|
ريتسوس: السلالة الكبيرة |
|
تمثال الشاعر على مدخل بيته في قريته |
تأتي هذه السنة، الذكرى المئوية الأولى لميلاد الشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس. وقد أعلنت اليونان، هذه السنة، »السنة العالمية« لهذا الشاعر الذي رفع عاليا، لا الشعر اليوناني فقط، بل العديد من المبادئ الإنسانية والفكرية التي جعلت منه واحدا من أكثر المثقفين والشعراء حضورا، لا في وطنه وحسب بل أيضا في العالم بأسره.
فمبادئ الحرية والعدالة ونبذ الظلم والتعسف... وما إلى هنالك من أفكار، ليست بالتأكيد حكرا على ثقافة معينة، بل هي أفكار مشتركة، بين العديد من الثقافات التي تتوق إلى الحرية والعدالة. من هنا، استطاع ريتسوس أن يصوغ حضورا لا يزال يمتدّ وارفا ليغطي مختلف وجوه الكتابة، من بينها الكتابة العربية.
عديدون هم الذين تحدثوا وكتبوا عن حضور ريتسوس في القصيدة العربية الراهنة. وعديدون هم الشعراء الذين قالوا عن ممارسة تأثير ريتسوس على نصوصهم، بهذا المعنى يبدو اليوم وكأن الشاعر يشكل جزءا من المشهد الشعري العربي، إذا جاز التعبير. إزاء المناسبة وإزاء هذا الحضور طرحنا على عدد من الشعراء، السؤال الآتي: »ربما يكون الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس من أكثر شعراء الغرب الذين وجدوا صدى عند الكتّاب العرب في العصر الحديث، برأيك ما سبب هذا الانحياز وهذا الحضور لريتسوس في قصيدتنا؟«.
أولى الأجوبة للشاعر جولان حاجي الذي قال: »تعرفنا إلى ريتسوس عبر ترجمات سعدي يوسف التي مضى عليها الآن ما يقارب الثلاثين عاماً، ويبدو أنها قد اعتمدت ترجمة إنكليزية أنجزها إدموند كيلي. أتذكر تشبيه أدونيس لقصائد ريتسوس بالكريستال، ما لم أكن مخطئاً، وعبارة بالاماس، بعد قراءته (أغنية أختي)، »إننا نتنحّى كي تمرّ أنت، أيها الشاعر«. هناك ترجمات أخرى سبقت ما أبدعه الشاعر العراقي الكبير، وأعقبتها ترجمات متفرقة. سعدي الذي أثّر في شعراء عرب كثر جاؤوا بعده، يتقاطع بل يتماهى أحياناً مع ريتسوس، وهذه نقطة تستحق التوقف والمقارنة... ويضيف حاجي: »تمّت ترجمة ريتسوس المجتزأة في وقت كانت فيه اليونان والبلاد العربية، حيث الشمس ذاتها والعبء الثقيل لعراقة الحضارة وجذور الشعر الأولى هي الأغنية والملحمة، يتدهور حاضراهما نحو المستقبل. احتفى به العالم الاشتراكي، مما أسهم نسبياً في رواجه النسبي آنذاك، لكننا اكتشفناه لاحقاً في ضوء آخر، إلى جوار إيليتس وسيفيريس وكافافيس. ثمة الكثير مما يشدنا إلى سيرته أيضاً، إذ لا تزال عذابات الشاعر تجذبنا، وتدفعنا لتبجيله واعتبارها سبباً جوهرياً لإبداعه. أحببنا سيرته البالغة الإنسانية. لقد قاسى، مثل شعراء كثيرين في البلاد العربية، حياة الخوف والهزائم والاعتقالات، النفي والسجن والجوع والمرض، أهوال الانقلابات العسكرية والدكتاتوريات والاحتلال الأجنبي، الحروب الأهلية والمقاومة والاغتيالات. كما تنقل بين مهن شتى ومُنع من السفر، مُنعت كتبه وصُودرت وأُحرقت. خبأ قصائده في القناني وهو سجين. صارع السلّ طويلاً، وشهد جنون أخته وجنون أبيه«.
آمن ريتسوس بأن مصير الكلمات هو لقاء الإنسان مهما تأخر هذا اللقاء، فمتاهات الحاضر ستظل تتكرر في سريرة الإنسان، عبر التاريخ والطبيعة. تحدث مرة عن تنامي وعيه تجاه »المبهَم والمحيِّر واللامُدْرَك في الحياة«، تحدث عن رغبته في إخفاء المأساة وراء أقنعة السكون، عشقه لكلمتي »أو« و»ربما«، خوفه من أن يُفهم وأن لا يُفهم في الوقت نفسه، خوفه من البلاغة التي أرادها طريقاً هيناً أو جسراً، امتنانه تجاه كل شيء تمنحه الحياة«. كان أحد تحولاته هو الابتعاد عن الحماسة الوجيزة للبدايات التقليدية باتجاه الصمت والريبة والتردد ومحو الذات في قصيدة تستمدُّ فيها الكلمات معناها مما تخفيه، حيث يغيب المتكلم ويتجلى السرد لا شخصياً، بل يكاد يكون بديهياً كأن المؤلف هو الهواء أو الطبيعة لا يبالغ ولا يندهش، في رحلة بين الداخل والخارج، حيث كلاهما يفضي إلى الآخر، أو إقامة بين البصر والبصيرة (هذا الجناس مزعج في لغات عديدة)، بين المادة والحواس«.
إعادة ترجمته
ويرى حاجي: »لا تخفى ضرورة إعادة ترجمة ريتسوس وإعادة قراءته. أعتقد أننا لم نعرفه كما هو تماماً، بل كما أردنا، وكما شاء المترجمون الذين اعتمدوا غالباً لغة وسيطة. ما نتداوله في العربية هو قصائده القصار المسماة بلسانه »أشياء بسيطة«، مأخوذةً من دواوين أصدرها أواخر كهولته مثل (إيماءات، ممرات وسلالم، الحائط في المرآة)، ما يمكن لأوسع شريحة من القراء إدراكه والتفاعل معه دون مشقة، وما لاقى صدى داعماً لدى شعراء عرب عثروا في نضوج ريتسوس وحساسيته على أهمية ما بدأوه، ربما قبل أن يقرأوه. إنها قصائد الحياة اليومية لليونان المعاصرة، غير أنها كونية في هامشيتها، حافلة بسحر المجازات وحدّة الوعي الحسي واكتشاف علاقات جديدة غير متوقعة بين أشياء تبدو في الظاهر كأن لا صلة بينها، إنها دقيقة في رصد التفاصيل الضرورية حيث يكمن الجمال. قصائد صامتة شبيهة بصور فوتوغرافية أو، بالأحرى، شبيهة بلوحات نرى كل عناصرها المنتقاة أمامنا، وفي هذه البساطة المخادعة والصفاء النادر يظهر مشهد مركَّب وغامض بمجمله، واقعي وسريالي في آن، كابوسي أحياناً أو على الأقل يقلقنا في السر. يكتنفها دائماً الإحساس بحضور شيء آخر خفي أو لامرئي، شيء شبيه بما سماه ريلكه مسرح الفقدان. لقد لامس طويلاً سطوح الأشياء، وانتبه دائماً إلى حضور العوالم الخارجية والداخلية والطبيعية، بالمعنى الحسي والملموس أحياناً. لنتذكر هنا مديح نيتشه: »هؤلاء الإغريق! كم هم عميقون في سطحيتهم«. كانت هناك حاجة إلى هذه المراقبة المستديمة، العطوفة والمرهفة، الشغوفة بالحرية والمخاطَرة كقيمتين شعريتين وإنسانيتين، كي تستمر الكتابة لدى ريتسوس، كتابةٌ هي تقطيرٌ سخي للكلمات من مستخلصات التجربة والفكر وقوة الملاحظة«.
ويتابع حاجي: »يذكر أوسكار وايلد أن الإغريق جعلوا من هوميروس شاعراً أعمى كي يؤكدوا أن الشعر فن موسيقي وليس فناً بصرياً. أما في حالة ريتسوس المعجب بإل غريكو، فتبهرنا فرادة البصر، فرادة العين المهيمنة الرحيمة، وتغيب عنا عذوبة الموسيقى دون أن نخسر الكثير إذا قرأناه مترجماً في أية لغة؛ هو الذي قال مرة: »مفتوحةٌ إلى الأبد، راصدةٌ إلى الأبد هي عينُ روحي«، كما تبهجنا سعادة الاختلاف المتواضعة، الرهافة واللطف، النضارة والقرب، القسوة والحنو، عافية الكتابة وثراؤها وحيويتها. نقرأه بروح الصداقة الحميمة، وليس هذا بالقليل؛ نلمس ونصدّق عذوبة مَنْ قاسى ألماً طويلاً.
ويختم بالقول: »ولكن، دعونا نتساءل: أين ريتسوس الغاضب الرحب الملحمي، المتنوع الأساليب، الإيروتيكي، الشاهد في الزمن، المترجم والروائي أيضاً؟ ريتسوس الغزير، البارع التقنيات الأسلوبية الذي كتب مئة ديوان، ولم يجد مشقة في صرامة التأليف، وتنقل، في الفترة نفسها تقريباً، بين الأساطير والأغاني الشعبية والملاحم وحكايات التاريخ والمراثي والمونولوجات الدرامية الطويلة؟ أغفلناه كما أغفلته لغات أخرى أيضاً، لم تحتفِ به إلا على مضض أيام الحرب الباردة، ثم أعادت إليه الاعتبار متأخرة بالطبع. ربما لم نقرأ القصائد التي كرسته شاعراً أساسياً في بلاده، وإن كانت كلُّ سمعة ليست إلا سوء فهم. إذ على غرار تجربةٍ جمعت عود مارسيل خليفة إلى قصائد محمود درويش الذي خص ريتسوس بإحدى قصائده، أوصل بزق ثيودوراكيس قصائد الأخير إلى عامة الناس وتغنى بها اليساريون طويلاً وأُلقيت في مآتم القتلى. اقترن اسمه حيناً بجائزة لينين ولقب شاعر السلام العالمي صديق ناظم حكمت وأراغون، لكنه يعود مرة أخرى لنكتشفه من جديد. ريتسوس، شأنه شأن ويتمان وبيسوا وميشو، كان عديداً، إن جازت الصفة، أو أمّة من الشعراء. كل شاعر منهم، كما نعرف، عثر على حلول مؤقتة توائمه. وكل قارئ أو شاعر يجد لديهم ضالته التي يحبّ. شعراء كثيرون يبحثون عن أسلافهم في لغات وثقافات أخرى، إذ لا أحد يريد أن يكون مديناً ومكشوفاً لمعاصريه«.
الروح الشرقية
من جهته يبدأ الشاعر العراقي هاتف جنابي رده بالقول: »ريتسوس القروي المنشأ، الشاعر المثابر، الغزير، المتعدد المواهب، الأوروبي، ذو الروح الشرقية والخلفية المسيحية الأرثوذوكسية، الإنساني النزعة، اليساري الهوى، نزيل المصحات والسجون، صديق المظلومين ونصير الفقراء والمضطهدين، المدافع عن حقوق الإنسان. ثم ريتسوس المعتل جسديا، المنكوب عائليا ووطنيا، المقارع للظلم والطغيان، الذي وجد في الشعر ملاذه وخلاصه وتوازنه الداخلي والوسيلة المعبرة عن همومه ورؤاه، كان يعتقد بإمكانية خلوده بفضل الشعر والفن. ثم ريتسوس الذي هجر الأشكال والأوزان الشعرية اليونانية التقليدية متجهاً صوب الحداثة والشعر الحر على الخصوص، الشاعر الذي وظف الروح الشعبية والميثولوجيا في إبداعه الشعري والنثري، شاعر القصيدة الطويلة والقصيرة على السواء. ثم ريتسوس صاحب القصيدة التي تنهل من الحياة والأحداث اليومية. وأخيرا ريتسوس ذو الحضور وسط الشعراء اليساريين خارج بلاده، بسبب تطلعاته وانتمائه السياسي«.
أما على الصعيد العربي، فيرى جنابي »كانت المرحلة تحتاج إلى صوت يدعمها، يلهمها، صوت إنساني، حديث، له صدى خارج بلاده كذلك، صوت جريء يقارع التقاليد الجامدة، والفكر الأصولي، وتسلط الأقوياء على مقدرات الشعوب الضعيفة. كان الوضع العربي حافلا بصراعات ذات أبعاد متعددة: صراعات مذهبية وسياسية واجتماعية، صراعات بين اليسار والتيارات القومية، صراعات محورها القضية الفلسطينية، صراعات ناجمة عن الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي وشرق أوروبا الاشتراكي (الشيوعي) على الصعيد العالمي. كل هذه العوامل مجتمعة ساهمت في أن يكون لريتسوس وشعره »صدى« في الأوساط الشعرية والأدبية العربية، اليسارية على الخصوص، وبالأخص وسط الشعراء الذين ينهلون من القصيدة اليومية. على أن ريتسوس الحاضر بمواقفه الإنسانية وأشعاره غير المعقدة لم يظهر في أوساطنا الشعرية قبل السبعينيات من القرن الماضي! ظهر ضمن نزعة التعريف بالنتاج الشعري والأدبي والفكري اليساري، حبّرها بعض الشعراء والأدباء اليساريين العرب قبل سواهم. لو نظرنا إلى النوافذ التي دخلتنا عبرها قبسات من أشعاره وحياته لأمكننا التوصل إلى أحد أسرار حضور ريتسوس في الوسط الثقافي العربي في الثلث الأخير من القرن العشرين«.
ويختم جنابي قوله »على أن ريتسوس، رغم كونه شاعرا مبدعا ومهما، لم يعد حاضرا الآن في الواقع الشعري الأوروبي، لكنه بقي في ذاكرة القواميس وتاريخ الأدب الأوروبي. غالبية الشعراء من الجيلين الشعريين الأخيرين في أوروبا لا تتذكر اليوم اسمه. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل لا يزال ريتسوس حاضرا كما كان في ذاكرة الشعراء الناطقين باللغة العربية؟ هل ما زال لشعره الصدى نفسه الذي كان عليه في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي؟ الجواب عن ذلك قد يسعفنا في الإجابة عن تساؤلات أخرى أكثر مصيرية في مسيرة الشعر العربي راهنا، من بينها: ما هو »صدى« و»تأثير« الشعراء العرب المشابهين لريتسوس في المشهد الشعري العربي«.
الصوت الأصيل
الشاعرة جاكلين سلام اعتبرت أن: »الصوت الأصيل يترك بصمة أينما حلّ، وريتسوس واحد من الأصوات الأصيلة التي كان للقارئ والكاتب العربي متعة التعرف عليها. كتبوا على غراره، اقتربوا منه، لكنهم لم يكتبوا أجمل منه. لأنه صوت أصيل، لأنه ملتصق بحياته، ولأنه شاعر كبير بالدرجة الأولى. الإحاطة بأسباب حضوره وتأثيره في الشعرية العربية المعاصرة ستكون محض قراءات ووجهات نظر، فالشاعر العربي منذ أكثر من نصف قرن، متأثر بثقافات الآخرين، وليس مؤثراً فيهم. أو هكذا أتصور. لقد تأثرت القصيدة العربية بالشاعر الفرنسي، وتأثرت بالشاعر الروسي، وتأثرت بالقليل الذي ترجم عن آداب أميركا اللاتينية. كان نصيب الشاعر اليوناني كبيراً من حيث الترجمات التي تطرق إليها شعراء عرب متمرسون في الشعر والحضور الثقافي. ولأنه يملك هذه النبرة الشعرية العميقة فلا يمكن أن توضع قصيدته على الهامش بعد الانتهاء من قراءتها. إنها تسافر مع القارئ، لأنها تشكل ما يشبه القصيدة البيت. إنها بيت له شباك وباب ومرايا ونوافذ وهواء وبزاقة ودودة وطحالب، وروح. قصيدة يسكن فيها القارئ فيرى الأشياء ويلمسها ويشم رائحتها، ولا تفارقه بسهولة. ربما كان بيته الريفي مشابهاً لبيوتنا، ربما كان وجعه الإنساني وحلمه الثوري وأمله في مستقبل أفضل مطابقاً أو مماثلاً لحلم العربي و»اليساري« على وجه الخصوص. عدا اقترابه من قضية العرب الكبرى، فلسطين وموقفه المناصر لها في أكثر من موقع. لذلك ربما شعر العربي أنه ينتمي إلى منطقتنا الشرقية، وجرحها المفتوح على العالم!
يحضرني صوت الشاعر محمود درويش وهو يلقي قصيدة إلى الشاعر ريتسوس، يقول فيها: »يا أخي في القصيدة، للشعر جسر، في الأمس والغد« ويقول أيضاً وتعبيراً عن تقدير وامتنان للشاعر ريتسوس الذي قدّم درويش في إحدى الأمسيات الشعرية في أحد مسارح أثينا العريقة »قال ريتسوس، هذا أخي، فشعرت بأني انتصرتُ وأني انكسرت كقطعة ماس، ولم يبق مني سوى الضوء«.
يبدو أن الواقع العربي كابوس كالح، وشعرية ريتسوس نور توقظ في أرواحنا بعض الأمل المعجون بفائض الألم.
يعتقد الشاعر موسى حوامده أنه: »على أهمية ريتسوس وشاعريته«، إلا »أن قلة الترجمة للعربية والاكتفاء بترجمة بعض الأسماء فقط، حصر الاهتمام بريتسوس وجعل العديد من الشعراء العرب يقلدونه دون غيره. ولعل هناك مشكلة في الثقافة العربية والاكتفاء بمعرفة اسم واحد أوحد في كل مجال من مجالات الأدب والحياة. فنحن اكتفينا مثلا بهمنغواي عن الرواية الأميركية وبسارتر عن الوجودية ولا نريد أن نرهق ذاكرتنا بأسماء جديدة. ريتسوس كان محظوظا عربيا بينما ظلم جورج استيفانوس أو حتى كفافي«.