تثير ظاهرة الصمت لدى الشاعر الكثير من الأسئلة، ووجهات النظر، حول تشخيص هذه الظاهرة، وتقويمها، وقراءة دلالاتها، ولاسيما في مواجهة السؤال المهم وهو: هل هي “صحية أم لا؟”، مادام أن أكثر الشعراء قد يتعرضون لفترات من الانقطاع عن الكتابة، قد تطول أو تقصر، كما أنه من المعروف أن الصمت نفسه، يترجم لدى الشعراء بصور مختلفة، ومتباينة، فمنه ما هو ضروري بالنسبة إليه، ومنه ما قد ينشأ على نحو اضطراري، سواء أكان ذلك بسبب طبيعة الموهبة، أو العامل الخارجي . وحول هذه الظاهرة استطلعنا آراء عدد من الشعراء، في ما يخص ظاهرة “الصمت” لدى الشاعر:
الشاعر علي كنعان رأى أن الصمت لدى الشاعر قد يعود إلى عامل “المزاج” أحياناً، وأضاف: وأياً كان سبب الصمت، فإن الإنسان ابن هذه الطبيعة، ولذا فللطبيعة فصولها وأنواؤها، وبهذا المعنى، فالمسألة ليست إرادية، وإنما قد يكون عامل اللاشعور هو الأقوى، كما أن الأمطار بحاجة إلى حرارة الطيف، لتأخذ الغيوم من مياه البحار، أو الأنهار، كذلك الشاعر، فهو بحاجة إلى قراءة كتابة الواقع والحياة . وهو بحاجة إلى شرارة وهي الأكثر أهمية، لتطلق القصيدة، وهذه أصعب نقطة في حياة القصيدة . إن هذه الحالة الشعورية مزيج من المعاناة اليومية، في لحظة تفاعلها مع الإضاءات الثقافية، سواء أكان ذلك في الأسطورة، أو التاريخ، أو الأساطير اليومية التي يراها في واقعه، ويمكنني الإشارة إلى ما يجري في بلدي سوريا، الآن، كأحد الأمثلة على هذا عموماً، إن هذه الأشياء تساعد على إنضاج تجربة القصيدة، التي تشبه الحمل، سواء أكان لدى النبات، أو الحيوان، أو الإنسان . ولابدّ للقصيدة، إذاً، من معاناة ما، في التجربة والرؤية: كيف يرى الحياة التي يمتزج فيها الشعور باللاشعور، مع أن حجم أو كمية اللاشعور أكبر بكثير . ثم لابدّ لكل شاعر من موقف يتجلى في ثمرة هذه التجربة، أو الحالة الشعورية، وإن لادة القصيدة لا بدّ لها من العزلة التامة، ذلك لأن لا وجود لأم تلد على قارعة الطريق .
وقال الشاعر عيسى يوسف: الصمت هو جزء من “الميناء” الضروري بالنسبة إلى الشاعر، للإبحار فيه، مرة ثانية، والكلمة تحتاج إلى مثل هذا الميناء حقاً، والشاعر يجمع الكثير من مفردات ومكونات القصيدة في ذهنه للإبحار، مرة ثانية في عوالم الإبداع، والصمت قد يمتد لدى الشاعر إلى سنوات، وهي فترة الرسو في الميناء، ليقلع بعد ذلك إلى ميناء آخر، فآخر، لئلا يكرر موانئه، ولئلا تبدو نصوصه مكررة، وهو بالتالي جزء روحي بالنسبة إلى الشاعر .
بينما قال الشاعر عبدالله عبدالوهاب: إن الشاعر في فترة الصمت يصاب بخيبة من أشياء كثيرة، داخل نفسه، أو خارجها، إلا أنه في النهاية: هو إنسان، مسحوق، بسبب ثقل وجوده في الكون، ومن هنا، فالشاعر يصمت أحياناً، إلا أنه لا يستطيع التوقف، لأن الصمت عن الكتابة ملاذ الشاعر في لحظة “الاندحار” أو السكوت، حتى يراجع نفسه .
وقال الشاعر عادل خزام: يلجأ الشاعر أحياناً إلى الصمت، عندما يجده أكثر تعبيراً عن الكلام، والصمت عبارة عن لغة، وينبغي على الشاعر أن يدرك أن النص هو التعبير الذي يحاول أن يلخص الوجود، ويقبض على تفاصيله، ويصطاد إشاراته ويقدمها، بشكل يضيف إلى الحياة المزيد من الجمال . وهناك من يظن أن الشعر هو صوت المدفع، وصوت الرصاص، وأحياناً صوت العنف، لكن هذا الشيء ليس صحيحاً، فالشعر في طبيعته لغة من التأمل وصوت الحكمة والجنون الجميل، وبالتالي نجد أن الشعرية العربية وقعت في الكثير من الراهن، والعادي والعابر، وهناك الكثير من القصائد التي ارتبطت برد فعل، ليتحول الشعر إلى شعار، لكن النص الحقيقي الذي يلمس الشعرية يقترب من لغة الوجود، ولا تحده هذه الفواصل الزمنية القصيرة المتعلقة بالعابر، لذلك هناك فرق بين الشاعر الذي يقرر أن يصمت، والشاعر الذي يصمت من دون أن يقرر، إلا أن الشاعر يحتاج إلى البوح، تبعاً لدرجة إدراكه، ووعيه، وقراءته لما يدور حوله من تفاعلات الحياة .
الخليج
13/06/2011