسة يونيو 1967 عندما استدعى قناع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ليتحدث من خلاله وليقارن بين حال الأمة العربية مع عدله وحالها مع القهر والظلم التي سادت البلاد العربية عموما في ذلك الوقت، وعلى وجه الخصوص مصر، وهو ما جعله سببا مباشرا لحدوث النكسة. غير أن الحنين يأخذه مجددا في ديوانه السابع (يتحدث الطمي) إلى الأرض والحكايات التي اندثرت في الاستخدام الحديث وشكلت الوجدان الشعبي في الريف المصري.
أما ديوانه (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) بغداد 1986، فيراه النقاد أهم ديوان لمطر يبرز فيه مشروعه الشعري والفكري معا، حيث عارض فيه نصوصا عربية قديمة، كما استخدم أقنعة متنوعة واستقدم شخصيات شكلت روح التراث العربي والفكر الإسلامي ليحاورها أو يستنطقها ويتحدث عبرها.
ويستعيد عفيفي في ديوانه (رباعية الفرح) لندن 1990 صفاء لغته الأولى التي قدمها في (من دفتر الصمت) مع عودة جديدة للفلسفة اليونانية، حيث بنى الديوان كله على أربع حركات مماثلة للعناصر الأربعة التي بدأ منها الكون الماء، الهواء، النار، التراب، وذلك دون أن يتنازل عن مستوى التركيب الشعري الذي وصل إليه في صورته الكاملة كما في (أنت واحدها).
الشاعر الراحل والد المهندس لؤي المقيم في جدة، وزوج شقيقة الكاتب شريف قنديل، وهشام قنديل مدير أتليه جدة للفنون التشكيلية، ونزار قنديل مدير تحرير دار الشبكة العربية، ووائل قنديل مدير تحرير مجلة جريدة الشروق المصرية. وتتقبل الأسرة العزاء على الأرقام: (0020101160911)
عكاظ
******
محمد عفيفي مطر: وداعاً أيّها الشاعر
بعد أيام قليلة على رحيل الناقد فاروق عبد القادر، فارقنا ليل أمس محمد عفيفي مطر (1935) الذي يُعَدّ من أبرز الأصوات الشعرية في مصر. رحل الشاعر بعد دخوله في غيبوبة منذ الأسبوع الماضي. صاحب «والنهر يلبس الأقنعة» (1975) قضى بتليّف الكبد، وسيُشيع اليوم في قريته رملة الأنجب (محافظة المنوفية، شماليّ القاهرة)، على أن تتلقى أسرته العزاء هناك أيضاً.
تركت قصيدة عفيفي مطر أثراً كبيراً في جيل السبعينيات المصري. تتميز أعماله بكثافة الصور الشعرية وتلاحقها، وبزخمها الفلسفي والفكري. درس الراحل الفسلفة في جامعة القاهرة، وتأثّر بالتراث العربي والإسلامي والمصري القديم وبالتصوف الإسلامي، ما جعل قصيدته مستغلقة على كثيرين، وإن كانت قد أثرت في جيل كامل من الشعراء المصريين الذين عدّوه أباً روحياً لهم.
اللافت أنّ مصر لم تنشر أياً من دواوين مطر الأولى، بل توزع نشرها بين بيروت وبغداد ودمشق وطرابلس الغرب. حتّى إنّ باكورته «الجوع والقمر» (1972) لم تنشر كاملة في بلاده إلا منتصف التسعينيات. يعود ذلك إلى خلافه في الستينيات مع صلاح عبد الصبور الذي قال: «لن أنشر له ديواناً، ولو على جثتي». هكذا اختار الراحل أن ينشر في الخارج، فلم تصل دواوينه إلى القراء في مصر. عندما حاول أن يصحح هذا الوضع في الثمانينيات والتسعينيات، جمع كامل أعماله (13 ديواناً) بطلب من هيئة الكتاب ووقع معها عقداً لنشرها... كادت الدواوين تذهب إلى المطبعة، لكن أتت الأوامر بسحبها وحجبها لأسباب سياسية... لحظة صدورها.
كانت تجربة اعتقال عفيفي مطر في أوائل التسعينيات بعد تظاهره ضد الغزو الأميركي للعراق، من أشد التجارب قسوة في حياته. اتهم حينها بأنّه يسعى إلى تأسيس تنظيم بعثي في مصر. في دواوينه اللاحقة، روى كيف كانوا يعذبونه. كانوا يعلقونه من يده في ممر بارد، ولشدّة ألمه كان يخال أبناءه معه في الزنزانة، ويسمع عويلاً طوال الليل. هذه التجربة أنتجت ديوانه الأشهر «احتفاليات المومياء المتوحشة» (1992)، وصارت قصيدته «طقوس متبادلة» أيقونةً لبشاعة تعذيب السلطة المصرية لمعارضيها.
رحل مطر الآن ولتهدأ روحه. وكما كان يقول: «حياتي مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي وكريم استحقاقي، لم أغلق باباً في وجه أحد، ولم أختطف شيئاً من يد أحد، ولم أكن عوناً على كذب أو ظلم أو فساد».
٢٩ حزيران ٢٠١٠
وفاة الشاعر المصري محمد عفيفي مطر عن 75 عاما
Mon Jun 28, 2010 8:03pm GMT
القاهرة (رويترز) - توفي مساء يوم الاثنين الشاعر المصري محمد عفيفي مطر (75 عاما) في مستشفى بمحافظة المنوفية شمالي القاهرة بعد أن ظل أياما في غيبوبة نتيجة مضاعفات اصابته بتليف الكبد.
وقال الكاتب سعيد الكفراوي صديق الشاعر انه سيشيع الى مثواه الاخير يوم الثلاثاء في قريته.
ولد مطر في قرية رملة الانجب بمحافظة المنوفية عام 1935 ودرس الفلسفة في كلية الاداب وعمل مدرسا في مصر ثم سافر في نهاية السبعينات الى العراق ضمن كثير من المثقفين والفنانين المعارضين لسياسة الرئيس المصري السابق أنور السادات منذ سعى للسلام مع اسرائيل التي وقع معها معاهدة للسلام عام 1979.
وفي عام 1991 اعتقل مطر نتيجة معارضته السياسة المصرية في موقفها من الحرب على العراق في يناير كانون الثاني 1991 التي استهدفت اخراج الجيش العراقي من الكويت. وسجل مطر تجربة الاعتقال في عدة قصائد أشهرها (هلاوس ليلة ظمأ) وأثمرت تلك التجربة ديوانه (احتفاليات المومياء المتوحشة) 1992.
والشاعر الراحل من أبرز شعراء جيل الستينات في العالم العربي ومن دواوينه (الجوع والقمر) و(يتحدث الطمي) و(فاصلة ايقاعات النمل) و(رباعية الفرح) و(أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) و(النهر يلبس الاقنعة) و(ملامح من الوجه الامبيذوقليسي).
وله أيضا كتاب للناشئة عنوانه (مسامرة الاطفال كي لا يناموا) كما كتب جانبا من سيرته الذاتية في كتاب (أوائل زيارات الدهشة).
ونال مطر جائزتين من مصر هما جائزة الدولة التشجعية في الشعر عام 1989 وجائزة الدولة التقديرية 2006. كما فاز بجائزة سلطان العويس من الامارات عام 1999.
************
عفيفي مطر ينفذ وصيته ويرحل في صمت
القاهرة - الدستور الثقافي - وائل السمري
لفظ الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر أنفاسه الأخيرة مساء أمس الاثنين بعد أن عانى كثيرا من جراء إصابته بمرض تليف في الكبد مكث بسببه ما يقرب من سبعة أيام في غيبوبة تامة بالقسم الفندقي بمستشفي منوف العام ، وتم نقله إلى منزله منذ يومين فقط ، رافضا أن ينتقل إلى القاهرة ، وموصيا أقرباءه وتلامذته المخلصين أن يلتزموا الصمت حيال مرضه وألا يبلغوا الصحفيين ، وأن يكتموا سر مرضه حتى يأتي "قضاء الله" ويرحل في صمت ، وكما أوصى خلصاءه ألا يدفنوه في الليل حتى إن وافته المنية مساء ، وهذا بالفعل ما سيتم حيث قررت أسرة الراحل الكبير أن تتم مراسم الدفن في العاشرة صباح اليوم ، وأن يكون العزاء مساء في بيته بقرية أشمون محافظة المنوفية ، كما أوصى رحمه الله بألا يستقبل أحدا إذا اشتد عليه المرض مفضلا أن يحتفظ الناس بصورته كما هي في أذهانهم ، لا أن تتبدل بصورة أخرى لا يرضى عنها ، كما أوصى ألا يساعده أحد في مرضه وألا يتكفل بعلاجه أحد سواء من المؤسسة الرسمية أو حتى من الجمعيات الأهلية أو النقابات.
ويذكر أن الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر شاعر مصري ولد عام 1935 بمحافظة المنوفية ، وتخرج في كلية الاداب ـ قسم الفلسفة. حصل على جائزة الدولة التشجعية في الشعر عام 1989 وحصل على التقديرية 2006 وصدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق عام ,2000
ويعتبر مطر من أبرز شعراء جيل الستينات في مصر ، وقد تنوّعت مجالات عطائه بين المقالات النقدية وقصص الأطفال وترجمة الشعر ، وفاز بجوائز عديدة منها جائزة سلطان العويس في ,1999 ومن دواوين عفيفي مطر §الجوع والقمر§ الذي صدر في دمشق عام 1972 ، §ويتحدث الطمي§ الذي صدر في القاهرة عام 1977 ، ورباعية §الفرح§ ، وصدر في لندن عام 1990 ، واحتفالية §المومياء المتوحشة§ ، وصدر في القاهرة عام 1992م.
ومن أعماله ، احتفاليات المومياء المتوحشة ، فاصلة إيقاعات النمل ، رباعية الفرح ، أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت ، يتحدث الطمي ، والنهر يلبس الأقنعة ، شهادة البكاء في زمن الضحك ، كتاب الأرض والدم ، رسوم على قشرة الليل ، الجوع والقمر ، ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي ، من دفتر الصمت ، من مجمرة البدايات.
************
الشاعر عفيفي مطر في حالة صحية حرجة
يعاني الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر حالياً من أزمة صحية شديدة يرقد على إثرها بغرفة العناية المركزة بمستشفى منوف العام بمحافظة المنوفية، وذلك بعد إصابته بغيبوبة نتيجة لتليف الكبد والذي بلغت نسبة تليفه أكثر من 70%.
ووفقاً لصحيفة "الدستور" المصرية أكد الكاتب سعيد الكفراوي الحريص على زيارة مطر أن الأطباء نصحوا بعدم نقله إلى أي مستشفى بالقاهرة، نظراً لخطورة حالته الصحية وأنهم قاموا بوضع جهاز يؤدي وظيفة الكبد.
ودعا عدد من المثقفين مؤخرا لرعاية حالة مطر من قبل اتحاد الكتاب، والتكفل بمصاريف علاجه على نفقة الدولة.
يذكر أن الشاعر الكبير عفيفي مطر هو واحد من أهم الشعراء في مصر والوطن العربي، قدم العديد من الدواوين الشعرية كما أن له إسهامات في المجال النقدي وكتب الأطفال، فضلاً عن ترجمة الشعر.
حصل على العديد من الجوائز على مدار حياته منها جائزة سلطان العويس عام 1999، ومن أعماله "الجوع والقمر" و"يتحدث الطمي" و"رباعية الفرح"، وصدرت أعماله الشعرية الكاملة عن دار الشروق عام 2000.
************
رحيل الشاعر المصري "محمد عفيفي مطر" بعد "عقود" من الأدب
المصدر أونلاين - العربية نت
توفي الشاعر المصري محمد عفيفي مطر عن خمس وسبعين عاما، بعد معاناة مع المرض وغيبوبة طوال الأسبوع الماضي، ليودع أهله الاثنين 28-6-2010 في منزله بمحافظة المنوفية (جنوب الدلتا) في مصر.
يذكر أن مطر ولد عام 1935 بمحافظة المنوفية وتخرج في كلية الاداب من جامعة عين شمس، ، ويعد من أبرز شعراء جيل الستينات في مصر، ورأس محمد عفيفي مطر تحرير مجلة "سنابل" الثقافية الشهرية، وفاز بجوائز عديدة منها جائزة سلطان العويس من الإمارات في 1999، وجائزة طه حسين من جامعة المنيا ، وهو حاصل على جائزة الدولة التقديرية في عام 2006 بمصر، و جائزة الشعر من المؤسسة العالمية للشعر في روتردام (هولندا).
قالت عنه لجنة التحكيم في جائزة سلطان العويس أن "تجربته الشعرية أصيلة متنامية تستند إلى التراث الشعري العربي، قديمه وحديثه ، والشعر العالمي بمجمله، والموروث الشعبي والمعرفة الفلسفية، وتأمل الواقع الراهن والإلتزام بقضاياه مما أتاح له تطوراً مفتوحاً متجدداً".
" ولعل المقارنة بين ديوانه "النهر يلبس الأقنعة" الذي ظهر قبل ربع قرن ودواوين أخرى ظهرت عقب ذلك، منها "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت" و "رباعية الفرح" تكشف عن مدى الجهد الشعري الخلاق المتطور الذي يجمع بين الجمالي والمعرفي، السياسي والصوفي، الملموس والرمزي".
************
وفاة الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر
رحيل الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر بعد صراع مع المرض
كتب بلال رمضان
توفى إلى رحمة الله الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر عن عمر يناهز الخامسة والسبعين على إثر مضاعفات إصابته بتليف بالكبد يعانى منه منذ فترة طويلة.
ولفظ الشاعر أنفاسه الأخيرة منذ أقل من ساعة بمنزله بقرية رملة الأنجب مركز أشمون ، بعد تلقيه العلاج لعدة أيام بمستشفى منوف.
جدير بالذكر أن مطر كان قد دخل فى غيبوبة منذ ما يقرب من أسبوع، وكان قد وصلت نسبة التليف فى كبده إلى أكثر من 70%، وقررت أسرة الفقيد الكبير أن تتم مراسم دفنه ظهر غد الثلاثاء بقريته " رملة الأنجب " مركز أشمون بمحافظة المنوفية على أن تقام مراسم العزاء مساء نفس اليوم ببيته بالمنوفية ، ولم يتحدد موعد إقامة العزاء بالقاهرة.
الشاعر الراحل فى سطور
محمد عفيفى مطر شاعر مصرى ولد عام 1935 بمحافظة المنوفية تخرج فى كلية الآداب ـ قسم الفلسفة حصل على جائزة الدولة التشجعية فى الشعر عام 1989 وحصل على التقديرية 2006 وصدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق عام2000.
يعتبر مطر من أبرز شعراء جيل الستينات فى مصر، وقد تنوّعت مجالات عطائه بين المقالات النقدية وقصص الأطفال وترجمة الشعر، وفاز بجوائز عديدة منها جائزة سلطان العويس فى 1999.
ومن دواوين عفيفى مطر "الجوع والقمر" الذى صدر فى دمشق عام 1972، و"يتحدث الطمى" الذى صدر فى القاهرة عام 1977، و"رباعية الفرح"، وصدر فى لندن عام 1990، و"احتفالية المومياء المتوحشة"، وصدر فى القاهرة عام 1992م.
الإثنين، 28 يونيو 2010 - 21:14
****
مثقفون يطالبون اتحاد الكتاب بالتكفل بعلاج عفيفى مطر
كتب بلال رمضان
دعا عدد كبير من كبار الأدباء والمثقفين اتحاد الكُتَّاب إلى الاهتمام بالشاعر الكبير محمد عفيفى مطر، والتكفل بعلاجه، سواء داخل مصر أو خارجها.
وأكد الناقد الكبير الدكتور محمد عبد المطلب قائلاً: يجب على الدولة كلها وعلى اتحاد الكتاب أن تتحرك لإنقاذ الشاعر الكبير وأن تتكفل بعلاج عفيفى مطر فى مصر أو خارجها، مضيفًا: إن عفيفى مطر قبلة تاريخية فى إبداعنا العربى، فهو شاعر له مذاقه وتجربته الخاصة، وظل يحتفظ لنفسه بالعزلة والابتعاد عن كافة أشكال الاحتفاليات والتهريج، لأنه لا هم له إلا إبداعه الشعرى فقط، وأظن أننا لو أهملنا رعاية الشاعر الكبير عفيفى مطر فإننا بهذا سنكون قد ضربنا الثقافة العربية ضربة مؤلمة، فهناك من هم أقل منه مكانة، وأقل منه ثقافة، إلا أنهم نالوا رعاية الدولة فى العلاج سواء فى مصر أو فى خارجها، وعلى الأقل لا بد أن يكون لعفيفى مطر هذا الحق الذى ناله كثيرون.
ومن جانبه أضاف الروائى الكبير بهاء طاهر قائلاً: أعتقد أن الاتحاد قام بواجبه فى عزاء الناقد الراحل فاروق عبد القادر والذى ودعناه بالأمس، وأتمنى ألا يتأخر الاتحاد فى تقديم يد العون فى علاج الشاعر العظيم محمد عفيفى، فهو قامة كبيرة جدًا أثرت الحركة الثقافية والشعرية، وهم أحد أهم أعمدة الشعر العربى.
وقال الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة إن عفيفى مطر شاعر كبير أثرى الحياة الثقافية، ويجب على المؤسسات الثقافية عامة واتحاد الكُتَّاب خاصة أن يمد يد العون ويتكفل بعلاج عفيفى مطر، مضيفًا: وإننى أدعو المثقفين إلى أن يتضامنوا ويدعو الاتحاد للتكفل بعلاج عفيفى مطر، متمنيين أن تكون مجرد وعكة صحية بسيطة ويعود بعدها عفيفى مطر إلى ممارسة إبداعه الشعرى الجميل، فلقد تلقيت الخبر بكل أسى فعلاقتى بعفيفى مطر كبيرة جدًا فنحن أصدقاء جيل واحد.
وكان "اليوم السابع" قد علم بأن الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر يرقد بالعناية المركزة بمستشفى منوف العام بمحافظة المنوفية، إثر إصابته بغيبوبة كبدية منذ أيام، وكان الشاعر الكبير قد عانى من آلام حادة فى الأيام الأخيرة وساءت حالته الصحية نتيجة مرضه بتليف بالكبد بلغت نسبته 70%، الأمر الذى جعل الأطباء يرفضون نقله إلى أحد مستشفيات القاهرة الكبرى.
ويعد مطر من أبرز شعراء جيل الستينيات فى مصر، وتنوّعت مجالات عطائه بين المقالات النقدية وقصص الأطفال وترجمة الشعر، وفاز بجوائز عديدة منها جائزة سلطان العويس فى 1999.
يذكر أن محمد عفيفى مطر ولد عام 1935 بمحافظة المنوفية، وتخرج فى كلية الآداب، قسم الفلسفة، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الشعر 1989، والتقديرية 2006، وصدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق عام 2000.
ولعفيفى مطر دواوين عديدة "الجوع والقمر" صدر فى دمشق عام 1972، "ويتحدث الطمى" صدر فى القاهرة عام 1977 و"رباعية الفرح" وصدر فى لندن 1990، و"احتفالية المومياء المتوحشة" وصدر فى القاهرة عام 1992.
ومن جانبها تتمنى أسرة "اليوم السابع" الشفاء للشاعر الكبير محمد عفيفى مطر
الأحد، 27 يونيو 2010 - 10:17
****
شعراء لـ"عفيفي مطر" : علمتنا التغريد بعيدا عن حاشية السلطان!
محيط – سميرة سليمان
"طباعي لا تطيق الاحتجاز وشكائم الكبح وسلاسل الرضا بما هو كائن" كلمات عرف بها الشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر والذي دعا مؤخرا عدد من الشعراء والنقاد والمثقفين لإقامة احتفالية بالذكرى الخامسة والسبعين لميلاده ..
يقول مطر عن مسيرته الشعرية وعلاقته بالسلطة في احدى حواراته السابقة: "ارتبكت واضطربت علاقاتي بالمؤسسات الثقافية والقائمين عليها لأسباب يطول شرحها، وحين قال صلاح عبد الصبور، رئيس مؤسسة النشر الرسمية في الستينات، لن أنشر له ديواناً ولو على جثتي، نشرت دواويني في العواصم العربية المختلفة، بيروت ودمشق وبغداد وطرابلس، ثم لندن، وفي بعض دور النشر الخاصة في القاهرة في السنوات الأخيرة، وقد أحدث هذا النشر ارتباكا وفوضى في ترتيب نشر الدواوين من ناحية، وفي إمكان وصولها إلى القراء في مصر، من ناحية أخرى، فبعضها لم يدخل البلاد وبعضها دخل إلى عدد محدود من البلاد، ما لم يمكن أحد من متابعة مسيرتي في تدرجها وانتقالاتها، وقد حاولت تصحيح هذا الوضع بإعادة نشر جميع الدواوين "13 ديوان" عن طريق هيئة الكتاب، ووقعت عقداً، وكادت الدواوين تذهب إلى المطبعة، وفي لحظة صدورها تأتي الأوامر بسحبها وحجبها لأسباب سياسية".
يقول مطر في قصيدته "كنا معا"
كنا معا.. بيني وبينك خطوتان / كنت صراخ اللحم تحت السوط حينما / يقطع ما توصله الأرحام / وشهقة الرفض إذا انقطعت مسافة الكلام / بالسيف أو شعائر الإعدام / كنت أحتاج الضوء والظلام / وثغرة تنفذ منها الريح / لليائسين من أرغفة الولاة والقضاة / والخائفين من ملاحقات العسس الليلي / أو وشاية الآذان في الجدران !!
من جهته قال الشاعر "السماح عبد الله" لـ"محيط" : عفيفي مطر هو "الاسم الأكثر حضورا في مخيلة الشعراء المصريين وكثير من الشعراء العرب، هو مقلب التربة التي تدربت أصابعه جيدا كفلاح متمرس على معرفة مواعيد الزرع والحصيد، وتهجين النباتات لذلك فقصائده متجذرة في الوجدان العربي وارفة الظلال، وعباءته الفلسفية التي ورثها من الحكيم الأكبر أبي العلاء المعري تجعل ثمار أشجاره أكثر طزاجة بالرغم من مرور العقود".
مضيفا : "لقد أطلقت عليه منذ سنوات لقب "صاحب السعادة" ؛ لأنه نموذج حي للشاعر المثابر، الذي يعكف على طبخته الشعرية بصبر وإناة غير ملتفت لطبيخ المائدة الشعرية السائدة" .
هو أيضا أكثر شعراء الحقبة التفعيلية قدرة على إثارة الدهشة، أما عن التقدير والتكريم والجوائز فلا أظن أن شاعرا نال منه ما ناله محمد عفيفي مطر لأن التقدير الحق للشاعر الكبير هو سريان شعوره في أوردة عشاق الشعر، ويقيني أن شعره سار ومتغلغل في وريدنا" ، وتمنى السماح عبدالله للشاعر العمر المديد وأن يجتمعوا بعد ربع قرن ليهدوه وردة وقلما ..
عيد للكلمة
يقول الشاعر المصري حزين عمر سكرتير اتحاد الكتاب المصري أن عيد ميلاد عفيفي مطر عيد للكلمة المتزنة وللموقف الوطني القومي الحر الذي يتخذه الإنسان ولا يخشى رد فعل بعد ذلك، فعفيفي مطر سجل الكثير من المواقف القومية الحاسمة التي أوقف بسببها ولكنه ظل على موقفه دائما.
بجانب المواقف السياسية – يواصل عمر في كلمته لـ"محيط" - يعد عفيفي مطر قيمة متحركة حميمية من قيم الوطن ونبضه الذي يتحرك على قدمين وهو ما زال مثلنا فلاحا يحمل الفأس داخله وإن لم يحمله على كتفيه، ليردم بفأسه هذا أشكال الفساد والخنوع والاستبداد، فعيد ميلاده إذاً ينبغي أن يحتفي به بين جميع المثقفين خاصة أنه ظل مقهورا ومستبعدا على المستوى الرسمي عشرات السنين وقد التفت إليه في السنوات الأخيرة لينال بعض حقوقه وبمبادرات غالبا من اتحاد الكتاب.
مسيرة مطر
قال الشاعر عبد المنعم عواد لـ"محيط" : "مطر" ترك بصمة خاصة في أبناء جيله ، وهي ممتدة في تاريخ الشعرية العربية ، وهو لا تستهويه المناصب او التكريمات ، وليس أدل على ذلك من استقالته من لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة احتجاجا على فوز أحمد عبد المعطي حجازي بجائزة الملتقى الشعري وهو رئيسه، ودائما ما كانت مواقفه سببا في احترام الجميع له.
ويعتبر الشاعر عفيفي مطر من أبرز شعراء جيل الستينات في مصر، وقد تنوّعت مجالات عطائه بين المقالات النقدية وقصص الأطفال وترجمة الشعر، وفاز بجوائز عديدة منها جائزة سلطان العويس عام 1999.
وعن الكتابة للطفل يقول مطر: "أعرف مشقة الكتابة للطفل وصعوبة المطلقات التربوية والأخلاقية اللازمة، وأعرف فجاجة الوعظ وتفاهة التسلية التي يلجأ إليها مغتالو الطفولة، فهل من مقاومة؟! قلت: فلنحاول، وإنها لمهمة مقدسة تستحق أن أزيح ما على مكتبي وأن أعيد ترتيب نفسي وانشغالاتي، وتنظيم إيقاعاتي النفسية والروحية، وأن أطلق من خيالي وخبراتي طاقات جديدة عليًّ، وهكذا بدأت الكتابة واستغرقتني بهجتها العجيبة، وتفجر الحوار بيني وبين الولد الصغير القابع في أحد أركان قلبي منذ زمن بعيد.. وانهمرت الحكايات والمسامرات والقصائد، وانفتحت أمامي آفاق المسامرات والأخيلة، واغترفت منها إلى الآن ما يزيد على مائة نص، نشرت منها كتابا، وفي ظني أنني سأنتهي من هذا المشروع في أربعة كتب أو خمسة، جميعها تحت عنوان جامع هو "مسامرة الأولاد كي لا يناموا".
ولد عفيفي مطر عام 1953 بمحافظة المنوفية، تخرج في كلية الآداب قسم الفلسفة، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1989.
من دواوينه: "من دفتر الصمت"، "كتاب الأرض والدم"، "احتفاليات المومياء المتوحشة"، "فاصلة إيقاعات النمل"، "رباعية الفرح"، "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت"، "يتحدث "، وغيرها من الدواوين، وصدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق عام 2000
ويصف الشاعر الفلسطيني المتوكل طه شعر مطر قائلا: " إنّ مفردة "الظلام" التي يستعملها الشاعر محمد عفيفي مطر هي من أكثر المفردات تكراراً في دواوينه، والظلام الذي يعيشه الشاعر ليس فقط، في زنزانته التي يسميها "جحيماً" وإنما في لحظته المعيشة وفي تاريخه".
يقول مطر في قصيدته "هذا الليل" التي كتبها من معتقل طرة عام 1991
هذا الليل يبدأ / دهر من الظلمات أم هي ليلة جمعت سواد / الكحل والقطران من رهج الفواجع في الدهور!/ عيناك تحت عصابة عقدت وساخت في
عظام الرأس عقدتها ، وأنت مجندل – يا آخر الأسرى... / ولست بمفتدى.. / فبلادك انعصفت وسيق هواؤها وترابها سبياً / وهذا الليل يبدأ / تحت جفنيك البلاد تكومت كرتين من ملح الصديد .
مع الشعر
نقرأ في أحدث قصائد عفيفي مطر:
لى خيمةٌ فى كلّ باديةٍ ولى كهفٌ ألوذُ بهِ
ولى طللٌ وشاهدُ مدفنٍ
وهديرُ كلبٍ حول نيران القِرى
وأنا المغنى جامعُ الأشعارِ من متردّمِ الشعراءِ
أروى ما رأيتُ لمن رأى
وأنا ربيبُ الدمع
كلُّ أراملِ الشهداءِ أُماتى
على وترين أسحبُ قوسَ أغنيتى
وأضربُ نقرةَ الإيقاعِ فى عظمِ الرباب
ومن ديوانه " صيد اليمام" يقول :
لم الخوف من طلقات الرصاص
ومقدور موتك في البحر :
أنفاسك الماء والملح ، والعشب في
القاع أكفان صمت الحرير الرحيم ؟
تهيّأ اذا وابدأ الركض والرقص بين
عيون البنادق
والبس من النار والذهب المتوقّد
قمصان عمرك ،
وادخل بلادك كلّ من عناقيدها
وتشمّم بها عرق الأهل ...
ما كان فيها لأعدائك الغاصبين
سوى شهوة الذئب،
ليس لهم في الوليمة الاّ الرصاص ،
فقم واقتحمها عليهم ،
فمقدورك الموت في البحر ما بين
ماء وملح حميم ..
لم الخوف من فورة البحر
ان كان مقدور موتك في وقدة النّار :
يرجع منك الرماد الى أصله
والغناء الى أفق ايقاعه
والحرائق في خضرة الروح تعلو
إلى منتهاها ؟!
محيط
يتبع...