إبراهيم اليوسف

لا بدّ من الإقرار بأنه ثمة كتابة جديدة، باتت تفرض نفسها في شتى مجالات الإبداع، نثراً وشعراً، في آن واحد، واستطاعت هذه الكتابة أن تشكل ملامحها الخاصة، وتجترح وتوجد علاماتها الفارقة، التي تميزها وتسجل خصوصيتها، وطبيعي أن من يتابع الخط البياني التاريخي للإبداع فإنه سيجد أن الجديد سرعان ما كان يظهر ويقدّم أوراق اعتماده من خلال أسماء كثيرة في كل مجال من المجالات الإبداعية، وبات ينظر إلى أصحاب تلك الإبداعات كمجددين، سواء أكان تجديدهم جزئياً أم كلياً .

ولعلّ ظروفاً مناسبة قد تهيأت للكتابة الجديدة لكي تنداح دائرتها وتتسع، وتكاد ألا تكون ضمن دائرة لغة معينة، بل تتجاوز حدودها ليتم تحقق معادلة تبادل التأثير على الصعد الإبداعية كافة، وذلك في ظل ثورة الاتصالات الهائلة التي سرعت إيقاع التلاقح والتواصل الإبداعيين، ورفعت وتيرته كما لم يكن ذلك متوافراً من قبل، “الخليج” التقت عدداً من الشعراء والكتاب والنقاد لتستطلع آراءهم وحول تقويمهم للكتابة الجديدة، وقراءة حركتها وتفاعلها ضمن مختبر الإبداع والحداثة .

ترى الشاعرة ظبية خميس أن الكتابة الجديدة كالقديمة، ابنة التحولات وتعبير عن إيقاع جيل جديد، ورؤاه للحياة التي يعيشها ويعيشها العالم معه، مؤثراً فيه ومتأثراً به .

إن العولمة باتت تؤثر في نصوص المبدعين اليوم، وتخلق بينهم مشتركات في التعبير عن الذات والذائقة والأسئلة الوجودية . حيث هنالك ميل للفردية وتأمل الحيوات الذاتية، وربط مصائر الأشخاص على نحو ذاتي جداً بمصير العالم . إننا نجد أن أفضل الكتب على قائمة المبيعات عالمياً لكتاب في الرواية بالذات، يكتبون سيرهم الحياتية أو العائلية، وخصوصاً في الأدب الصادر من الهند والصين وآسيا، فمثلاً رواية “شانغهاي بيبي” للصيني وي هيوي التي ترجمت إلى العربية، وقد بيع منها أكثر من 60 مليون نسخة في العالم، وتتناول الحياة الوجودية لشابة تحلم بأن تكون كاتبة، وهناك حالة تحررية وتمردية وتماه مع الغرب فيها، تشبه حلم الشباب الصيني في الانفتاح بعد عهود من الحكم الأيديولوجي الماوي في الصين، إنها تحيلنا إلى فرانسوا ساغان و”صباح الخير أيها الحزن”، إن وجودية فرنسا الستينيات تنعكس بشكل ما في كتابة صينية تكتب اليوم .

هذا البحث نفسه سنجده في آخر أعمال ماريو فارجاس يوسا، الحائز جائزة نوبل لهذا العام، فالروائي اللاتيني في روايته “الفتاة السيئة” يطرح وجودية عبثية لحياة امرأة يستعرض عبرها خمسين عاماً من التحولات السياسية والثورية في وطنه البيرو، ورغم أنه من جيل سابق على الروائية الصينية غير أن هناك تقاطعات بينهما، لأنه يخاطب جيلها . وسنجد هذه الفردية الناتجة من العولمة والتحرك بين العواصم موجوداً في أدب جديد ومؤثر في الأجيال الحالية، كما هو في روايات هوراكي موراكامي الياباني، وحين نقرأ مذكراته الصادرة حديثاً في “ماذا أفكر حين أركض؟” سنلاحظ تداخل تأثيرات الموسيقا والسينما الأمريكية والأوروبية على روحه اليابانية، وتأثره بالترجمة التي قام بها لعدد من الروائيين الغربيين، وبالتالى على نصه رغم عمق سوداويته اليابانية الحساسة في كتاباته، وقد تحولت أخيراً إحدى رواياته “الغابة النرويجية” إلى فيلم سينمائي .

إن العولمة نفسها لم تتأثر بالكهنوتية المسيحية وحدها، ولكن بالبوذية والصوفية الإسلامية، وعلوم الحكمة، في روايات البرازيلي باولو كويلهو في مسعاه للبحث عن الدرب الإنساني لشخوصه، سنلاحظ مرة ثانية التجوال في مختلف بقاع العالم، في “ساحر الصحراء”، وفي روايته التي ترجمت منذ سنين للعربية “فيرونيكا تقرر أن تموت”، وفي روايته “إحدى عشرة دقيقة” وغيرها .

هنالك الرواية التي تجمع بين الأسطورة والتاريخ مثل أعمال دان براون وخاصة “شفرة دافنشي”، وكذلك روايات أمين معلوف من “سمرقند” إلى “ليون الإفريقي” وغيرها .

إن كتاب مثل “خفة الكائن غير المحتملة” لميلان كوندرا خلق في حسيته وطرحه لعلاقات حب شائكة نقداً ضمنياً لوضع دولته -آنذاك- تشيكوسلوفاكيا الستينيات، وعلاقتها بالاتحاد السوفييتي، ومظاهرات الغضب التي اجتاحتها في ربيع ال،68 وبالرغم من أنه تعرض للنقد الأيديولوجي عندما صدر في بداية الثمانينيات، فإنه أثر مع كتبه الأخرى ككتاب الضحك والنسيان وغيرها في أجيال من الروائيين الشباب في العالم، والأمر نفسه بالنسبة إلى تأثيرات ماركيز وبورخس وآمادو وغيرهم، وبذلك تراجع الأثر الغربي العميق للعواصم الأدبية الغربية لمصلحة أدب جاء من مناطق الهامش، وبفضل الترجمات تخطى حدوده ووصل إلى أجيال جديدة تكتب في كل العالم . والعرب تأثروا بذلك كثيراً، ففي فترة انتشرت مقولة “العالمية تبدأ بالمحلية” فنزف الكثير من الريفيين من الكتاب أرواحهم في روايات ونصوص كتبوها عن قراهم وأحيائهم الشعبية، كفكرة للوصول إلى العالمية، ونجد ذلك خصوصاً في مصر وسوريا في أجيال كانت تكتب في الثمانينيات، وحتى في الخليج، وقد زاد من ذلك تأثير المخضرمين من الأدباء ونتاجهم كنجيب محفوظ وحنا مينا وعبدالرحمن منيف وغيرهم، وبدا ذلك جلياً في كتابات محمد المر وعبدالحميد أحمد وسلمى مطر سيف مثلاً في الإمارات .

أظن أن الجيل الجديد مختلف، فهو يطمح أكثر إلى عالمية السوق والانتشار، وكسر التابو والكتابة عن المسكوت عنه في حياة مجتمعه، ويميل إلى عالم المدن مثل علاء الأسواني في روايته “عمارة يعقوبيان”، التي تحولت إلى فيلم سينمائي حالها حال “فيرونيكا تقرر أن تموت” و”الغابة النرويجية” و”الفتاة السيئة”، فهنالك عين على قائمة الأفضل مبيعاً، والسينما، وتجارة الكتاب الرائجة، وسوق الترجمات . الجيل الجديد في الإمارات تأثر بذلك، فالمجموعة القصصية “منينة” للشابة مريم ناصر متأثرة بعوالم كويلهو مثلاً، وغيره من الكتاب، وقد وجدت طريقها للترجمة للألمانية، بالرغم من صدورها منذ عام فقط، ورغم كونها النتاج الأول، إلا أن النجاح التجاري لبنات الرياض لرجاء الصانع فتح مثل تلك الأبواب أيضاً لكتاب من الخليج، فضّل بعضهم الكتابة مباشرة بلغة أجنبية كأحمد الدهمان السعودي، وروايته “الحزام” التي نشرها وكتبها باللغة الفرنسية مباشرة .هنالك رغبة في النجاح المدوي لدى الجيل الجديد من الكتاب، وقد طرحت أمامه تجارب تحقق ذلك، كما حدث مع أحلام مستغانمي وثلاثيتها التي بدأت “بذاكرة الجسد”، وقد تمت ترجمتها للغات مختلفة ونجحت تجارياً، وتحولت إلى مسلسل عرض في شهر رمضان الماضي بالعربية الفصحى . وحالة البوح والبحث عن الذات وتقاطع الغرب والشرق نجده في أعمال كثيرة اليوم، كرواية “بروكلين هايتس” لميرال الطحاوي ورواية “خان زاده “للينا كريدية التي تحكي عبر السرد الذاتي حياة مدينة بيروت خلال الحرب، ثم هناك الكتابة الجنسية المحضة التي لاقت رواج الترجمة والنجاح التجاري كرواية “برهان العسل” للسورية سلوى النعيمي وغيرها .وعموماً المنتج الإبداعي العربي الحالي بحاجة إلى حركة نقدية حيوية ومواكبة لترصد، وهي غائبة للأسف .

أما الشعر فهو عالم آخر عربياً، فلا قائمة أفضل المبيعات له، وإن كانت هنالك ترجمات محدودة بالطبع لبعض الأسماء، بالإضافة إلى وجود مهرجانات وملتقيات وتحفيز محموم، وخصوصاً في الخليج، لتكريس رسمي للتقليدي والعمودي منه، وإعادة دور أغراض الشعر، خصوصاً عبر البرامج كشاعر المليون، وأمير الشعراء وغيرهما، كما هو الحال الاحتفاء الذي طال الشعر النبطي . غير أن هنالك تطوراً في مساحات كبيرة لقصيدة النثر في العالم العربي، وقد وجدت مداها عبر الانترنت وبحق تفاجئني نصوص شعراء رائعين، من فلسطين والسودان والمغرب والخليج، ما كنت لأتعرف إلى نصوصهم، لولا الانترنت وإمكانية النشر عبره .

لقد انتهي جيل الريادة تقريباً، ولم يتبق منه سوى قلة من رواد الحداثة الشعرية في العالم العربي، مثل سعدي يوسف وأدونيس، وفقدنا أسماء مهمة كالماغوط ومحمود درويش وغيرهما، غير أن جيل الوسط ما زال باقياً وإن قل تأثيره وحماسه للنشر والانتشار، ففي الخليج أسماء كسيف الرحبي وحبيب الصايغ وأحمد راشد ثاني وقاسم حداد وسعدية مفرح، وفي مصر مازال هنالك بقية من شعراء السبعينيات كحلمي سالم وغيره، غير أن أسماء من جيل الثمانينيات تبدو أكثر تأثيراً في الجيل الجديد كإبراهيم داود وفاطمة قنديل وإيمان مرسال وعلاء عبد الهادي وغيرهم .وأظن أن شعراء المنافي والاغتراب أثروا كثيراً في الجيل الجديد كسركون بولص مثلاً .

الترجمة أيضا أثرت في الشعر العربي الحالي، لكن في رأيي هنالك نقص وعدم تواصل كاف نقدياً وحتي على مستوى النشر، فنحن نجهل حال الأجيال الجديدة شعرياً وأدبياً في العراق التي دمرتها الحروب، وكذلك في السودان وفلسطين واليمن وغيرها . تنقصنا منابر شعرية عربية وإصدارات ومجلات ثقافية تعني بالشعر بشكل خاص وإن كنت أرى اقتراباً ما في العوالم الشعرية مع شعراء من الجيل نفسه في بقاع أخرى من العالم، فحين ترجمت “أسباب للانتماء” وهو كتاب أنثولوجي لأربعة عشر شاعراً من الهند يكتبون بإلانجليزية، وكتاب “تأملات في الرغبة” لسليم بيرادينا، وجدت الكثير من التقاطعات في النصوص، فروح الكتابة متقاربة ما بين جيلي من الشعراء وأولئك الشعراء الجدد . الشعر بحاجة إلى حرية وحياة، وهناك الكثير من التراجع على هذا المستوى عربياً، فالموت والحروب ومحاربة حرية التعبير تنامت وباتت طاغية في السنوات الماضية، وأظن أن ذلك قد أثر كثيراً في الشعر، وفي الإمارات يلفت انتباهي حال الفرار إلى الخارج شعرياً، والهجرة الروحية شعرياً، كما في كتابات عبدالعزيز جاسم وخالد الراشد وعادل خزام مثلاً .

تعايش

يرى الشاعر جميل داري أن محمود درويش لم يكن يعرف ما هو الشعر، لكنه كان يعرف ما ليس شعرًا، والمسألة تكمن في شعرية وشاعرية النص، سواء أكان عمودياً أو تفعيلياً أو نثرياً .

إن ما يجري على الساحة الشعرية والنقدية لا يسر خاطراً على الأغلب، فثمة نقد مسطح لا يغني ولا يسمن، وقراءات صحافية سريعة كالوجبات السريعة، كل ذلك وغيره يجعلنا نقع في “حيص بيص” من مسألة الشعر أصالة وحداثة، وربما ما بعد حداثة .

لكن بشكل عام فإن النقد الزائف زائل، ويبقى منه ومن الشعر الجيد ما ينفع، لقد صرح نزار قباني كثيراً أنه لم يستفد من نقد النقاد له، بقدر ما أفاده القراء والمثقفون وهواة الشعر، ومن هنا مارس الشعر خمسين عاماً حداثة وتقليداً وجنوناً .

لكل شاعر طريقته في التعبير عن ذاته والعالم، ومن خلال القراءة الفاهمة الواعية، يستطيع القارئ الحذق أن يميز بين الشاعر المفلق الفحل، وبين مدعي الشعر من أرباب التطفل على مائدته العامرة الغامرة .

الحداثة في الشعر وفي الحياة ستبقي موضع خلاف واختلاف، وإن النص الشعري المسكوت عنه نص ميت، فلا بدّ من معارضته، أو موافقته، ومن هنا أتذكر ما قاله المفكر زكي نجيب محمود : “لا يقتل الفكر إلا مواجهته بالصمت، لأن المعارضة والموافقة كلتيهما زاد للنماء”،وهذا يصحّ على الشعر وعلى مسألة الحداثة وزاوية النظر إليها، الحداثات كثيرة، وهي ربما بعدد الشعراء أنفسهم، فثمة حداثة سيّابية، وأدونيسية، وحجازية، ونزارية . .إلخ، الفرق بين الأشكال الشعرية ليس شكلياً فحسب، بقدر ما هو داخلي وصميمي وشعري، لا بل بين الشكل الواحد ونفسه، وإلا كيف نفسر الفرق الشاسع شعرياً بين ما قاله الخيام:

أطفئ لظى القلب بشهد الرضاب فإنما الأيام مثل السحاب

وبين قول الرصافي:

قال صديقي يوم مرت بنا:          من هذه الغادة ذات الحجاب؟

وهكذا، يمكننا المقارنة بين شاعر وآخر، لا بل بين الشاعر ونفسه، في قصائد متباعدة أو متقاربة، أو في القصيدة نفسها بين مقطع وآخر؟

المطلوب حسب ظني هو التعايش الشعري، على غرار التعايش السياسي أو الاجتماعي، ما دام لكل نمط من الشعر نمط من الجمهور، لا سيما أن الكثير من الخلاف بين الأصالة والحداثة “جعجعة بلا طحن”، ولا يترك إلا الكثير من الغبار الذي يضفي على المسألة الكثير من التخبيط والتخبيص، أنا مثلاً أكتب العمودي والتفعيلي والنثري، لكن أجد نفسي شاعراً أكثر في شعر التفعيلية، فإذا ما طرحت نفسي شاعراً نثرياً أخفقت، وغيري نثري ولا يجد نفسه إلا في النثر .

إذاً مبدأ الصواب والخطأ في الشعر وفي الحياة أثبت خطأه وخطله، فعهد معي أو ضدي، والأسود والأبيض قد ولى، إنه عهد التنوع، كتنوع الزهر والشجر في حديقة لا نهائية، إن الحداثة مطلوبة ومرغوب فيها، ولكن من دون مبالغة . . فما معنى أن يفرض شاعر طريقته، ويشنّ هجوماً على من لا يواليه، الجواهري ونزار وأدونيس عاشوا في عصر واحد، ومع ذلك، لم أسمع أن واحداً منهم هاجم أسلوب الثاني وطريقته في التعبير عن الذات والجماعة، مع شدّة اختلاف مساراتهم الشعرية، ونظراتهم الحياتية، وعندما عاد أدونيس إلى سوريا، بعد غياب، استقبل في المطار من قبل محبيه وقال لهم: قبل كل شيء خذوني إلى قبر الجواهري ونزار . . .؟

أدونيس نفسه، من وجهة نظري شاعر حداثي كبير، لكنه أحياناً لا يمت إلى الشعر بصلة، في بعض قصائده أو مقاطعه، ولا سيما ما نشر له مؤخراً . وهنا، أتذكر ما قال البحتري في شعره وشعر أبي تمام: “جيده أفضل من جيدي ورديئي أفضل من رديئه”، فليس عند أبي تمام حد وسط، ولكم هوجم في عصره من النقاد الجاهلين بحداثته التي ما زالت مثار الإعجاب .

المسألة أصعب من أن نطرحها في خاطرة، أو مقالة، فلندع قافلة الشعر تسير

من دون أن نفكر كيف تسير وإلى أين .؟، لأنها لن تصل . .،وربما هذا هو جوهر الإبداع والحداثة، فمن ظن أنه علم فقد جهل .

فضاء

والناقد عزت عمر يرى أن الكتابة الأدبية الجديدة في دولة الإمارات العربية المتحدة، انطلقت متحررة من فضائها المحلّي نحو جغرافيا أوسع عربية وعالمية، وهذا حقّها كونها راكمت الكثير مما يلفت الأنظار ويعجب الباحثين .

ويمكننا في هذه العجالة وصفها بأنها جملة إبداعات عاشت تجربة الحداثة، وعبّرت عنها من خلال انفتاحها على العالم، نظراً للخصوصية التي تمتاز بها الإمارات كبلد يضمّ ثقافات متعددة تتعايش وتتفاعل يومياً في مشترك واحد .

هذا بالإضافة إلى استفادة الكتّاب والشعراء من الثورة الرقمية، فتفاعلوا مع أغلبية التيارات والمذاهب الأدبية، ومع رموز الثقافة العربية أو العالمية، فامتازت إبداعاتهم بخصوصية رصدها للتحوّلات السريعة على صعيد البنية المدينية، والموقف من هذه التحولات، رفضاً أو قبولاً أو حواراً، برؤى ناقدة لبطء بعض هذه التحوّلات على المستوى الاجتماعي، والعلاقات الأسرية بشكل خاص .

وفي هذا الصدد فإن إسهامات المرأة الكاتبة في الكتابة الإبداعية، لفتت الأنظار عبر وعيها المتقدّم وجرأتها في تناول القضايا المرتبطة بها وبعالم الأنوثة، وإصرارها على مشاركة الرجل في عملية التنمية والتثقيف بوعي جديد، يتحلّى بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية قبل كلّ شيء .

وإلى ذلك ينبغي الإشارة إلى دور المؤسسات الثقافية، في احتضان هذه التجارب الإبداعية المختلفة التوجهات، فنياً وفكرياً، بنشر نتاجاتها وبإقامة المسابقات العديدة، ورصد الجوائز الثمينة، ودعوة النقاد المختصين لتثمينها، كما أن الصحافة الثقافية عززت هذه التوجّهات، عبر متابعات محرريها الدؤوبة والمخلصة .

الشاعر خالد الظنحاني يقول التجديد شرط من شروط سيرورة الحياة، فلا حياة حقيقية بلا تجديد،وهذا ينسحب بالضرورة على الأدب، لأنه كالحياة فيه الإبداع والتطور والتجديد والابتكار، فمتى انتفى التجديد حل الجمود والتكلس اللذان يؤديان إلى فقدان المكانة والدور المؤثر لثقافة ما في مكونات الثقافة العالمية المعاصرة .

إن التجديد مرحلة حتمية تطرأ على مفردات الحياة بشكل مستمر، بخاصة أننا نعيش في عالم متغير، وواقع متعولم، يفرض على البشر ثقافة جديدة، ونظرة متطورة إلى جميع مناحي الحياة العصرية .

كما أن للتكنولوجيا الحديثة والثورة المعلوماتية الهائلة، التي تتدفق على البشرية من كل حدب وصوب، أثراً كبيراً على الحياة بكل مكوناتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ما يجبرها على التطور والتحديث لمواكبة هذا الكم من المعلوماتية .

ونستذكر هنا المثل القائل “لكل زمان دولة ورجال”، وهذا مثل صحيح إلى حد كبير، فلكل زمن بالفعل مفردات وأساليب وطريقة حياة خاصة به، تختلف عن الأزمنة التي سبقته، والتجديد هنا ليس خياراً، بل هو ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها .

ونحن بهذا القول لا نلغي مكانة التراث الثقافية، الذي هو أساس الهوية والثقافة الإنسانية لكننا نأخذ منه الجوهر، ونصوغه بما يتناسب مع الواقع الجديد . وتعتبر اللغة أحد أهم المكونات الثقافية لدى الأمم والشعوب، وتخضع هي الأخرى للتطور والتجديد، حيث نصوغ منها مفردات حياتنا وإبداعاتنا الأدبية في الشعر والقصة والرواية والمسرح وغيرها، وتتطور لغتنا الكتابية بتطور اللغة ذاتها، لأننا نخاطب عقولاً وقلوباً متغيرة ومتجددة تعيش حياة عصرية لها طابعها الخاص، وبالتالي لابد لنا من التجديد والابتكار في الكتابة الإبداعية، مبنى ومعنى، وهذا ما نتبناه اليوم كشعراء وكتاب مسرحيين،وأخص هنا القصيدة الشعرية الجديدة على اختلاف أشكالها “العمودية” و”التفعيلة” و”النثر”، التي حرصنا على تطوير مفرداتها، وأسلوب كتابتها من خلال الفكرة والصورة، ليتناسب ذلك مع ثقافة العصر والجيل الجديد، فمن الشعراء من أدخل في قصيدته بعض المفردات الأجنبية، ومنهم من بسّط اللغة الشعرية .وهنا ندعو إلى التوازن في ذلك، فلا إفراط ولا تفريط، فالإبداع مطلوب والتجديد مطلوب والعمق أيضاً مطلوب .

الشاعرة الهنوف محمد ترى أن عجلة الحياة تأبى أن تتوقف عن التغير والتجدد، فالحياة مستمرة كاستمرار الليل والنهار، والشعر كالحياة،يتجدد ويتغير،يخبو ويتألق .

القصيدة لن تتوقف عن التجديد،ولكن في أية لحظة نستطيع أن نطلق عليها الجديدة، أعتقد أن للحظة التي نصنف فيها القصيدة هي كالكاميرا . تتجمد فيها التسمية ولمجرد خروجنا من قبضة تلك اللحظة نسمي القصيدة التي تليها هي القصيدة الجديدة .

القصيدة تتعلق بمجريات الزمن والأحداث التي تجري في العالم والوجود الكوني بشكل عام .فالشاعر لا يحده العالم الملموس بل هو دائم التوق إلى عوالم أخرى غير مرئية .

لذلك في اعتقادي تجدد القصيدة مرتبط بالتغير في الوعي العام للشاعر، والقصيدة الجديدة هي إفراز طبيعي لهذا التغيير، والعولمة المعلوماتية تؤثر بشكل ايجابي وأحياناً تؤثر بشكل سلبي على النمط السائد للقصيدة . والترجمة هي البوابة الأولي التي تفتح آفاق التجديد في مصراعيه .

القصيدة الجديدة هي القصيدة اليومية واللحظية، نفتقد الآن للروحانية لأننا نعيش زمن المادة، ويحاول بعض الشعراء اصطياد اللحظة الروحانية واسترجاع ما تبقي من زمن قد لا يأتي .

إرهاصات

بينما يرى الشاعر عبد الله السبب أننا عندما نتحدث عن الكتابة الإبداعية الجديدة، فذلك يعني أننا نتحدث عن جيل إبداعي جديد، يعيش زمنه، ويتعامل مع معطيات واقعه بلغة غير اللغات التي تربت عليها أجيال سبقته وبأفكار مختلفة أيضاً يتعاطاها بمزاجية خاصة، وبرؤى تتطلع إلى البعيد بتقنية العلبة الإلكترونية التي تمكنه من السفر عبر فضاءات تصله بالآخر، غير المرئي من خلال زجاج وأسلاك .

هنا لا يمكننا الحكم على هذا الجيل من منظور نظري، من دون الأخذ بالاعتبار الإرهاصات والأحلام التي يعيشها، كما لا يمكننا فصله بشكل قاطع عن بيئته ومناخاته التي تربى عليها هو وأجيال ما قبله، منذ زمن آبائه وأجداده وإلى ما شاء الله . . بما يعني أنه يمكننا تأطير الكتابة الإبداعية الجديدة ضمن الأجناس الأدبية المختلفة: فالكتابات السردية مازالت في أغلبها تتغذى في موضوعاتها على بيئة السرد التقليدية مع الاستفادة من أدوات العصر، فيما تجنح الكتابة الشعرية والنثرية الجديدة إلى التحليق خارج سرب قبيلة الشعر القديمة أو تلك القصيدة التي تسبقها بأميال شعرية، سواء أكانت القصيدة الكلاسيكية أو التفعيلة، أو حتى قصيدة النثر التي تتطور وتدخل في أطوار عدة، لتصل إلى مستوى ما بعد الحداثة الشعرية .

وعلى ذلك، فإن الكتابة الإبداعية الجديدة التي تكتب الآن، هي كتابة تحذر النقد التقليدي منه والحديث من التعامل معها من برج عاجي، لا يمكنه الدفاع عن لاجئيه لعجزه وسوء نواياه .

ورأى الشاعر حسان عزت أن السؤال عن الكتابة الجديدة يحيلنا إلى الموقف والرؤيا، ليس على صعيد الكتابة فقط، وإنما على صعيد الحياة والوجود والتعبير عنهما، فكل كتابة سواء أكانت باللغة أو بأدوات تعبير أخرى كالرسم والصورة والموسيقا والرقص الجسدي، كلها أدوات لبشر يعبرون عن أنفسهم، وعن نظراتهم إلى وجودهم وما حوله بوساطتها .

الأساليب والطرائق والابتكارات في الكتابة وفي غيرها، وتكون لفنانين ومبدعين وأصحاب نظر، لا ينتظرون السير على دروب جاهزة، وإنما يخلقون ويبتكرون أساليب تنسجم مع رؤاهم ومواقعهم عن الوجود والحياة والمشكلات التي تواجه البشر .

عنترة وطرفة وعمرو بن كلثوم كل منهم عبر بأساليب عصره بالقصيدة الجاهلية، على اختلاف أنماطها وأشكالها ومناحيها، كل بطريقته ورؤاه وإيقاعات تنسجم مع روحه . وأبو نواس أيضاً عبر ولكن بطريقة تختلف عن الذين قبله، وعن مواقفهم من كل ما حولهم . فكسر قاعدة البكاء على الأطلال، وأيضاً المتنبي كتب قصيدة تنسجم مع التطور الذي وصل إليه عصره، على صعيد وسائل وأدوات التعبير . وعلى صعيد الطاقات الإبداعية التي اشتقها الشعراء ووصلت إلى عصره، لكن المتنبي شق وحده قصيدة لا تشبه ما قبله، ولا ما بعده، هي قصيدة المتنبي .

في الكتابة الجديدة بإمكاننا أن نقف عند أسماء كثيرة منها، كبول شاؤول وأنسي الحاج وسركون بولص إلى آخره، وهذه الكتابة تحتاج إلى إضاءات وقراءات ونقد يحلل ويؤكد علاقة شكلها بمضامينها والرؤى التي حملها كتابها، نحن إذاً أمام مفصلين: المفصل الجديد المتجدد والمفصل المستمر على الأشكال والرؤى السابقة، الذي يكرر نفسه، وهو ما لا يهمنا على صعيد الإبداع.

الخليج
01/01/201