سيف الرحبي
(عمان)

(حول الكائن المغترب والتسويات الممكنة)

سيف الرحبييمكن القول بداية أن الكائن المنفي أو المغترب فى برهتنا الراهنة ليس ذاك المقذوف خارج منطقة مكانية بعينها تسمى : وطن، وإنما ذاك الذى أضاع مكانه جذرياُ* فى هذا العالم ، وبدأ رحلة التيه الحقيقية التى لا أمل فى العودة منها .

انطلاقاً من هذا الشعور الحدى لهذه اللحظة المحتدمة بالهواجس لكائن وجد نفسه خارج العالم، خارج لعبة الإجتماع والتاريخ التى تبعثرت ، لحظة هذا الكشف الآليم ، شظاياها وخيوطها المحبوكة جيداً ، فى صميم روحه وكيانه وحولته إلى كائن القلق والبحث والترحل بأبعاده الرمزية والواقعية ..
ثنائية الوطن- المنفى المتداولة حد الإستهلاك ، لم تعد تضئء شيئاً ذاقيمةفى هذه الرحلة الليلية المحتشدة بالهوام والأسئلة .لم تعد تعنى شيئا الإ ربما للدارس النفسى والإجتماعى وفق مناهجه المحددة سلفا . وحتى عبر هذا السياق انقلبت معايير المنفى والوطن وتصدعت حيث تبادلا الادوار فى عملية انقلاب ناعمة مخادعة ، وفق الشروط السياسية والاجتماعية والتعبيرية فى أ كثر من بلد ومكان . وحيث أصبح الوطن هو مادعى بالمنفى وكذلك العكس .

عملية الانقلاب هذه تستدعى بالضرورة ، اشكاليات متعددة ليس على صعيد الحياة اليومية والمدنية التى أصبح منفى كالمنفى الأوربى يلبى احتياجتها ومتطلباتها أكثر من الأوطان المنكوبة بكافة أنواع التسلط والحروب والإنهيار .
إشكاليات الكائن المنفي الذى يتاعطى الكتابة والتأمل والتفكير ، ذاك الذى ندعوه شاعراً ومثقفاً.. مثل كيفية اشتغال المخيلة ، الذاكرة والحنين .. إلى آى مدى تبحر سفنه حيث لا نجم يٌهتدى به . بحر مضطرب وظلام عميق . ؟

هل مازالت الأمكنة الأولى ، أمكنة الطفولة دوافع جذب وحنين .؟ هل مازال ذلك النبع الذى تنهل منه مخيلة الكتابة ، بؤرة الأماكن فى تشظيها وتعددها ،مرجع الذاكرة فى رحلتها الشاقة بين المدن الغريبة والناس الغرباء . أم كغت عن أن تكون كذلك وأحكم التيه والإنخلاع قبضته الازليه .؟

***

لنفترض أن هذا الكائن الباحث فى غابة الكلمات ، عن موطئ قدم ليحط فيها رحال الشاهد والمتذكر ، بدأ رحلة الانفصال عن المكان الولادي ، مكان الخطوة الأولى، مطلع السبعينيات من القرن المنصرم ، أحس فى البدء مايحسه الأخرون من لوعة الفراق للوجوه والأماكن المألوفة الذى أستمر فترة من الزمن . و بالاندماج فى حياة البلاد الجديدة بدأ نازع الحنين والتذكر فى الخفوت، لكن ليس الانطفاء حيث استمرت جمرة الذكرى فى التوهج .، وحتى حين أمعن مشهد الترحل يشتئ الأصقاع والأماكن ظلت هذه الجمرة توصل الحياة السابقة لمرابع الطفولة بالحيوات اللاحقة وتلحم الزمن الأول بالأزمنة المتقادمة التى أخذت فى التكاثف والمباغته حتى أصبحت على ذلك النحو السريع الصاعق .
يعود المترحل بعد طول بعاد ونأى ، إلى تلك الأماكن التى حلم بالعودة إليها وروادته بكثافة الحلم واليقظة ، ليجد أن الوقائع تشيد بنيانها بمعزل عن الأحلام ونوازع الحنين ..
يعاود الرحيل والعودة مرة ومرات وبوتيرة سيزيفية ، ليكتشف كل مرة ما لم يعد بحاجة إلى اكتشاف : خرائب الروح وخرائب طفولة الكائن والمكان . يقف ناعقا بهجاء قاس وانتباه أقسى إلى هذه الصيرورة الفاجعة المنذور لها بقدرية عمياء صارمة ، حين لامكان للتسوية ولا خيط شمس يتسلل من تلك البيوتات الطنية العتيقة ، حيث كانت تقطن العائلة فى الأزمنة التى بدت له نائية أيما نأى وسحيقة

***

يمتزج البعد الوجودي الأنطولوجي للمنفى بأبعاد اجتماعية وسياسية ، وهذه الأخيرة تلهب الأولى وتدفع بها إلى حافة أكثر خطورة ومكابدة . تتضاعف المعاناة وتزدوج فالإنسان أو الشاعر الذى دفعت به خياراته فى ظروف محددة ودفعت به الصدفة إلى أن يكون ملاحقاً من قبل دولة وأجهزة لاريب يعيش حالة حياة خاصة ، تختلط فى رأسه الوقائع والأوهام على نحو كابوسى يوصل ليله بنهاره ويطوح به إلى حافة الجنون والموت ، خاصة وأن هذا الكائن ، الذى نحن بصدد الإشارة إليه، فرداً يعى فرديته وأفقها بعيداً عن الأنضواء القطيعى تحت لواء الجماعة بأسمائها المختلفة .

بطبيعة الحال هؤلاء الأفراد غالبا مايكونون من أهل الأدب والفن ، حيث تتوتر المسافة بينهم وبين الجماعة التى تحمل لواء المعارضة اللاهجة باليقين، المبشرة بالنصر الحاسم القريب. تتوتر المسافة وتتسع كما توترت وأتسعت من قبل مع تلك الأوطان الأفتراضية المحمولة على لغة الشعارات وغنائية الحنين المبسط . ويجد الفرد ذاته مقتلعاً من جديد ومرميا فى مهب الجهات العاصف . يسارع إلى لملمة أشلائه ومحاولة التخفيف من فداحة الخسارة بمعناها الجذرى. أنه يقف وحيدا فى مرآة مدماة مشروخة ، هشاً وضعيفاً أمام بطش الوجود متعدد الوجوه والمصادر والأهداف هو الأشبه بالكائن التجريدى من غير أهداف واضحة و الذى ولد من صفحات كتاب قرأه ذات مرة وبقيت صورته الوحيدة فى رأسه تميمة يلوذ بها من فتك التلاشى والخراب . تتسارع حلقات المنفى إلى الاستواء والنضج ، ليجد نفسه مرة أخرى ليس على مشارف الربع الخالى ،تلك الصحارى الجبلية الرملية التى ولد فى أتونها، وإنما فى القلب منه واقعا وأفكارا ، مسار حياة ورمزا .

ينكسر المنفى الصلب بصفاته وأهدافه المحددة ويوغل المغترب المنفي في تيه الصحراء ، باحثا فى ضوء هذا الانكسار عن سبل جديدة يستطيع مواصلة ماتبقى من حياته ، ربما يجد بعضها فى الكتابة والكتب/ فى المرأة والتحديق جيدا فى المغيب المحتدم بالأشباح الجميلة كل مساء

***

ربما تذكر المنفي وهو فى غمرة هذا الصراع المرير مع شرطه الوجودى والتاريخى ، فى عهوده البعيدة حين كان يجلس على المشارف المطلة على الصحراء العاتية ، المكللة بغناء الروح ، وسط العوز والفقر- تذكر القوافل المترحلة بين التخوم والأودية والشعاب ميمة شطر جهة مجهولة بالنسبة إلى الطفل الذى كانه فى ذلك الزمان .
تذكر وراودته فى اللحظة لمحة وجيزة من العْود النيتشوى ، تلك الدائرة الجهنمية لرحى العذاب البشرى كما يود تأويلها حيث العدم يطبق قبضته على الكائن كما تطبق عواصف الربع الخالى قبضتها على القوافل المترحلة ببشرها وحيواناتها . العوْد الأبدى بهذا المعنى إمعاناً وتعميقاً لمأساة الوجود وليس ضوءاً فى أخر النفق أو مخرجاً لدوائر الوجود المغلقة .
وتذكر كائن المنفى أيضا مرآى الطائرة لأول مرة . لكن ما أثار مخيلته أكثر وأشعلها مرآى القطارات التى لم يشاهدها من قبل حتى فى السينما والتليفزيون اللذين لم يكونا موجودين ائنذاك .
فى بداية السبعينيات حين نزل القاهرة ليلاً وذهب ليسكن فى حى الدقى المتاخم لحى بولاق الدكرور ، سمع صفيرا يشبه النحيب حسبه فى أول الأمر صفير بواخر راسية فى عرض البحر لكن حين انجلى ليل القاهرة عن بدايات الصباح ذهب إلى مصدر صوت الصفير ليشاهد تلك القوافل االحديدية العابرة السكك والقضبان . وحين عرف أن هذا المارد الخرافى اسمه (قطار) ذهب ليفتش عن أصل كلمة قطار . فوجد أن العرب كانت تسمى الناقة الطليعية فى القافلة ( القاطرة )
لاحقا ينفجر مشهد القطارات على مصراعيه واقعاً وكتابة

***

حين يصل الإنسان الذى دعوناه فى هذه العجالة بالكائن المغترب والمنفى والمترحل . أسماء متعددة لوجه وأحد يتعدد حين يرنو فى مرآة ذاته ؛ حين يصل إلى هذا الشرط المتفجر لوجوده يدخل حالات هذيانية شتى .. كأن تتلبسه الضغينة على محيطه كما تتلبس المؤرق الذى جافاه النوم فى الليالى الموحشة , تجاه طمأنينة النيام وهدوئهم . تراوده هواجس عدائية تصل إلى حدود تخيل مجزرة بكامل ضحاياها ، لكنها تظل مجزرة فى المخيلة و اللغة ولا تتجاوزهما. فهو من فرط العواطف وربما اليأس لايستطيع أن يؤذى حتى بعوضة كما يقول المثل الدارج . وليس بقادر إلا على تدمير ذاته بالتحديق والتأمل فى المشهد الدموى المحيط الذى يتناسل وحشية وانحطاطا لامثيل لهما.
عليه أن يتدبر تسويات أخرى أكثر انسجاما ونبلا مع محيطه وذاته الممزقة .

***

يصل المترحل إلى نوع من الوضوح الكاسر ، ذاك الذى يحمل شفافية اليأس وقوة انكسار الأمل : لم يعد للتجوال فى خرائط الجغرافيا حلم كشف وإشراق لا للرحيل ولا للعودة لا للوطن ولا للمنفى . تهشمت فى مخيلته ووجدانه هذه الثنائيات لتحل محلها خارطة متناقضات داخلية متموجة بجمال وقسوة خاصين . هذه الخارطة ، بستان الداخل ، هى التى يحاول تعهدها بالسقى والرعاية عبر خيارات جمالية يرتأيها.
فى هذه الحالة تتحول خرائط الخارج بسراباتها وحقائقها إن وجدت ، إلى امتداد أرومة جمالية ، لبستان الداخل بسراباته وحقائقه التى ربما تتجلى ولو كأشراقات عابرة كنوع من تسوية ممكنة مع وجود صعب وعمر هارب .

***

ما أشرت إليه من هواجس ومشاهد تشكل ثيمة الكتابة ولبها ، واحتها المضطربة التى تنزع دائما إلى الاتساع والأمتداد لتستطيع لم شمل هذا الكائن أو الكائنات المتشظية المصدوعة بالموت والغياب .
هذا النزوع أو الطموح لبناء وطن مواز عبر الكتابة يتحمل كل هذه الأعباء من الفجائع والمهازل ، لا محالة له من توسيع رقعة الكتابة ومفهومها من الدخول فى حقول التجريب والخروج على ماهو متفق عليه وسائد . التجريب والخروج فى هذه الحالة ضرورة وليس ترفاً أو نزقا عابرا ، شرط وجود و إبداع . انفجار الأحشاء بعنف الداخل والخارج فى الصورة والعبارة لتستحيل الكتابة إلى منازلة مفتوحة مع العالم . تحاول الذات الكاتبة فى هذه المواجهة أن تتلبس أقنعة شتى وتحشد أسلحتها وحيواتها المختلفة : أزمنة بدائية تسطع على صفحة المسودة الأولى للخلق . حيوانات وجوارح أحلام وذكريات الأمس الموصولة بأحلام البشر الأوائل . وقائع صغيرة وكبيرة تتوحد فى مركب المخيلة المندفعة من الحسى إلى التجريدى و المرئى المباشر إلى الغيب
المتعالى .
فى وهم هذا الوطن الموازى أو البديل أو أى اسم أخر، الذى يسمى الكتابة، تحلم الذات الكاتبة أن تلامس قبس وحدة وجود مبعثرة فى الأصقاع ، وأن تنقذ ما أمكن وسط جلبة الإعصار والهشيم .

هامش

لاتتعرض هذه الورقة/الشهادة إلى حقل المفاهيم الشاسع للمنفي والغربة والإغتراب والانفصال.....إلخ إلخ تلك التى بحثها فلاسفة وأدباء بشكل تفصيلى ومكثف إلا بقدر مايتصادى مع دفق الشعور نظراً وتجربة فى هذه المسالة
التى هى من السمات الأكثر جوهرية فى عصرنا بمختلف جهاته وعوالمة المؤتلفة والمتناقضة حد الصدام والحروب الكاسرة.

عن كيكا


إقرأ أيضاً:-