كانت الصحراء غامضة لم تفضحها إلى هذا الحد بعد سمعة النفط.. ولم تخرجها عن طورها فتنة السدرة. كانت نجد والجنوب ساحل الخليج والساحل الغربي مجاهل محفوفة بالشعر الجاهلي ومغامرة قصائد "رامبو" في أنظار المثقفين العرب وغير العرب.... خارج حدود الجزيرة العربية.
كان ذلك في السبعينات. عواصم الثقافة العربية ما زالت متأججة لم يسر في شوارعها مفعول عما السحر ولم تستسلم للسحرة والخبراء أو العسكر تماما.
بيروت مليحة من حرية وحب يجلوها الإبداع العربي من دمشق حتى العراق والبحرين ومن فلسطين حتى اليمن وعمان ومراكش.
مصر تتفلت كحورية بحر تشاكس مساومات معاهدة الصلح مع العدو، التي كانت لا تزال بعيدة، بعيدة، حتى عن أي تخيل عربي في ذلك الوقت من النصف الأول للسبعينات. العراق يقيم المربد الشعري في بغداد للسنوات الأولى ليحتفي بشعر لا تشتريه السياسة ولا تشوهه الشعارات. فلسطين تخلع مذلة اللاجئين عن المخيمات وترشح المستقبل لشعر المقاومة وفعلها والشعر العربي يتبرعم ويزهر كزعتر رباني في الشارع العربي.
قصيدة كالخطيئة
اقترفت قصيدة النثر على هذه التضاريس النافرة وفي هذا الطقس الطازج المغري بالاكتشاف والدهشة لفتاة لم تتبيت في أحلام ما بعد مرحلة الطفولة، وربما في ذلك العمر المبكر وحتى فيما بعد، لم أكن أقصد بكتابة قصيدة النثر أي تحد لأي كائن.. ولم أكن أعرف أن قصيدة النثر ستكون كالخطيئة لآخرين، يلاحقني العقاب عليها طول عمري. لم أكن أعرف أو أتصور أن في الكتابة ما يمكن أن يعد كبائر أو معاصي.
كل ما كنت افعله بكتابة قصيدة النثر أني سمحت لنفسي بممارسة حرية إنسانية بسيطة في التجريب والإبداع ولم أع أن هذا النوع البسيط من الحرية خطير ومحرم.
كنت فقط أصارح ببراءة وصدق النصوص الآهلة بالمسلمات وبخثر اللغة. ببعض وحش الأحلام، غفل اللغة ومجاهل الإبداع. كنت ببساطة أحاول أن أجسد بروحي وبالشعر الامتداد الطبيعي بين بيئتي وبين بقية الوطن العربي، والعالم.
وإذا كانت تجربة قصيدة النثر بدت وقتها مستنكر يستفز معهود الشعر وعادة التوارث على المستوى المحلي، فإنني سحبت أحلامي، وتحاشيت طرح التجربة في الداخل. خصوصاً بعد أن فشلت، حينها، في أن أجد من يتجرأ على نشرها على أنها شعر في أي من الصحف والمجلات المحلية. بل وصرت في ذلك الوقت المبكر من عمري وعمر التجربة أتحرج، ن لم أكن أتردد وأخجل من مصارحة الآخرين بسري في القصيدة... لما رحت ألاقيه من استهجان وتحذير.
تجربة قصيدة النثر لم تكن، بطبيعة الحال، غريبة في ساحات ثقافية أخرى من الوطن العربي، كانت أرضية تلك الساحات أكثر مخاطرة في التجديد، واعمق تجربة في العلاقة بين المد التحرري على المستوى الوطني، وبين مد التجديد والتحديث على المستوى الثقافي والإبداعي.
وإذا كان كثيرون أو قليلون من المبدعين والمتابعين والنقاد لحركة الثقافة والأدب العربي الحديث، يرون علاقة جدلية وليس مرآتيه بين الإبداع والواقع، فأنني أستطيع أن أزعم أن قصيدة النثر هي أحد الأشكال الإبداعية التي تعبر عن استجابة جدلية وتجاوزية لمطلب وحركة التغيير في المجتمع العربي. وهذا لا يعني أنها الشكل الشعري الوحيد الذي يملك مستقبل الشعر العربي، ولكنه يعني رفض، أو عدم قبول "العنف القيمي والظلامي" الذي ينفي قصيدة النثر من الشعر العربي. أو الذي يصادرها قبل أن تستدير. وذلك بتعبير يلتقي مع التعبير الدقيق الذي قاله الشاعر محمد علي شمس الدين في هذا الصدد.
يصعب الحديث بإنصاف "تاريخي إبداعي" عن تجربة قصيدة النثر دون الرجوع إلى الجهد التأسيسي الذي قامت به مجلة "شعر" في لبنان الخمسينات والستينات، ودورها في تحويل الشعر الحديث ومنه قصيدة النثر إلى مشروع إبداعي جمعي حلال "ومشروع" في مطلبه على المستوى العربي وليس على مستوى ساحة الثقافة اللبنانية وحدها، ومع ذلك، فإن استمرار قصيدة النثر وانتشارها وتطورها بأشكال مبتكرة متعددة في ساحات ثقافية عديدة من الوطن العربي، رغم عمليات القمع والنفي والملاحقة التي تلاقيها هذه القصيدة في بعض المناخات العربية حتى اللحظة. وبعد توقف المجلة التي انطلقت التجربة فيها لما يزيد على ربع قرن... يجعلنا لا نستسلم لا بسهولة ولا بصعوبة للترويج الموجه الذي يربط تجربة قصيدة النثر بنزوة "تحديثه" عند مجموعة من المثقفين، كما يذهب إلى ذلك بعض نقاد الصحافة من أمثال جهاد فاضل، أو غيره ممن يحاول أن يقصر ولادة وتطور شعر قصيدة النثر على توزيعات قطرية محدودة أو يحشرها في نزعات أيديولوجية يبرر بها رفضه لها على أساس تعصبية ضيقة أو محاكاة عقدية وقيمية وسياسية ليس لها صلة بالإبداع، حتى لو تمسحت بمسوحه.
مناخ حرّ
وأن كنا في محاورة حملات التشكيك بقصيدة النثر والشعر الحديث عموماً، لا ننكر، ولا نرى داعي للإنكار، أن مجلة شعر والمناخ العربي الذي سمح بإيجادها وإيجاد غيرها من المجلات المجددة في الشعر والأدب مثل مجلة "حوار" و "الآداب" اللبنانية، مناخ الترجمة، مناخ تجديد الصلة بالتراث الشعري والأدبي القديم، مناخ التلاقح الحضاري ومناخ المد التحرري والتعدد الفكري والسياسي هو الذي شكل نواة الانطلاقة للتجديد في الإبداع العربي سواء في قصيدة النثر أو غيرها من أجناس أدبية أخرى.
وجدت قصيدة النثر وتوجد من موج المحيط حتى ملح الخليج وهي تتنامى وتتطور بأشكال تجريبية جديدة كل يوم. فبعد إبداع رواد قصيدة النثر في الوطن العربي الذين حاولوا أن يعمقوها في حركة الشعر الحديث كتيار شعري جديد وجاد أنسي الحاج.. محمد الماغوط، عائشة ارناؤوط، وتوفيق صايغ. نجد أنه لم تعد هناك ساحة ثقافية في الوطن العربي تخلو من هذا الشعر. حيث تزهر قصيدة النثر وتأخذ مسارات تجريبية طليعية. في الشام. في لبنان وفلسطين وسوريا. نجد شبابا كادوا للحرب بالحب والشعر: عباس بيضون، سركون بولص، محمد عبد الله، بسام حجار، سليم بركات، لينا الطيي، بول شاوول، عيسى مخلوف، وغيرهم بعضهم كان هناك فرصة أو مصادفة لمعرفة إنتاجه عن قرب، وبعضهم نسمع به أو عن تجاربه من بعيد. لكن الاعتراف بلوعة وأشواق التعارف وبشاعة البعد، أو ما ينتج عنه من جهل بتجارب واسماء، لا ينفيهم ولا ينفينا ولا ينفي التيار.
وفي مصر. أسماء وتجارب حلمي سالم، رفعت سلام ولا نظن التجربة وئدت بعد توقف إضاءة السبعينات وان تشذرت.
في اليمن، وفي العراق تجارب، وأن جهلنا أصواتها وأسماءها أو لم تتمثل في المهاجر والتجمعات. ولابد أن في المغرب العربي تجارب مماثلة، حتى لو كنت شخصيا لا أعرف عنها إلا ما تتيحه فرصة أو مصادفة عبر الصحف.
الفضاء التخيلي للحرية
في الخليج، في البحرين، والإمارات نجد تجارب تتمايز وتختلط، تصارح أو تفاضح، تجاهر أو تخفت، حسب قربها أو بعدها، حركتها أو سكونها في مدار الحريق أو الفضاء التخيلي للحرية، أسماء لا تحصى تتسلل من شقوق الهوامش الضيقة أو عنق الزجاجة، كرمل الساعة في وقت لا يتوقف عن الجريان بالأوامر أو النواهي.
منها فوزية السندي، أحمد المدن، نجوم الغانم. ظبية خميس، سيف الرحى، وغيرهم.
قصيدة النثر شكلت غواية وتحدياً محملين باحتمالات لا نهائية، حتى لشعراء كانوا أسسوا مجدا تجديديا وأقاموا عروشا لها أن تتكبر في قصيدة التفعلية. فالشاعر قاسم حداد يقتحم "عزلة الملكات" في الثمانينات ببساطة ساحر وسحر شاعر. ويتوج ملكوته الشعري بتجربة جديدة ورائدة في قصيدة النثر.
والشاعر علي الدميني.. لا يخون تجربته الشعرية الشامخة والمبدعة في شعر قصيدة التفعلية عندما تشاكمه قصيدة النثر في وحدته مع شياطين الشعر، فيبدع لهذا الوطن عشقا جديدا اسمه قصيدة النثر يضيفه لرصيد حركة الشعر الحديث في المملكة والوطن العربي.
حتى منتصف الثمانينات كانت قصيدة النثر في المملكة يتيمة، وحيدة، يشاح عنها كأنها تهمة أو فيروس غامض، حتى من قبل تقصي كطفلة منبوذة مذنبة في حالة قصاص، وجهها إلى الجدار وظهرها إلى الجمهور. لا أحد يريد أن يسمع إيقاعها المتوحش ولا ترانيمها المدهشة. ولا أحد يرغب في رؤية تلفتاتها الطفولية وكأنها سحر أو عرس منهي عنه. ولا يعرف منتهاه.
في منتصف الثمانينات خرجت قصيدة النثر في المملكة تعلن عن وجودها جهارا نهارا. لم تعد يتيمة في ديوان لا يتداول إلا في السر.
خرجت قصيدة النثر على أعمدة الملاحق الأدبية في الصحف المحلية، وفي بعض الأمسيات الشعرية بالإحساء أو جدة. طلعت قصيدة النثر من الحجر إلى ضراوة الصحراء جاءت قصيدة النثر في "الجوزاء" ديوان محمد عبيد الحربي قامة من وطن وشعر تكسر حظر التجول في مملكة الشعر.
كانت القصيدة كفعل إبداعي ضالة الشعر لكثير من الشعراء الشباب، فلم تخفهم التهم المسبقة ومقاسات البصمات. فشاعر مجترئ كمحمد الدميني انتقل من شعر التفعيلة إلى قصيدة النثر، تتنقل بينها في أحرج الأوقات وأصعبها. لم تكن في الشعر تلويه لومة لائم. أدخل يده في الموهبة المنهي عنها، وأشعل الشعر دهشة جديدة.
والآن، أحمد الملا، غسان الخنيزي، هدى الدغفق، عبد المحسن يوسف، هاشم الجحدلي، محمود تراوري.
الآن (بشيء من المبالغة في التفاؤل) قصيدة النثر تستدير كهلال كان نحيلا وخجولا ووحيدا. تستدير، لم تستو بعد، لكنها تجرب وتتجدد، وتفشل ملاحقات المحاق.
شيء عن نفسي
التطور الذاتي لتجربتي الشعرية الخاصة في القصيدة الحديثة، فإنه وأن كان يعز عليّ أن استعرض تفاصيل روحي كأي عامل مضطر يعرض عضلات جسده على صاحب عمل في جسده على صاحب عمل في عصر ما بعد آلي، فأنني أحاول أن اختصر الجرائر البيضاء ببعض التاريخ الممتقع كجروح مزرقة.
ربما ابتديت الشعر عندما كنت أغمس يدي الصغيرة في الرملة الصحراوية الحمراء لساحة لعبي وأشكل لعبي وأشكل بالرمل والماء رموزا بدائية غامضة لا يفلها شغب شفرتها إلا أقراني من الأطفال.
ربما اكتشفت ملكة الشعر في بحة صوت أمي. تلك الصبية المكية التي كانت تبلل سموم نجد بماء صوتها، وتجرح أحزانها بالمجرور الحجازي.
ربما راودتني أخيلة الشعر في قامة أبي التمرية وهي تتمايل على إيقاع العرضة، كسيف يستقيل من الحروب، لكنه لا يشفى من عشق عذوق النخل، ولا من بكاء السواقي البعيدة على أطراف الرياض في الماضي القريب. في هذا الجو المجرّح بالأشواق والأحزان، بين الحجاز ونجد، تفتحت حواسي الأولى على سحر الكلمة.
قبل أن أكتب في الصحف كتبت على الوقت بين الدرس والدرس. كتبت على دفاتر مدرستي وكدت للدروس المملة بشعر مثير. سرقت الطباشير ولطخت الطريق الخالية من المدرسة إلى البيت بالحركة والإيقاع وغناء العصافير والمواعيد الليلكية.
دسست أصابعي في السراب وأطلقت من حقيبة المرحلة الابتدائية نوافير ماء وفيروز. كان قوس قزح يتفلت من انحناء القوس.
هذا ليس كلاما رومانسيا عن تجربة شرسة، ولكنها الأسرار الصغيرة التي لا تحس باللمس ولا ترى بالعين المجردة من تفاصيل التجربة.
إلى متى يختطفونك ليلة العرس
جاء ديواني الأول إلى متى يختطفونك ليلة العرس نشيداً طفوليا للوطن. كان مُرْبَكاً بشهوة الدهشة وإلحاح الأسئلة وأشواق التجريب. مثل قرص عسل لا يزال بشهده لم يصفى. أنشدت فيه جميلة الجزائرية كما رايتها في الذاكرة الطازجة. أنشدت نخل الجزيرة، كما كان يطل من عيون الأطفال والنساء والرجال. أنشدت. أنشدت. كان الزنبق الفلسطيني طالعاً للتو من بؤس المخيمات وبأس شعراء المقاومة في الداخل. فتشكل في الديوان ذلك الرعب الحزيراني الذي اختبرته بأصابعي الرطبة وصداقاتي الطفولية في المدرسة، وفي حيّنا بالرويس شمال جدة،من خلال قصص وتفجعات الأسر التي ساكنتنا رطوبة ذلك المكان وجيراته الطيبة. اثر وصول تلك الاسر مهجّرة من القدس والضفة وغزة. ليس في أيديهم غير أرواحهم وأطفالهم وحكايات لا تصدق من التوق والنقمة بعد إنجاز هزيمة الأيام الستة عام 1967.
صحيح لم انشد في ذلك الديوان أنشودة مطر كأنشودة السياب التي دوزنها على إيقاع الهدير الجماهيري في الشارع العربي في خضم موجه المد القومي وطرد الاستعمار من العراق ومصر وسوريا ولبنان والجزائر و... مهرها باهتراء الرئة ومقاومة الروح. لكنني أنشدت في ذلك الديوان أناشيد صغيرة عذرية وعذبة بعضها بسيط أو ساذج إلاّ أنها تومض بغموض وتموج بمجهول جنيني مثل بحيرات السراب في الصحراء التي خرجت كجنية تنتضي من تحت رمضائها أناشيد صغيرة تترنم بإيقاعات داخلية حميمية كإيقاع المطر، كحجلة الأطفال، كرفة الأجنحة التي كنت أحسها تنبض في تلك الكتب والدواوين والمجلات القليلة التي تحملها لنا مدرستنا في المرحلة المتوسطة والثانوية، من العراق والأردن والشام ومصر ولبنان بعد عودتهن من الإجازات المدرسية.
أنشدت في ديوان الاختطاف والعرس شقاوة أشقائي العشرة. شقاء أمي وأبي من اجل لقمة حلال. أنشدت أحلام الرفيقات، أخيلة مرحلة المراهقة وتجاربي الأولى في الحب، في الوطن.
من بيروت إلى أمريكا
وربما لا أنسى أن أتذكر أن تجربتي في ذلك الديوان جوهرها وجودي في بيروت للدراسة، بجوها المشحون بالحب وأحلام الحرية واحتمالات الحرب التي لم تكن افتضحت تماما بعد. صلقت تجربتي صداقات عميقة أو خفيفة ربطتني بزملائي من الطالبات والطلاب من اطرف الوطن العربي إلى أطرافه. بل ومن أطراف الدنيا. هذا إلى جانب صدقات مع شعراء وكتاب عرب.
وان كنت كتبت معظم قصائد الديوان في ساحة مدرسة دار التربية الحديثة بحي البغدادية بجدة في مرحلة ما قبل بيروت، وقبل إن أمد راس من مفاصل الصخرة.
عندما أعطيت الديوان دار العودة لتقويم بنشرة بعد ان اطلعت عليه كثيراً من الأصدقاء والشعراء ومنهم الشاعر البحريني علوي الهاشمي والشاعر خليل حاوي الذي كان أستاذي في الجامعة، والشاعر سليم بركات، وغيرهم من الشعراء والكتاب المتقدمين وقتها.
بين صبا نجد وصبابات الصحراء. بين الجامعة الأميركية ببيروت وبين الجامعة في أميركا. بين الرحيل إلى أميركا اللدودة والحرب في بيروت الحميمة التي بدأت بتصادم عفوي وتبرعمت ببعد شعبي وانتهت بجدار تراجيدي، بين الشعاب المرجانية ببحر جدة،وفورة البترول في أحماض بحر الخليج. وأمواج ببيروت. من ثلاثة بحور ويابسة واحدة تتشابك فيها الأحلام بالحيتان، وجدت نفسي وحيدة وصغيرة في جليد المحيط. في أميركا صارت روحي ترتج في مواجهة ما يسمونه بالتحدي الحضاري. لا كما نقرأ عنه في الكتب أو نشاهده في الأفلام. ولا كما نعاني منه على ارض الوطن ونحن نحتمي منه بحنان الرحم ومشترك الجراح ورحمة الحلم.
كان تحديا جارحا، جازفا ومبرحا. من أمسيات ودواوين الشعر الأميركي الحديث سلفيابلات، جيمس رايت، وليم ستنافورد، ادريان ريتش. فستالا. والى مسرح الهواء الطلق وفنائي الارصفة، إلى مظاهرات الطلاب المشغولة بقضايا التحرر الوطني في العالم من تشيلي إلى ايرلندا ومن أرتيريا حتى إيران. وفي كل ذلك كانت تبرز عابات الأقليات الملونة. السود، التشيكانو. البورتريكيين. بإيقاعها وشجنها الخاص الصارخ.
في الجامعة، وفي الغربة والدراسة تولد وعي وتفاعل مختلف مع القضايا الإنسانية والاجتماعية وفي مسألة الإبداع خاصة. لم تعد المسألة الفنية بعدما قرأت وحصلت وتعايشت مع تجارب الشعوب والشعراء والكتاب في العالم حية بلغتها، مقطرة بجريانها، مجرد تحصيل حاصل، بل أصبحت تحدياً بما تحمله من مضامين مركبة ومعقدة وصعبة. كما لم تعد مسألة التجديد في الأدوات والرؤيا مسألة تمرد على المعتاد، أو إمعانا في إحناق الحراس. بل أصبحت هاجساً إبداعياً أصيلاً.
كنت قبلها أجرب في الوطن كتابة قصيدة للحرية. فصرت مهجوسة ومسكونة ومتوترة كيف اكتب شعرا تتحقق فيه حرية القصيدة بما يستحقه الإبداع من حرية، وبما حققه في تجارب وإنجازات الآخرين.
مهادنة الصدمة
كنت وبعد تخرجي من الجامعة في أمريكا مع نهاية السبعينات، عدت إلى الوطن، كنت أحمل حماسا بدا لي أنه يحرك الجبال، وأملا يستطيع أن يمحو نزعة الشر من تاريخ البشرية كله. كنت مستعدة لكل الاحتمالات كغيمة تريد أي نسمة هواء لتمطر. كتيار مشحون بطاقات صاعقة. غير أنني ما لبثت أن صدمت وبشدة في الجو المعادي الذي وجدته تجاه قصيدة النثر وقتها 79/ 80م.
وباستثناء بعض الزملاء الذين حاولوا تهدئة روعي بما وجدته عندهم من أفق في تقدير هذا الشعر/ عبد العزيز المشري، جار الله الحميد، عبد الله باخشوين، على الدميني، منيرة الموصلي، منيرة الغدير، محمد الدميني، صالح الصالح والقليل غيرهم من المثقفين والزملاء، كانت المقالع والخوازيق والمشانق قد نصبت لي غيابياً على أعمدة الصحف مثل جريدة "المدينة" وحملة أبو تراب الظاهري. لا لشيء إلا لتجرؤي على تسمية قصيدة النثر وديواني الاول شعراً. اعتبرت وقتها قصيدة النثر ذنبا لابد أن أتوب عنه.. ولم أحسب حساب أن ذلك مجرد حملة أولى لحملات أعنف وأفدح.
لا أنكر أنني جفلت بل تراجعت عن فكرة نشر كل ما كنت كتبته بعد صدور الديوان الأول حتى ذلك الحين. وقد بددت وأضعت معظم قصائد تلك المرحلة وما قبلها عن عمد، أو عدم اكتراث. أو إمعانا في إيذاء الذات بدوت وكأنني أكفر عن غي ارتكبته. أو أحاول أن أهادن الصدمة. وركزت وقتها على كتابة المقالة في بشكل ومضمون جديدين.
لذلك، ربما، جاءت قصائد الديوان الثاني تتلفت حولها برعب ولده العنف الموجه نحو قصيدة النثر، ومحاولة نفيها. علما أن ذلك الموقف المعادي لم يكن يصدر فقط عن أصحاب المواقف التقليدية ومن يشكلون كتائب الحرس القديم، أو بعض الموتورين والمنغلقين، بل شاركتهم الجوقة شعراء شباب، وان كانوا قلة، ومنهم محمد جبر الحربي. كما شاركهم الجوقة محررون وصحافيون صغار لم يعرفوا من الصحافة إلا صفرة بعض الصحف وصفاقتها. والمصيبة أنهم كانوا ينجحون في استعدائهم.
ولولا الزخم النفسي والوطني والإبداعي لتلك المرحلة 1980- 1984 ولولا أن تلك المرحلة كانت أخصب مرحلة من مراحل الحركة الثقافية الحديثة خصوصا في ما يتعلق بقصيدة التفعلية والقصة القصيرة، لربما تبرأت من لوثة الشعر نهائيا.
من الإنشاد الطفولي إلى التفجر
لكن عمق الصمت العربي صيق 1982 ذلك الرعب الذي طرق الأبواب ولملم الشباب من الجامعات والشوارع والشرفات البعيدة، استجرح كل جروح الشعر في روحي التي كنت دملتها بيدي. فكان ما كان وكتبت ديوان "قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي".
كان هناك عناد مكة، وطيبة يثرب، عزلة طويق، حريق النفط، الاجتياح الإسرائيلي للبنان، الشتات الثالث أو الثالث عشر من جبال صنعاء حتى حمامات الشط. تخثر النخاع في حبلنا الشوكي. زلزال الجغرافيا تهديد التاريخ بالزوال، لعنة الأسطورة البابلية، خروج مصر، تمنع صور، هتك شاتيلا وصبرا. وأسماء لا تحصى للمذابح ونعوت لا تعد لعدوى السحايا وعودة الجدري والطاعون.
وربما هنا لكن بعض السر في الانتقال الحاد من مرحلة الإنشاد الطفولي المخضب بميس أنثوي في ديواني الأول، إلى.. حالة التفجع الكربلائي المتطرف في الديوان الثاني. كان المفروض أن يكون عنوان الديوان "اشهد الوطن" كما وضعته على مخطوطة الديوان عندما أرسلته إلى "دار العودة" ببيروت. ولكن كما فهمت فيما بعد. فالعنوان لم يناسب الدار! استشاروا الناقدة المبدعة خالدة سعيد في الأمر، فرأت بكلام مقتضب أن "أشهد الوطن" عنوان يبدو مبتسرا وقصيراً وفيه من الجذب الشعاري أكثر مما فيه من الجاذبية الشعرية. فاستقرت الدار على إصدار الديوان بأحد عناوين القصائد. وللأسف ولظروف بيروت في العامين 84/ 85 التي لم تمكني من الإطلاع على "بروفات" الطبع، ولضعف وسائل الاتصال بين الرياض وبيروت في تلك الفترة، جاء الديوان محملاً بالأخطاء المطبعية. لم اختر غلاف الديوان، ولم أحبه عندما رأيته.
حاجة إلى التريث!
يبدو لي الآن، وبعد هذه الفترة الطويلة على صدور الديوان الثاني، إنني ربما كنت في حاجة إلى التريث قبل نشره، حتى لا أفسد الإبداع بحجم الفجيعة واللوعة. وحتى أفسد أي مصائد رخيصة للقصائد...و ... حتى أحمي مستقبلي الإنساني والشعري من ذلك التناحر الطاحن بين فن الممكن وبين إبداع المستحيل.. في مناخ الخلوق.. أقول ذلك الآن وربما لم يخطر في بالي وقتها.
كانت تجربة الإصدار في ظروف مرتبكة جزء من تجاربي الحياتية بفشلها ونجاحها. بهزائمها الصغيرة وأفراحها القليلة والتجارب عادة لا تعيش ولا تتطور في فراغ. ولكن المناخ الثقافي والاجتماعي قد يدفعها لمزيد من الإبداع بيده كما كان بفعل الجاهلي بالبنات.
وربما يمكن أن أحلم أو أظن أن التيار الشعري الذي أصبحت تشكله قصيدة النثر في حركة الشعر الحديث في المملكة اصبح بإنتاج الشباب وتطور تجاربهم يشكل نوعاً من الأمن النفسي والجسدي ومحرضا إبداعيا للروح. والشاعر قد يفضل قلق الأمل على راحة اليأس.
عن (الكاتبة) 1993
إقرأ أيضاً:-