هل بإمكاني، كفرد أعزل إلا من شرف شبهات هويتي كامرأة وكإنسانة عربية مسلمة، أن أتجرأ على سطوة اليأس المستبد بالعالم منذ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) لأدلي بشهادة عن تجربتي الشعرية؟ كيف أراجع تجربتي وتجربة جيلي الشعرية في حضرة مجزرة جنين، وكأن مذابح صبرا وشاتيلا وقانا وكفر قاسم تجدد شبابها بدم أطفالنا؟ أي يد أمد إلى ماء الشعر بينما حصار الشعبين الفلسطيني والعراقي، يجفف الحليب من صدور المرضعات، يمتص الرطوبة من الندى ويلتف على حناجر الشعراء؟ ليست هذه الأسئلة لتسميم نقاء الشعر بعوادم السياسة. غير انني، وقد قبلت بمخاطرة الإدلاء بهذه الشهادة، لا بد من أن أعترف بالحبل السري الذي ربط بين أفقنا الشعري وبين السياسة حتى كاد أحياناً يخنقها ويخنقنا. فلقد أفرز هذا الترابط علاقة ملتبسة بينهما، إن لم أقل معيقة إبداعياً لبعض تجارب الجيل الذي أنتمي إليه. أعرف أن مثل هذا الاعتراف اعتراف أرعن ويتطلب شجاعة لا تتفق مع الجبن الاجتماعي الذي نرفل فيه بإرادتنا أو من دون، إضافة إلى أنني لا أدري إلى أي حد سيكون بإمكاني أن أمضي في اجتراح هذه الشجاعة أو في ادعائها، ولكن لا بد من المصارحة بأن التداخل بين الشعر والسياسة، على ما في العلاقة بينهما من تنافر إبداعي يصل إلى حد التضاد بين الفضاء وبين القضبان، قد جعل تلك العلاقة غير العادلة بينهما تشكل جزءاً حيوياً وعضوياً من تجربتي الشعرية الشخصية، كما في تجربة جيلي الذي بدأ أولى محاولات التحليق الإبداعي في السبعينات والثمانينات الميلادية. (وأرجو المعذرة لاستخدام تلك التعبيرات البائدة المنتمية بجدارة إلى تلك المرحلة المنحسرة من القرن الماضي، كقول «التحليق الإبداعي»، ولكن حين يكون الكلام عن مراحل تستجرح الذاكرة يصعب تجنب أصواتها).
ليس رأفة بالقارئ، وإنما قرار من سقام السأم الذي صرت أعاني منه أخيراً بسبب تشابه إحباطات السلام والحرب، فإنني لن أكرر ما سبق ان ذكرته في شهادات شعرية سابقة بمجلة الكاتبة ومجلة قوافل وسواهما من المطبوعات أو الندوات العربية والأجنبية، حول تفاعلي وجيلي مع ما وصل إلينا من أصداء زخم التجديد الشعري الأول لـ «مجلة شعر» وروادها، وغيرهم من رواد الشعر الحديث (سواء شعر التفعيلة أو قصيدة النشر) نازك الملائكة، السياب، أدونيس، الحاوي، سلمى خضرا الجيوسي، عبدالصبور، الخال، أنسى الحاج والماغوط.
هذا وإن كنت مضطرة، ولو على عجل، إلى إعادة ذكرى ما سبق وشهدت به من تفاعل جيلي مع شعر المقاومة، تحديداً، وذلك ليس فقط لما كان لذلك الشعر من تأثير وطني وفكري على جيلي من الشعراء والشاعرات، ولكن لأن جيلي كان امتداداً لذلك المد على المستويين الإبداعي والسياسي، بكل تبعات علاقتهما غير البريئة.
فباستثناء دراسة الدكتورة فاطمة الوهيبي، التي قامت بعملية مسح للأسماء الشعرية النسائية في المملكة العربية السعودية منذ الستينات، من خلال بحثها النقدي لخطاب المرأة في الشعر الحديث، فقد ظلت تلك البدايات متوارية في الظل أو في النسيان، وكأن أحداً لا يريد أن يشير على تململ المارد من القمقم في ذلك الوقت الباكر. فعلى رغم من وجود أسماء نقدية مهمة إلى مستوى الساحة الثقافية العربية، وليس على المستوى المحلي وحسب من النقاد السعوديين، مثل الدكتور عبدالله الغذامي، الدكتورة سعاد المانع، الدكتور سعد البازعي، الدكتور معجب الزهراني، فايز أبا، البوقري، الدكتور الصيني، الدكتور القرشي وغيرهم، فإن لي أن أقول، في شهادتي هذه، إن قلة منهم من غامر بإدخال يده نقدياً في الأدغال غير المأمونة لغواية الشعر الحديث على ساحة الثقافة المحلية.
ما يجدر بالشهادة أيضاً هو ذلك الانحسار الذي شهده الإبداع الثقافي الحديث في السعودية، خصوصاً الإبداع الشعري، نتيجة الحملة الضارية التي حوّلت مواقف الرأي الخلافية إلى قضايا قطعية تثير العداوات بدلاً من أن تثري الحوار. ولذا، فلم يستطع اتساع حركة النشر الشعري في دواوين شعرية للشعراء الشباب من أجيال سعودية متداخلة من مطلع التسعينات الميلادية، بعد أن عادت النافذة اللبنانية، أو عبر نوافد نشر عربية أخرى، أن ترأب ذلك الشق الذي أدى إلى تشظي حركة الشعر الحديث في السعودية، وتحويلها من تيار جمعي إلى حالة فردية نادرة.
وأخيراً، إذا كان بقي من كلمة صريحة أو مراوغة لتضاف إلى هذه الشهادة، فهي أن تخصصي الأكاديمي مع الأسف عتم على شهادة الشاعرة، فاجتهدت الشهادة في تقديم كشف مختصر عن التاريخ السياسي والاجتماعي لتيار الشعر الحديث في المملكة، من دون أن تحفل بذكر أي من تلك الجراح الطازجة التي ما زالت تفوح رائحتها من روحي كلما رجعت إلى تجربتي الشعرية، أو تمضمضت بأحماض الحبر لأكتب قصيدة جديدة.
على أن تقديم شهادة شعرية سيظل أمراً ليس بالسهل، ولكنه ليس بالمستحيل طالما نجحت في تجنب ارتكاب جناية الحديث عن الذات، ليس ذلك بدافع التواضع بقدر ما هو نكاية بالوشاة. ليس في تجربتي تلك الأسرار الخطرة، ولكنني ككل الشعراء، أعاني من النرجسية، وكالأطفال أحب لعبة الاستغماية، ويتواطأ مع ذلك تلك الأجواء التي تتلذذ بالتلصص على تجارب النساء حتى وإن كانت لا تطرح تجارب عاطفية أو خاصة. لقد كتبت أول قصيدة نثر من قصائدي على هامش دفتر الحساب بالمدرسة الابتدائية، من دون أن أدري بأنها قصيدة نثر، ومن دون أن أسمع بسوزان برنار أو الماغوط، ومن دون أن أدري بالأمجاد أو الأحقاد المترتبة على ذلك. كان ذلك عندما عاقبتني المعلمة بأن أقف على قدم واحدة، ظهري للتلميذات ووجهي إلى الحائط، فكتبت:
«عيون معلقة على ظهري
وأنا بقدم واحدة أطير
والمعلمة لا تعلم لأنها لا ترى خارج الفصل»
لم أعلم بأمر تلك القصيدة إلا قريباً، عندما كشفت لي أمي عن ذلك الدفتر الذي ظلت تحتفظ به كل هذه السنوات الطوال، وكانت هي نفسها نسيت أمره، إلى أن كانوا ينقلون من بيت الأسرة القديم في الشرقية بجدة، فتذاكرنا القصة أمي وأنا، ونحن نكاد نشرق بالضحك. لقد كنت في أكثر من شهادة، وذكرت في أكثر من مناسبة، أنه لولا الله سبحانه وتعالى ثم نور أمي، لما انتبهت يوماً إلى إمكان أن أكون كاتبة وشاعرة. لقد كانت تلك السيدة الممطرة المشمسة، وما زالت والحمد لله، تتمتع بحاسة مرهفة ونادرة في القيافة والقدرة على الحدس بمواعيد الوسم والبزوغ وعود الغائب، وتحقق الأحلام والإلهام الشعري. فهي التي كانت تقرئني القرآن، وتجر آهات المجرور الحجازي، وتسمع لي الشعر العربي عن ظهر قلب، وهي التي ما زالت تعيرني أصابعها لأكتب وتسمح لي بعيونها لأرى «خارج الفصل» وتستعيدني من غربتي ومنفاي لأساكنها أحلامها.
وإذا كانت أي شهادة يقدمها الإنسان عن تجربته الحياتية لا تكتمل إلا بموته، وهو الوحيد حينها الذي لا يملك حق الحديث عن تلك التتمة، فإن شهادتي الشعرية تظل ناقصة.
الحياة
23/06/2008