إنه زمن الثورة والمشاريع والأحلام. زمن الحشود والجماعات التي لا يجد الفرد موطئ قَدَم إلاّ تحت رايتها واسمها وإطارها. زمن الإلتحام بين الشارع والنظام محمولين على بهاء الحلم السعيد نفسه. الزمن المنعطف الذي تغلي كل عناصره وحيواته في مرجل الثورة الكبير، على امتداد الساحة العربيّة لتعيد وحدة الهويّة الممزّقة، وعلى مستوى العالَم بأكمله، حيث الأمم المضطهدة يُوَحدُها حلم العدالة والتحرر ضدّ عدو بالغ الوضوح ومطلق الشرّ؛ تغلّفها نفس الرموز والطقوس والأناشيد المحتشدة في الحناجر والساحات العامّة والأزقّة المظلمة في الأماكن السريّة، أوكار الحالمين التي يُطْبَخ في عَتَمَتها أمل المستقبل القادم الذي لا يطاله الشك في الجوهر والتفاصيل.. الزمن الذي كانت فيه صور الزعماء الثوريين والشهداء ورموز التحرير من جمال عبد الناصر ولينين حتى لومومبا وهوشي منه وكاسترو وغسان كنفاني وجيفارا غزّة ذي العين المفقوءة في مصانع التعذيب. وجيفارا اللاتيني بسيجاره المتدلّي دائما كعلامة على القلق والتفكير، والذي كنّا نقلّده بشفط علب الكليوباترا، لأننا بالطبع لا نملك مثل ذلك السيجار الأنيق، الذي سيكون حَكْرَ البورجوازيّة الطفيليّة القادمة، والتي كانت تحبل بها الثورات والانقلابات على النمط القديم وأسوأ منه... كانت صور الزعماء والرموز الكُثْر تحتلّ مسرح النجوميّة بالكامل بحيث يتراجع إلى مؤخّرة المسرح نجومُ السينما والفنّ الذين لم يكونوا إلاّ قلّة تحظى بتقدير العوام ومن لم ينعم بقيم الثورة، إلاّ من أتى منهم دوراً وطنيّاً مشرّفا يرفع عنه وصمة الفنّ الهابط في ذلك الزمان الذي لم يشهدْ بعد هذا الانفجار الهائل لتكنولوجيا الإعلام فيفرّخ ويكرّس هذا الكمّ المخيف من التفاهة والإنحطاط.
كان أهل الفنّ مغلوبا على أمرهم أمام تلك العلامات والطواطم الشامخة، وسط هتاف الجماهير الواقعيّة والمتخيّلة عبر الصراط المستقيم للخطاب الثوريّ الصاخب نحو إنجاز الوعد المستقبليّ. كان الركب برمته يهتف من حنجرة واحدة بذلك الاسم الغيبيّ الملغز والغامض في حقيقته البعيدة، لكنه الأكيد الواضح أيمّا وضوح، في ذلك الخطاب وفي مخيّلات النّاس وأحلامهم.
هل كانت تلك الفترة نوعا من هدنة مريحة منحها التاريخ لأبنائه البائسين في واقعهم، نوعا من منام في الخطاب واللغة، ليستيقظوا بعده على كابوس مرهق هو الحقيقة الداخلية التي تمور بها أحشاء الوقائع والتاريخ؟
* * *
أراني في هذا المنحى أبدأ من مشارف النهاية وتخومها وكأنني أمام شريط سينمائي من ذلك النوع الذي تظهر فيه كلمة (النهاية) على الشاشة في بداية سرده الفاجع. النهاية أو النهايات التي ربّما تشرّع نحو الولادات والإنبعاث أو نحو الفناء والإمّحاء. إنه ليس شريط ثورة يوليو وأحداثها الإنقلابيّة الجسيمة فحسب، فلربما هو شريط التاريخ البشريّ وسيرته في السياق العام وسيرة الطبيعة وسنّتها. لكن الأحداث وولاداتها وتفجّراتها الأولى لابد أن تختلف من مكان وزمان ومن حدث إلى آخر. ومن هنا يأخذ تاريخ الجماعات والأفراد والآداب، تلك التمايزات والإختلافات التي تمنح الواقعة التاريخية والأدبيّة منطقها الخاصّ وذلك الألق في التفاصيل والخصائص، قِوَام كل أدب وكل تاريخ.
فما أريد قوله ليس مقالا فكريا وسياسيّاً حول ثورة يوليو وجمال عبد الناصر، وإنما هواجس لا تتعدّى الرؤية الشخصيّة البسيطة التي تتوسّل خيط رواية متاخمة على نحو طفوليّ (من الطفولة)، وطُلابيّ لذلك الحدث الجسيم في تاريخ الأمة.. أنا القادم من الطرف الأقصى للذاكرة العربية بطفولة وأحلام بدئيّة غائمة تجاه الأدب والثورة وجمال عبد الناصر على وجه الخصوص.
كانت أول صورة شاهدتها لزعيم سياسيّ هي صورة جمال عبد الناصر المعلّقة على جدار غرفة شبه معتمة ببيت جارنا في القرية، فلم يكن الوالد يسمح باقتناء وتعليق الصور البشريّة وغيرها من ذوات الأرواح لأسباب عقائدية ومذهبيّة. كانت صورة الزعيم كما أراها في ذلك العمر الموغل في الزمن ملونة على نحو كثيف، مما جنح بخيالي في أن تكون صورته الواقعية هكذا بالتمام والكمال من غير التلوين الفني الطارئ على الأصل ذي البشرة السمراء الفاتحة التي قُدت هيئتها من سلالة فرسان غابرين.
كانت الصورة المعلّقة بجوار صورة البراق المجنحة، تمارس سحرها وجاذبيّتها من غير حدود على الصغار والكبار. وبغياب التلفزيون الذي يحدّد أبعاد الصورة ويقزّم دور الخيال، يمكن للصورة الفوتوغرافية المشتبكة مع دويّ الخطاب الإذاعي لِـ(صوت العرب) أن تبسط هيمنتها وبطشها على الوجدان والمخيّلة وتجعل هذه تشطّ في فضاء أسطوريّ من البطولات وتنتقم لحاضرها المكسور.
وكانت أول ذكرى لكلام في السياسة ولاسمٍ سياسي، خارج الحروب والبطولات في تاريخ بلدي (عُمان) هو التصاق نثار كلام لا قِوام له، لكنه بالغ الإشراق في ذاكرتي، هو إصغائي لأحاديث القوم إثر هزيمة حزيران 76 وسطوع اسم جمال عبد الناصر في وعيي المبكّر. كان أهل تلك القرية الثاوية بين جبال تشبه جبال القمر وطبيعته الموحشة يتحدّثون كَمَنْ لا يتحدّث عن هزيمة أو انكسار. كانت المسألة بالنسبة لهم معركة مؤقتة ارتكبت فيها بعض الأطراف خيانات مباغتة في حقّ الزعيم عبد الناصر الذي سيردّ الهزيمة بهزائم ساحقة للعدوّ وسينظّف الأرض العربية منهم. كانوا يتحدّثون كمن يتأهب للقتال في اليوم التالي في جيش لا أوّل له ولا آخِر، وكان جَيَشَانُ العاطفة الصادقة والبحث عن المثال البطوليّ المُفْتَقَد، يذهب بهم إلى اعتبار عبد الناصر ومصر الأقوى في العالَم الراهن، لكنها القوة الخفيّة التي لا تظهر دفعة واحدة، والمعركة مازالت في بدايتها.
كانت تلك الأجواء الحماسيّة التي تخلط الواقع بالخرافة، حتى لا يبقى من الأول إلاّ ظلّه البعيد. ولا أخال القرى والدساكر العربيّة وحتى المُدن، إذ يَضِيقُ الفرقُ بينها عربيّاً على صعيد الوعي- هي الأخرى إلا على هذا المنوال وعلى شاكلته..
بعد ثلاثة أعوام على هذا المشهد المحتدم بالظلام والمتناقضات، قدمتُ إلى القاهرة التي غذّت أسطورتها في خيالي، أحلام يقظة ومنام لم يهدأ أَوَارُهَا إلاّ بهذا المجيء المبكر بالنسبة لي، لهدف واضح هو الدراسة، وهاجس خبيء هو الفضول والمعرفة. ولا أتصوّر أنّ هناك لَبْساً في التعارض بين المدرسة العربيّة والمعرفة.
كان العام الذي رحل فيه الزّعيم عن عالمنا، ليبقى ظل أسطورته يحتلّ الأفئدة من مكانه الآخر ويمارس سطوته. كانت القاهرة التي قدمتُ إليها ما زالت مفْعَمة بحضور غيابه الكبير وصورته.
كانت الجنازة التي حملتها الحشود على القلوب والأكتاف تطبع مصر والأرض العربيّة بطابع هذا الرحيل المفاجئ، الذي خلق الحيرة والشكّ في استمرار نهجه ومراميه. فثمة في الأفق القاتم لهذا الرحيل ما ينبئ بعكس ذلك. ثمة علامات شؤم تتناقلها الألسن والصحف والمنتديات.
كنتُ، وأنا أعبر ميدان التحرير، دائما أستعيد مشهد الجنازة الأسطوري. وأسطوريّة هذا المشهد الجنائزيّ ليس من باب الترميز والاستعارة بقدر ما هو تسجيليّ في واقعيّته. فالجماهير العربيّة من المحيط إلى الخليج، كانت تحمل النعش بقلوب مكلومة ودموع حرّى، وكأنما تحمل الأمل الأخير الذي احتضنته بعواطفها بعد طول شقاء وغياب. وطريق التحرير- منشيّة البكري حيث ينام الزعيم ليست إلاّ تلخيصاً مكثّفاً لما تموج وتحتدم به أرض العرب بأرجائها الفسيحة الثكلى بهذا الإختفاء الصاعق. كما كان جمال عبد الناصر، الرمز المكثف الذي انطوى في شخصيته الكاريزميّة، العالَم الأكبر، بالنسبة لها، الثورة والكبرياء، ونهضة العرب الحديثة على نمط الأبطال التراجيديين الذين شكّلوا مفاصل التاريخ الجديد لشعوبهم والعالم. لكن عبد الناصر كان بطلاً مأساويّاً أكثر مرارة وغصّة من أبطال المآسي الإغريقيّة وغيرها. فلم يَعُد المقاتل إلى داره بعد سلسلة المآسي والإقتلاعات، ولم يتحقّق شيءٌ على الأرض إلاّ قليله الذي تَلاشَى بسرعة أو كاد في خضمّ العواصف التي حطّمت السفن والأحلام قبل أن تبحر نحو البعيد.
* * *
إذا كان وعيُ الجماهير العربية المندفعة والفطريّة على ذلك النحو البريء الذي ظلّ وراء الزعيم والأحلام حتى في الهزائم والنكبات، من غير مساءلة ولا حتى مجرّد الشك في طبيعة المسيرة التاريخية ونتائجها، التي يَتَنَكبُها خطاب الزعيم بمظاهره المختلفة. أي ظلّ ذلك الوعي بمستواه الخرافي من غير أن تعكّر صفوَهُ شائبة، فإن وعي النخبة السياسيّة والثقافيّة والطلاّبيّة، أصابَه الكثيرُ من الشوائب والتصدّعات، باستثناء ما دُعِي بالخطّ الناصري، وحتى هذا الخطّ لم يقتفِ حرفية الخطاب السابق. صار منفتحاً على آفاق ومتغيّرات أخرى، وهو الانفتاح الذي بدأه عبد الناصر بالكثير من الحنكة والحسّ السياسيّ الرفيع. الهزيمة الحزيرانيّة كانت الصدمة التي مزّقت تماسك ذلك النصّ القومي وفككت أوصاله باتجاه تبنّي مسارات سياسيّة وفكريّة أخرى، في طليعتها الماركسيّة على غير النهج التقليدي للأحزاب الشيوعية، وكذلك تيار الإخوان المسلمين. هذان التياران اللذان حَاوَلاَ تقاسم ميراث العواطف الناصريّة واستقطابها بشكل متوازٍ ومتقاطع يصل حدّ الصدام والتصفية أحياناً وهو الأمر الذي استثمره الرئيس أنور السادات لِصالح استمرار تفرّد نهجه السياسيّ في السلطة.
كان مطلع السبعينيات، ومنذ عام جنازة الزعيم يموج بالتنظيمات والرؤى ذات المنحى الماركسيّ اللينينيّ في الحركات الطلابيّة العربيّة، ولا نغفل طبعاً، التروتسكيّين والماويّين، وهو النهج الذي تبنّتْهُ قيادة اليَمَن الجنوبية وامتداداتها السياسيّة آنذاك قبل أن تنتقل إلى ثكنات اليسار الكبرى في الإتحاد السوفييتي. التيار الماويّ، وكتب (ماو تسي تونغ) ذات الأغلفة الحمراء والموجهَة أصلاً إلى الفلاّحين والشغيلة في الصين، كانت هي الغالبة، خاصّة للطلبة المبتدئين من الخليج والجزيرة العربية قبل الإنتقال إلى كتب ذات طابع سجاليّ فلسفيّ بالمعنى التبسيطيّ الذي سوّقه قادَةُ الأحزاب الشيوعيّة، للفلسفة الماديّة التي ستقود البروليتاريا إلى انتصارها الحتمي مثل كتاب (الماديّة الجدليّة والماديّة التاريخيّة) و(الأدب والمجتمع الطبقي).
كانت تلك الكتيبات ذات الطابع التوجيهيّ في التلقين والحفظ، هي التي تهيمن على الحلقات والجلسات. ومن هديها يستمدّ الطلبة ضوء النظَر والسلوك في تحليل أوضاع بلدانهم الاجتماعية والثقافيّة. رغم أنها كُتِبَت حول أوضاع تفصلنا عنها فوارق فلكيّة في التركيبات الإجتماعية والإقتصادية. حتى لتبدو المسألة المطروحة في ضوئها محض دعابة لا مرجعيّة تحليل جديّ ورغبة تغيير، مثلها مثل تطور اليمن الجنوبي وكوبا وتقدمهما على سويسرا وفرنسا وفق معايير التمرحل الماركسي للتاريخ. لكنه الإيمان الطفوليّ لليسار الباحث عن مُثُل وشخصيّاتٍ وأفكار تحتذى وتقلّد أطرف تقليد وأقصاه... في تلك الأجواء المصحوبة بمراهقة جنسيّة صحراويّة كاسرة، لكنها مكبوتة تحت سقف السياسة وهوامّها. (الزّميلات)، مثلاً، يجب عدم إقامة أيّ اتصال جسديّ معهنّ، أو حتى غزل يخرج عن المبادئ الفكرية الثائرة، على جاري طهرانيّة ثوريّة تعويضيّة في حركات اليسار الجديد. طهرانيّة لم تختبر الحياة والأفكار بعد.
رغم هيمنة المناخ الماركسيّ ذي المنشأ القومي، لا أذكر، أن هناك من يجرؤ على التعرّض بسوء إلى الزّعيم الراحل، أو التشكيك في نزاهته. كان النقد يتناول دائما مجمل عناصر ثورة يوليو وبنياتها العسكريّة التي لا تؤهلها للقيام بأهداف الثورة الجذريّة، التي لابدّ أن تتحقّق في أفق الوعي الماركسيّ وأحضان رؤياه الشاملة والكليّة للمجتمع والتاريخ والأدب وطريقة الأكل والحلاقة.
]هناك حكاية تُرْوَى، كيف يُرتب «لينين« ذقنه وشاربيه في الصباح[
هذه الرؤية النقدية ذات النّزوع الماركسيّ الهلاميّ بمختلف تفرّعاته، هي بداهة سليلة الرؤى والمواقف السوفييتيّة منذ بداية حركة الضباط الأحرار وانعكاساتها على الحركة الشيوعيّة العربيّة والمصريّة منها. رغم أن حركة (حدتو) التي كانت تملك وجوداً في المجتمع العسكريّ والمدنيّ والتي تعاونت بشكل عميق مع حركة الضباط وجمال عبد الناصر، تعرّضت لانتقادات من قبل السوفييت وتجلياتهم الماركسيّة في العالَم العربيّ.
في هذا السياق يستتبّ سؤال الخيار الأيديولوجي والفكريّ الذي تبنّته حركة يوليو كنهج عملٍ ضمن الاتجاهات المتلاطمة في تلك المرحلة. هناك آخرون، دولا وحركات، حسموا هذا الخيار باتجاه الإشتراكية العلمية، ومثيلتها القومية والرأسمالية وما يشبهها.. إلخ. لكن إشكاليات التخلّف والتقهقر الحضاريّ ظلت عميقة في بنيات الحياة والمجتمع!!
جمال عبد الناصر وبعض زملائه خبروا في مطلع شبابهم وأحلامهم أكثر من خيار واتجاه، من حركة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنّا، والدخول في إطارها التنظيميّ لفترة قصيرة دفعت بعبد الناصر إلى التوجّس والريبة حتى القطع النهائيّ، حين اكتشف بحدسه العميق أن هذه الحركة تعمل على تحويلهم إلى أدوات لأهدافها في الاستيلاء على السلطة. حتى الحركة الشيوعيّة (حدتو) كما سبق، حركة التحرير الإشتراكيّة التي أعجب بها عبدالناصر وخالد محيي الدين وآخرون، كاتجاه فكري تحرّري، وأعجب بسكرتيرها العام (الرفيق بدر) تلك الشخصيّة الغامضة والمدهشة، حسب وصف محيي الدين لها. لكن هذا الإعجاب لم يبرح أن يتحوّل إلى نوع من الاحتقار حين عرف عبد الناصر، أنه عامل ميكانيكي (لم يكن يدرك أن المستقبل للميكانيكيين). لكن إعجابه بفؤاد كامل بقي وبقيت أواصره مع الحركة أواصر جذر ومصير حتى انتصار الثورة والانقضاض على رفاق الأمس والتنكيل بهم في السجون التي ورثتها الثورة من العهد السابق. وهي عادة أصبحت نمطيّة من فرط تكرارها في تاريخ ثورات العالَم بأكمله. حيث تندفع رغبة الجناح الواحد أو الفرد الواحد في الاستحواذ على السلطة الكليّة، ليس باتجاه افتراس حلفاء الأمس واستئصال شأفتهم، وإنما تجاه أبناء الحركة أو الثورة نفسها باسم الاتجاه الصحيح وتصويب الانحراف في المعسكر الذي أصبح خصماً، لا عدالة من غير فضحه وتدميره تدميراً لا هوادة فيه، مثله مثل العدوّ والعميل. وفي تاريخ هذه الحركات والإنقلابات يتفوّق تمزيق الرفاق لبعضهم، تدمير العدوّ الذي من أجل دحره قامت الثورة والحركة.
هذه الإشارات إلى وقائع حول الخيارات الأيديولوجية والفكرية وتماسّها العميق مع حركة الضبّاط الأحرار والثورة والنظام الذي قذف بتهمة العسكرتاريا ولم يأتِ من الشارع والزقاق والقاعدة العريضة للجماهير، تحاول طرح السؤال الذي كان مطروحاً كاتهام من قبل أوساط يساريّة ويمينيّة، إن صحّت هذه الثنائيّة في الحالة العربيّة، كون هذه الثورة أهملت هويّة الفكر الواحدة وتبنّتْ خليط أفكار من الشرق والغرب وأهملت الحسم النهائيّ الذي يكمن فيه الحلّ السحريّ الناجع لوجهة الطريق والمسيرة! وفق ما هو متداول في تلك الفترة.
لكن سؤال الشكّ نفسه حول جدوى مثل هذه الهويّة شبه اللاهوتيّة، وهل ستكون كفيلة بانجاز «المشروع« الحضاري الشامل، أم أنّ هذا المشروع المحلوم به يقع في مكان آخر عصيّاً وبالِغ التعقيد، عبر قراءة وتتبّع خطى الأحداث والوقائع والثورات في التاريخ البشريّ، ماضيه وحاضره. هذا الحاضر الذي بيّن بقسوة ما آلَت إليه تلك الخيارات المُتَبَناة بمختلف مَشَارِبِها ومصادرها وأهوائها، من قبل دول بعينها، في مَا دُعِيَ بالعالَم الثالث من حروب أهليّة وفقر وقمع لا حدود لسقفها المتطاول والساحق لحياة البشر والطبيعة.
في سياق الطبيعة العسكريّة لثورة يوليو والنظام الناصريّ يمكن التساؤل حول طرح هذه الطبيعة أو الصفة على إطلاقها مثل حركات وانقلابات عربية وعالَم ثالثية كانت تجتاح تلك المرحلة، حيث لا يتصِف أصحابها بأي تكوين وامتداد مدنيّ في المجتمع. ولا شأن لهم إلاّ بالجنديّة والرتب والقيم العسكرية التي تربّت وشبّت عليها تلك الجيوش التي من مهام وجودها قمعُ المجتمع المدنيّ وبوادر نشوء تشكيلاته؟، فقادة يوليو الأساسيون خارطة وعيهم تشكّلت، في حضن المجتمع المدنيّ والعسكريّ على السواء، معظمهم انضمّ إلى أحزاب وهيئات مدنيّة لمدة تطول وتقصر وتلقّى تكويناً مدنيّاً مرموقاً.
إنها ليست عسكريّة بالمعنى النموذجيّ. وحصر عسكريّتها على هذا النحو ربما كان متعجّلاً وأدّى إلى تصوّرات ساهمت في تأجيج الخلاف والصدام مع الفئات المشاركة الأخرى.
هل كان الخلل في مكان آخَر غير الطبيعة العسكريّة المزعومة التي لا يمكن أن تُواكِب وتنجز «مشروع« التحوّلات الكبرى في التاريخ الذي يُمارِس مكرَه ومراوغته أحياناً بعيداً عن إرادات البشر وأحلامهم؟
الثورات الشعبية التي لم تأتِ من ثكنات العسكر لم تَلْقَ مصيراً أفضل، والسنوات الأخيرة من القرن الفائت قدمت الدليل الدامغ بعد الآخَر في جهات وجغرافيات مختلفة، على الإجهاض والفشل الذريع والارتطام بالأفق المسدود!
* * *
ظل الزعيم حاضراً، وصورته الشخصيّة المشعّة بالألوان والنظرة المتفحّصة في تلك الغرفة شبه المعتمة، لم تَغِب ولمْ تَتَوَارَ، لكنّ خطابه السياسيّ والفكريّ أو معظمه بدأ في التواري والغياب، وإن بقيت ثوابت معيّنة حول أحلام العدالة والتحرير والإشتراكية متقاطعة مع تيارات واتجاهات مختلفة ضمن تصورات لم يعد الخطاب الناصريّ مرجعيّتها. تَوَارَى ذلك الخطاب الذي اجتهد فيه الزّعيم مع رفاقه ومن ثم مع مثقفين مصريين بارزين من أدبيات وتنظيمات الحركات الطلابيّة مصريّاً وعربياً. وباستثناء الشريحة الناصريّة وبداية تلاشي هذا الخطاب في المؤسسات الرسمية التي لم تنتظر طويلاً كي تُغير الدفّة والشراع نحو أفق آخَر، وصل ذروته في نحر الثورة لنفسها فيما عرف بالحركة التصحيحيّة 37 عبر الرئيس أنور السادات والتي وصَفَها أعداؤها بالثورة المضادّة التي جاءت لتستأصل كل ما بشّرتْ به وأنجزَتْهُ ثورة يوليو وعبد الناصر، طوّحت بكلّ تلك العناصر والتطلعات والوجوه إلى عالَم خارج الفعل والمشاركة في الحياة السياسيّة والمدنيّة والصحفيّة التي كانت مركزها ومدارها على مرّ السنوات الفائتة..
بدأت صور الزعيم المعلقة على الجدران والمؤسسات والأماكن العامة تتقلص تدريجيّا حتى أوشكت على الإختفاء، لكن ليس من قلوب الناس ومشاعرهم التي بقيت خبيئة ومطمورة في لهاث المعيش القاسي.
هل لو عاش عبدالناصر وكانت له فرصة البقاء حتى المرحلة الراهنة، هل ستبقى صورته على هذا النحو المثالي الحالم؟ أم أن صيرورة التاريخ والأحداث أكثر عناداً وعلى نقيض رغبات الأحلام والأفراد والجماعات؟
أمّا أدبيات اليسار ونشاطات أوساطه الطلابيّة والسياسيّة، فقد بدأت بنبرة هذا التغيّر والتحوّل بعد الكارثة الحزيرانيّة وأخذت مداها لاَحِقاً مع نزوعها الماركسيّ الذي ارتأت فيه الطريق الأمثل لمواجهة تراكم النكبات والانكسارات، وهو الطريق نفسه، بجانب طرق أخرى أبرزها تيار الإخوان المسلمين الذي طالبت بعض الأحزاب والمثقفين في مصر والعالَم العربيّ، عبد الناصر ويوليو في حسم الخيار الأيديولوجي وعدم التردّي في مهاوي اللاخيار الذي سيفضي إلى الفشل والإجهاض في نظرهم. وفي هذا السياق، وبحكم طبيعتهم الفكريّة، لم يطالِبوا بتوسيع الأطر المدنيّة والديموقراطية، والتي أخذ تعاظم الأجهزة وهيمنتها على كل أوجه الحياة في إلغائها وسط الإلتفاف الشعبيّ الواسع والمنقطع النظير حول عبد الناصر، الذي تستمدّ منه تلك الأجهزة شرعيتها وسلطتها، حتى في الأشياء الكثيرة التي لا يمكن أن يُقِرها بسبب وعيه العميق بالتاريخ وطبيعته الإنسانيّة.. لم يطالبوا بتعميق التعددية التي هي من مكاسب الحركة السياسيّة والثقافيّة قبل يوليو وتعميقها. فلم تكن المسألة الديموقراطيّة مطروحة بشكل أساسيّ في البناء المجتمعيّ والمؤسّسيّ، عدا الديموقراطية المركزيّة أو بمفهومها الإشتراكيّ ذي الطابع التجريديّ المحض.. ربما طَالَبَ بها مثقفون ليبراليون، لكنهم غير مؤثّرين بحكم تهميشهم وغربتهم في ذلك المناخ الذي كانت تطغى عليه الحشود والمواجهات الواقعيّة والمتوهّمة في الداخل والخارج. ففي مثل تلك الظروف الحالكة ليس من الأولوية طرح مسائل كالديموقراطية والتعدّدية في العالَم الثالث كَصَدى لتجارب الحكم في المعسكر الإشتراكيّ والإتحاد السوفييتي، فهذا الطرح لا يعني سوى تسلل الأعداء واستغلالهم للمناخ الديموقراطي لضرب المنجزات وتحطيم المستقبل القادم من غير شكّ، وضرب وحدة المجتمع المتماسك. ومن فرط مكر التاريخ ودهاء القَدَر أن هذه المسألة ومخاوفها وسياجاتها وأسوارها في اللبّ والصميم، هي التي حطّمت أعظم امبراطورية حديدية في العصور الحديثة. وربما ستحطم الأخرى التي تلتقي معها في العنفوان التوتاليتاري الخفيّ والمعلن، وإنْ عَبْر مسالك مختلفة.
بداهةً لم تكن الحركات الطلاّبيّة، التي كنا نعيش في غمار أفكارها واستيهاماتها، والتي تطرح نفسها عبر الطابع النقابيّ هروباً من التهَم السياسيّة المباشرة. وهي حركات من معظم البلدان العربية التي تتوزّعها والتي كانت القاهرة مركزها حتى انقلاب الأوضاع السياسيّة ورحيل المركز وتوزّعه بين بيروت والشام وبغداد. لم تكن إلاّ أسيرة هذا الجهاز الأيديولوجي ومفرداته وأوهامه حول الطابع الجذريّ للمفاهيم الثوريّة ورؤيا التقدّم والتغيير. والتي لم يكن عبد الناصر ويوليو إلاّ إجراء مرحلياً (لأنه لم يكن ثورة شعبية) للوصول إلى جنّة النظريّة التي تَتَعَالَى شآبيب الإيمان من سمائها الصافية. عكس ما كنّا نُردّده حول رماديّة النظرية واخضرار الحياة (ماركس) التي استعارها من (غوته) الذي لم نكن نعرفه في تلك الفترة. عكس «نيتشه« الذي كانت معرفتنا به عبر كتاب «الماديّة«، كممهد للنازيّة والملهم الفكري والنظري في إرادة القوة بالمعنى السطحي والعضلي، لادولف هتلر!
كانت الحياة والوقائع على الأرض هما الغائبان الأكبران. وكنا نغرق في مياه التجريد وخدر القراءات المبسّطة.
في الضياء الذي بدأ في التلاشي، وحين تنفضّ حلقة النقاش حول موضوع ما من تلك المواضيع المطروحة والتي تمتدّ وتتشعّب من «نظرية البؤرة« حتى المرأة في انجولا وجزر القمر وجبال ظفار والبحرين ويوّلي الزملاء الأكتاف مغمورين بغسق الغياب، كنت أفكر في عزلة كل منا وفي الظروف التي ستفضي إلى شتات الشمل وأراها قادمة من غير رحمة.. وفي الواقع أو كثير منه لم تكن تلك الحركات تمارس فروقاً جوهريّة، عكس ادّعائها عن ممارسة الأجهزة والحركات الناصريّة، عدا ادّعاء الإرتباط المصيريّ الملتبس بالنشيد الأممي والاتحاد السوفييتي وفلكه المهيمن، وهو ارتباط آليّ في تبعيّته النظريّة خاصّة بعد أن تحول الماويّون إلى الفلك نفسه. وهو ادعاء لم تُقِرهُ يوليو وعبد الناصر الذي كان يطمح إلى التعامل من مواقعه العربية الخاصة الذي أعاد لُحمتها بعد قرون من التشظي والضياع.. وحول خلاف شكليّ عن أولويّة المسألة القومية والصراع الطبقي..
تَوَارَى خطاب الزعيم من تلك الأدبيات الطلابيّة في الاسم والتفاصيل لتحل الأقنعة الماركسيّة. هذا الخطاب نفسه الذي لم يسعفه الزمن والقلاقل لبلوغ طور التحقق والنضوج في الواقع والنظريّة، وكان مشدوداً إلى ما هو على خلاف معه في الخطاب الإشتراكيّ العلميّ السائد على إيقاع ووتيرة الأحداث العاصفة، وفق نماذجه المتحقّقة والمطموح إليها على مستوى العالَم. وكان مشدوداً إلى مرجعيّات هي بالضرورة ذات طبيعة غربية في جانب الإنبعاث القوميّ لخطاب التنوير الأوروبيّ. وهي سِمَةٌ تَتَقَاسَمُهَا الأحزاب القومية والبعثيّة.
هل هي أُصُوليّة الخطاب اليساريّ وأوهامه، وإن تعددَتْ الأقنعة والتفاصيل التي تسوق قطيعها الحالم وسط كثافة دخان السجائر والزجاجات الفارغة ولغط الزملاء والرفاق والأماني، التي ربما يكمن جمال لحظاتها الغاربة في عدم تحققها؟
* * *
هل هي أصولية الخطاب العربيّ اليمينيّ واليساريّ على أرجاء مختلفة ومتناقضة؟ وهي الأصولية التي تحاول أدلجة وتعليب كلّ شيء تَطَالُهُ براثِنُهَا، حياةً وفكراً وأدباً. وكل ما لا يتّفق مع تصورها رؤيةً وسلوكاً، فهو بالضرورة محرومٌ من نعمة الحقيقة ورضا الشهادة، محكومٌ عليه بالمنفى والعزلة و«النخبوية« المذمومة ذات الأبراج العاجية البعيدة عن الجماهير والشارع والأوحال والهموم. فحين تذهب الكتابة إلى طَرْقِ إشكاليّات ذات طبيعة معرفية صعبة خارج المتداول والمكرّر للطرح والسّجال، تُوصَمُ بالتفلسف المجّاني المتبرجز. وحين يذهب الشعر والأدب إلى محاولة ارتياد مناطق مفتوحة على الاحتمالات الجماليّة والتجريب واللعب الحرّ للمخيّلة، يُوصَف بالنأي عن «الأدب الهادف« وبأنه أدب مترف وعديم الفائدة.
هكذا كانت ثيمة المواجهات بيننا، نحن من نحاول أدباً وفناً والزملاء الذين لا يرون فيه إلاّ انعكاساً مبسّطاً للتصور السياسيّ وامتداداً له..
إنها الصفات التقليديّة التي يبثّها أي جهاز أيديولوجيّ عبر التاريخ. تتنوّع الأوصاف والتخريجات، لكنها جوهرياً تظلّ مشدودةً إلى طبيعة واحدة، إلغاء القيم الجماليّة والروحيّة، إن لم تكن مطيّة تجرّ أسمالَها وراء الدعاية والتحريض دولاً وجماعات معارضة.
تتعارض تلك الجماعات وتصل حدّ التحارُب والإفناء المتبادَل، لكن النظرة تجاه الأدب والثقافة بما فيها الثقافة الدينيّة نفسها، هكذا لا تختلف نظرة الأجهزة المتقاتلة من (غوبلر) حتى (غدانوف) و(مكارثي) ومن حسن البنّا حتى شعراوي جمعة وخالد بكداش، من قمة الهرم حتى أسفله وأدناه، يُخْتَزَل جوهر الكائن وماهياته الكيانية والروحيّة العميقة فنّا وديناً وثقافةً إلى بعد دعائي من أبعاد السلطة القائمة أو تلك التي يطمح إليها المعارضون. إنها (أي السلطة) ضالّة الجميع وهدف الفرقاء والمتحاربين بكل الوسائل القذرة لهذه الغاية القصوى والنهائيّة، حتى لو تحوّل المجتمع إلى حطام وجثة هامدة..
الحركات الطلابيّة كانت أكثر تشدداً يصل حدّ الإنضباط العسكريّ بحكم قصور التجربة والوعي، من مرجعياتها الحزبية والسياسيّة تجاه المحاولات الأدبيّة والفنيّة لعناصر من الأوساط نفسها، وأكثر تطرّفاً في الفرز والإقصاء. مثالها الأدبيّ والفنّي كان لا يتجاوز عربيّاً، أحمد فؤاد نجم ومظفر النوّاب والشيخ إمام ومحمود درويش في قصائده الأولى وشعر المقاومة وكرامة مرسال ومن ثمّ مارسيل خليفة وفيروز بصورة تحمل على التأويل القَسْريّ واستخلاص الدلالات الثورية من أغانيها! ومن على شاكلة هذا المثال ونمطه «الثوريّ« عربيّاً وعالمياً، والذي يختلط في حومته الحابل بالنابل والحقيقي والزّائف السطحيّ وهو الأغلب. ولا يجب الخروج على هذه المعايير والفروض «البروكستية« فهي إِرْث الشعوب ومستقبلها.
جيل الفنّانين من السيدة أم كلثوم حتى عبد الحليم وعبد الوهّاب.. إلخ، لا مكان لهم في أوساطنا، إلاّ من جرفه الحنين والعاطفة. فصار يسمعهم سِرّاً وسرقة. وإدانة السيدة أم كلثوم كونها سبباً من أسباب الكارثة الحزيرانيّة، يجري مجرى التندّر والطرافة، لكنه في الواقع عين ومؤشّر من مؤشرات مستوى الوعي النافذ في تلك الفترة وما زال يسري في أوصالٍ كثيرة. ويذهب الشطط برفض هؤلاء المطربين حتّى في أغانيهم الوطنيّة الثائرة. فهم لم يُعَمدوا بعماد «النظرية« الحقّة، وبانتظار ذلك، فلا أحد يسمعهم حتّى ماتوا من غير أن يتراءى لهم سطوع الحقيقة.
* * *
من الفطرة والخرافة و«وعي« البراءة الأولى لأهالي القرية حتّى الوسط الطلاّبي ذي البراءة المختلفة المُدعية والمتعالِمَة. ومنه إلى بدايات الوسط الثقافي الذي شهد إرهاصاته في الوسط الطلاّبي. في القاهرة المزدانة دائماً بأهلها ونيلها ومقابر عصورها المختلفة والمزدانة بالأصدقاء والطفولات والذكريات التي لا تمحي، يمضي خبط مسار الوعي المتقلّب في وضوحه وعَتَمَتِه. من الفطرة والتبسيط حتى الوعي الأدبيّ النازع نحو المخيّلة وشيء من التركيب والتعقيد.
كانت كلمات- مصطلحات، مثل «الإلتزام« و«المثقّف العضويّ« بعد «الواقعيّة الإشتراكيّة« تتهادى بأطيافها وطقوسِهَا الاحتفالية المناضِلَة، بين الطلبة أصحاب النزعة التنظيريّة والزعاميّة، الذين انتهى المطاف ببعضهم في البلاد الخليجيّة وغيرها، إلى سفراء ووزراء ومسؤولين، كانت غائمة في أذهاننا وبعيدة، لكن تطبيقَهَا القاطع يجري على كلّ شيء يلهج باسم الثورة والتمرّد في الأدب والفنّ مهما كان إسفافه وركاكته وانعدام موهبته.
كان «المثقف العضويّ« كلمة السرّ ومستودع الحكمة، ليس في أوساط الطلبة بتواضع المعايير والتوصيف، بل في أوساط المثقفين وفعالياتهم وندواتهم. كانت تلك الصيغة «الغرامشية« نسبة إلى «أنطونيو غرامشي« تحتلّ واجهة وعي السبعينيات في إضاءة وحلّ إشكالية المثقف مع السلطة والمجتمع، بعد أن تراجع، على نحوٍ مَا مفهوم «الإلتزام«، تلك المقولة ذات الظلال الماركسيّة في مناطق تفكير الفيلسوف الوجوديّ الشهير.
تلك الإشكالية، المعضلة التي تشعّبت وتعقّدت أكثر، بعد ثورة يوليو، ودخلت في دهاليز وحقول من السجال السياسيّ «الفكري«، بحيث إن استشارة «غرامشي« حول عضويّة مثّقفه لم تعد كافية، فدخل السّجال إلى مناطق محرّمة وسوء فهم شديد، أدّى إلى ذلك الصدام المعروف بخلفياته وصلاته الحزبيّة والتنظيميّة، حتى إبرام العقد بين الطرفين الذي خرج بموجبه المثقفون من السجون ليكونوا فاعِلِين ومسؤولين في أجهزة الدولة.
المرحلة الجديدة، مرحلة الستّينيات انطوت على إنجازات أدبيّة وإبداعيّة كانت علامة في الحياة الثقافية المصريّة والعربيّة، أثمرت تعاوناً خلاّقاً بين الطّرفين.
«لقد عامت الطبقات في هذه اللحظة على سطح التاريخ« كما عبّر «غرامشي« تلك الطبقات الغائمة أصلاً في مجتمعات سديميّة التركيب والتطوّر. وصار المثقفون على رأس مؤسّسات الثقافة وغيرها، مُشارِكينَ حتّى في القرار السياسيّ. فكانت فترة الستينيات، بهذا المعنى، شبه مثاليّة في ذلك السيّاق الصداميّ العنيف. فيها ربما أحسّ المثقف بنوع من الهدنة وراحة الحياة والضمير الممزق بين «مبادئ« تشده إلى عرينها، ودولة وطنية قومية لأول مرة، كان يحلم بأن يكون جزءًا من نسيجها وأهدافها.
هذا النوع من التوافق التاريخي، إن لم أقل الانسجام، لأن المثقف الحقيقيّ لا يمكنه التخلّي عن طاقته النقديّة، تجاه الوجود بأكمله، مَهْمَا كانت الشروط المحيطة، يدفع بمثقف ليبيراليّ (سعد الدين إبراهيم) إلى إقرار ضرورته الحتميّة في أيّ مشروع نهضة حقيقيّة في التاريخ. وأمثلته على ذلك اليابان، التي قامت نهضتها الحديثة على التعاون الكامل بين النخبة المثقفة والنخبة الحاكمة. وبريطانيا عبر الجمعيّة الفَابِيّة التي استطاعت أن تحدث من التغيير ما يحتاج إلى ثورة دمويّة هائلة، وكذلك نهضة أمريكا في تعاون وتحالف بين رجال الفكر ورجال السياسة، حسب تعبير سعد الدين.
كل هذا أثبت التاريخ والوقائع صحته من غير مبالغة. ولا يتطرق سعد الدين إلى أي مثال من التاريخ العربيّ الذي يرى أنه غير جدير بذلك، قديمه، مثل الدولة العباسيّة، وذروة ازدهارها الكونيّ، ودور ذلك التوافق الخلاّق بين نخبة العلماء والفلاسفة والنخبة الحاكمة. وعلى نحو آخَر، كانت بداية جيدة لو استمرت وتعمّقت أفقا وتعدّدية، مرحلة الستينيات المصرية، التي لا يرى فيها بعض المثقفين إلاّ استمراراً للتوتّر والقمع من غير أي منحى إيجابيّ.
* * *
المرحلة الناصريّة كانت مشروع أمل وحلم لم يكتمل، وربما أجهض قبل بدايته الحقيقيّة حول طموحات النهضة الحديثة التي لا تمتّ بصلة مُقَارَنَةٍ مع ما دُعِيَ بنهضة محمد عليّ، ذلك المُغَامِر الألبانيّ ذو النزعة الإمبراطوريّة الشخصيّة، أكثر من أيّ مشروع آخَر. ولم يكن ذلك الأميّ الطموح، الذي تعلّم الكتابة في الأربعينيات من عمره، صانع تلك الحلقة الهامة في التاريخ المصري، بقدر ما كانت النخَب المصريّة ومسار تطوّرها؛ لكنّه (أي المشروع الناصريّ) ترك آثارا عميقة على الأرض المصريّة والعربية، وعلى مستوى العالَم، فلأول مرة يتبلور البعد القوميّ في كافة مستويات وشرائح المجتمعات العربية، وهناك الكثيرُ من الإنجازات والأطروحات العظيمة بمنطق التاريخ، ليس هذا مجالُهَا، التي ساهمت في صياغة العالَم الجديد (مثل حركة عدم الانحياز)، حتى ولو أتى عليها الزمن بمعول الهدم والتدمير، تظلّ جزءًا مضيئاً في الذاكرة العربية.
تحية لجمال عبد الناصر الذي قاد هذا المشروع من غير سفك دماء ولا مجازر، عودَتنا عليها الثورات والانقلابات. كانت عينه على التغيير والنهضة وليس على الانتقام والتمثيل بمن كان على سدّة الحكم.
خمسون عاماً ونيف انصرمت بتحوّلاتها السياسيّة والفكرية والعلمية الكبرى التي تختزل في مسارها الصاعق آلاف السنين الضوئيّة.
هل يحقّ لنا التساؤل حول ما آلت إليه أمورُ العَرَب في العلم والحضارة والمعرفة؟ وما هي مكانتهم في هذا العصر الأكثر قلقاً واضطراباً وعلماً.
تلك المكانة التي تبيّن خرابها الأقصى وفسادها المتراكم في التعامل مع المنعطفات المصيريّة كالقضيّة الفلسطينية في اللحظة الراهنة التي يدفع بها الأعداء إلى الإفناء والإبادة لولا المقاومة الفريدة في التاريخ البشري بكامله لشعبها ورغبة البقاء والحياة بعيداً عن الإخضاع والعبودية المطلوبين. وقبلها وبعدها (القضية) حول قضايا التنميّة والأفق الحضاري المنتظر الذي آل إلى إرث هائل من الإحباط والهزائم بمختلف مستوياتها وسوء الحال الذي يتداعى يوماً بعد آخر..
وبعد هذه الانهيارات في الدول والأفكار والمبادئ الأخلاقيّة بالمعنى الإنسانيّ العام؟ وهل ما زال وعي الناس في القرى والمدن العربيّة على حالته الخرافيّة البدائيّة، وإن جفّت ينابيع عواطفه النبيلة وجَرَفَهَا الطاعون؟
* * *
لقد تحطّمت السفن قبل أن تبحر إلى البعيد. وَحْدَهُ الزعيم أبحر في مشهده الجنائزيّ العاصف. ربما تَذَكر، وهو يَعْبُر في موكبه من ميدان التحرير إلى منشية البكري، ويعبُرُ الأرض العربيّة قاطبةً، أنه قرأ في طفولته اسطورة الإله الفرعوني (رَعْ) الذي أوجد العالَم من بصاق ودموع... ونام إغفاءته الأخيرة.