(جنى الحسن، محمد الحجيري، أحمد محسن وحسان الزين.. هل انتهت رواية الحرب؟)
عباس بيضون
بعد ندوة الشعراء الشبان، ندوة أخرى مع أربعة روائيين جدد، يتحدثون فيها عن هواجسهم الكتابية، وعن علاقة كتابتهم بالحرب وانفصالها عنها. محاولة من «السفير» في تقديم بعض الأصوات الجديدة عبر استضافتهم لتنقل عبر ذلك، أسئلة الكتابة لديهم. المشاركون في هذه الندوة الروائية: جنى الحسن ومحمد الحجيري وأحمد محسن والزميل حسان الزين.
عباس بيضون: تبدو رواية الجيل الذي سبقكم، رواية ذات موضوع أساسي، الحرب. إلى أي درجة لا زالت تعنيكم رواية الحرب؟ هل انتهت؟ سؤال أساسي يتفرع منه سؤال آخر: ما علاقتكم بهذا الجيل السابق سواء جيل اللبنانيين أم غير اللبنانيين؟ هل تعتقدون أن الرواية العربية قد راكمت بما يكفي لتخرج منها أجيال مختلفة أم ما زلنا حين نريد أن نكتب نقرأ أشياء غربية وننطلق منها؟
جنى الحسن: في روايتي الأولى لم أكتب الحرب، ولا حتى كانت تعني لي، وحتى داخل وعيي كنت أرى الحرب اللبنانية حرباً عبثية لأنني لم أنظر إليها بمنظور الأشخاص الذين عاشوها. في ذاكرة جيلي، أظن ذلك، هناك أجزاء مرتبطة بالحرب أو بعض «الخبريات» الصغيرة المرتبطة بالأشياء التي مرّ بها أهلنا. لكننا لم نعايشها واقعياً. أما في روايتي الثانية، فكان لدي سؤال الحرب ولذلك كانت الفترة التي أتحدث عنها في هذه الرواية الثانية تمتد من عام 1982 إلى عام 2000. والسؤال الأساسي الذي طرحته: هل فعلا انتهت الحرب؟ كما اننا نحن هذا الجيل الذي لا يريد أن يكون امتداداً لهذه الحرب، لا يجد نفسه سوى جيل عالق في هذه الحرب عبر تفرعاتها المختلفة. من هنا أجد أنه من الصعب على جيلنا نحن أن يبني مستقبله بعيداً عن الخلافات الماضية وبعيداً عن تأثيراتها. أضف إلى ذلك، حتى أنه لو قرر أن يتناسى الحرب فهو لن يتمكن من ذلك. في أي حال، أنا شخص ليس لديه الحنين إلى الماضي. من هنا ربما أنظر إلى الحرب على شكل محاسبة للأطراف التي قامت بها وإعادة تقييم وطرح سؤال: لِمَ لم تنته هذه الحقبة فعلياً.
حاولت أن أرى إلى الحرب من منظور أنها حرب عبثية وحتى امتداداتها التي تحدث حولنا أنظر إليها من هذا المفهوم، حتى في تحولاتها فهي تشبه قليلا التجربة اللبنانية على الرغم من اختلافات بعض زواياها.
محمد الحجيري: روايتي مبدئياً هي عن تداعيات الحرب، لكن فعلياً حين بدأت بها كنت أرغب في كتابة نص عن بيروت وعن حياتي في قلب هذه المدينة. لكن سياق الكتابة أخذني لأن أكتب شيئاً عن الحرب بدون أن أتقصد ذلك. ولا علاقة لذلك بالروايات التي قرأتها عن الحرب إذ لم أتأثر بها، بل تأثرت بالأشخاص الذين عشت معهم بعد الحرب والذين كانوا يروون سيرة الحرب وكأنهم كانوا يرغبون في أن لا تنتهي هذه الحرب. لقد كتبت في النهاية، تجربة والدي التي عاشها والتي لم يكن له أي علاقة بها. خلال كتابتي للرواية حدث ما عرف باسم 7 أيار، وقد زادت وتيرة الكتابة عن الحرب في هذا السياق، إذ كنت أرى خلالها المفارقات والروايات والأشخاص الذين عاشوها وضحاياها وأخبار أقربائي الذين عاشوها. من هنا أستطيع أن أعتبر انها رواية الحرب ما بعد التسعينيات أي ليس لها علاقة بالحرب اللبنانية مباشرة.
متورطون
أحمد محسن: هناك تجربتان، أقارب الحرب بطريقة مختلفة عمّا قاله الزملاء، الحرب ليست موضوع الرواية لأننا إذا أردنا أن نتحدث عن الحرب علينا أن نتحدث عنها بمعناها الشمولي وكيف يتعرض الكاتب لهذا الموضوع. أنا على العكس من جنى، لست مهووساً بهواجس المحاسبة أو الأسئلة التي تطرحها أو أني متابع لها او لدي وظيفة في متابعتها وأكتب عنها طيلة الوقت. ولكن بالرغم من ذلك، وجدت نفسي في الروايتين متورطاً في نوعين من الحروب. في الأولى، أعتقد أن 7 أيار هي استكمال لحروب سابقة وهذا يحيلنا إلى سؤال تقليدي: هل انتهت الحرب بلبنان أو حولنا أو هل تنتهي في العالم بأسره. لدينا مجموعة من الأسئلة التي يجب أن نجيب عنها برأيي قبل أن نجيب عن سؤال «هل هناك بديل عن رواية الحرب؟». أعتقد أننا الآن في هذه الفترة لدينا الفرصة في الاجابة. إذ تفتح لنا أحداث العالم العربي نوافذ للاجابة عن سؤال إن كانت الحرب انتهت ام لا. روايتي الأولى «صانع الألعاب» روايتي الأولى بعيدة عن الحرب وإن كان من المستحيل في لبنان أن ننجو من تأثير الحرب نهائياً. ستظهر دائما في مكان ما. ربما لأن الناس لم تنج بعد من هواجسها.
حسان الزين: عشت الحرب أكثر من الزملاء الباقين، وكان يمكن لي في عمر ما أن أكون مقاتلا ومن الجيد أنه لم يحدث ذلك. لهذا ربما كان يمكن لي أن أحب أدباء الحرب أكثر ممّا هي عليه علاقتي بالحرب وأكثر مما هي عليه علاقتي بالروايات التي كتبوها عن الحرب. من هنا وفي العودة إلى السؤال حول المرجعية الروائية، أي حين أريد أن أكتب هل أعود إلى أدباء الغرب أم إلى أدباء الحرب، أراني أعود إلى أدباء الحرب أكثر، إذ أرى أن نصهم أقرب إليّ. حين أعود إلى كتابي الأول وهو ليس رواية بل أقرب إلى البورتريه، أجد أن شخصياته وأحداثه ضاربة في الحرب، وأن شخصيته الرئيسية تأثرت بالحرب. أما في الكتاب الثاني فنجد أن زمنه ليس زمن الحرب بل ما بعدها، لكن شخصيته الرئيسية شخصية مدمرة من جراء الحرب. في أي حال، أجد أن ليس هناك بعد أي إمكانية من أن نخرج من الحرب حتى لو كتبنا عن أي موضوع.
إسكندر حبش: اسمحوا لي بالتعقيب قبل أن تكملوا. سأوافق أحمد أن الحرب لم تنته بعد، وأن هناك حروبا أخرى لا نزال نعيشها. لكن بالعودة إلى الجيل السابــق، نجد أنه كتب أساساً حرب السنتين والحروب التي تلتها. بالتأكيد نجد أن التجـربة العمــرية تلــعب دوراً أساسياً، إذ أنتم جيل لم يعش هذه الحرب بكل تفاصيلها. ولكن لا يمكن أن ننكر أن هناك حروباً أخرى بعدها، وهي مستمرة ولم تنته. لذلك تعقيبي سيكون على جنى: لا أعتقد أنك منفصلة فعليا عن الحرب. ابتعدت عن حرب السنتين ولم تكتبيها، لكن كتبت عن حروب أخرى. بالنسبة إلي، يتبدى مشروعك في أنك تقرئين مجتـمعاً كامــلا من قبل الحرب إلى ما بعدها. حتى أننا نجد في كتابك الثاني تفرعات هذه الحرب «الاقليمــية» إذا جاز القول.
جنى: هذا ما كنت أقوله، لم أقل إني منفصلة. أنا شخصيا عشت لغاية عمر العشرين في هذه الأجواء الرومنسية التي لا تريد أن تنظر إلى الحرب ولا إلى الدم والتي لا تريد أن تنظر إلى المشكلة التي اختلف عليها اللبنانيون. أتيت من منزل لم يكن في ذاكرته هذه الانقسامات الطائفية، وأعتقد أن هذا الأمر كان إيجابيا. أجيء من ضيعة صغيرة أعتقد أنها منفصلة نوعا ما. كان يقال عندنا إنها ضيعة حماها سليمان فرنجية وقت الحرب. بصراحة نحن ضيعة سنية صغيرة في محيط مسيحي، ولم يكن لها أي مصلحة في الدخول إلى الحرب، ولم يكن لدينا مقاتلون لأن جميع أبناء الضيعة هذه يعملون في سلك الدولة. كنت أستمع فقط إلى الأقاصيص بأن جهة معينة فعلت هذا بجدي في الحرب، وأن أمي المريضة كان لديها مشكلة بالتنقل لأن هناك جهة ما مسيطرة وتمنعها من أن تتنقل. بعد أن أصبحت في العشرين، بدأت أفكر بأنه لا يمكن لي أن أعيش في عالمي الخاص وأن أنفصل عن المجتمع وأن لا أعرف ماذا جرى لأن لدي موقفاً مسبقاً بأن ما حدث كان عبثياً. من هنا انطلقت الأسئلة عندي وهي ليست هاجسا. عندي الكثير من الأسئلة الآن. من هنا لست منفصلة، ولكن في السابق كان لدي موقف ضمني من أنني لا أريد أن أعرف. أجدني اليوم متورطة لأنه لا يمكن لك أن تكون غير متورط.
عمر الكتابة
عباس: كونكم روائيين جدداً، أين تجدون أنفسكم، أين تجدون الرواية الجديدة. في علاقتها بالعالم بعلاقتها بالرواية العربية وبالرواية اللبنانية؟
أحمد: أعتقد أن كل واحد حين يريد أن يكتب فهو يجد النقطة التي سينطلق منها. في روايتي الثانية «ذهبت إلى وارسو» لأعمل على فكرة لها علاقة بالحرب العالمية الثانية وصولا إلى بيروت 1982. ما أريد قوله إننا ذهبنا إلى حروب الآخرين لقناعتنا أن الحرب عندنا لم تنته فلنهرب منها هربنا إلى حروب الآخرين. هل الرواية هي مجال لأعرف ولأفتش أم أن الرواية عمل يمكن له أن يتجاوز هذا الشيء لكن مع الإبقاء على صلة بالمكان. والصلة الوحيدة الآن في هذه المنطقة هي الحرب.
محمد: حين كتبت تجربتي بالحرب انطلقت من جمــلة قالتــها لي أمـي: حين وصلت لأول مرة إلى بــيروت اندلعــت الحــرب، وعشــت ببيــئة كلهــا مشاركــة في الحــرب من دون أن تكون الحرب دائرة داخل هذا المكان. كتبت عن هذه الأمكنة التي عاش فيها أبناء بيئتي الذين كانوا مشاركين في الحرب. حاولت أن أكتب عن المكان. وجوابا عن سؤال عباس، لا أعتبر أن روايتي تنتمي إلى نوع معين: هــي مزيــج من نثر ومن مــحاولة شــعر ومحاولة تقليد غربيين قليـــلا كما محاولة تقلــيد كتّاب لبنانييــن. إنها نوع هجـين لا أعرف إن وجد له مكانا بعد. من هنا لا أعرف إن كنت أستطيع تسميتــها روايـة أم لا، لكن فيها سيرة ذاتية وسيرة عائلية وتأملات وحتى فيها شيء من الصحافة وبورتريهات لأشخاص أعرفهم.. وفيها أن الحرب لم تنته بعد، بل نحن مستمرون فيها بطرق شتى. ما دام هناك هويات تتصادم اجتماعيا فسنجد أن خطاب الحرب موجود في حديثنا اليومي.
جنى: جوابي عن السؤال بأننا كتاب جدد. سؤال يعيدنا إلى مكانين: سؤال الفردية، أي ربما هناك جيل كامل لكن تجد أن لكل شخص فيه نوعاً من الفردية في كتابته أو بصمة معينة تميزه عن الكاتب الآخر. من ناحية أننا ككتاب جدد لا يمكننا نحن أن نقول إننا نقدم الجديد إذ لا أعتبر الكتابة سلعة أريد عبرها تعمد الاختلاف عن الجيل السابق في هذه المسألة أو تلك. لكنني أعتبر أن تجربتنا مع الوقت والتراكمات، هي التي ستقول إن هذا الجيل كانت سمته الطاغية هذا الأمر أو ذاك وأن لديه هواجس مشتركة في هذا الاطار أو ذاك. لا أرى علاقتنا بالكتّاب الذين سبقونا، والذين ما زالوا منتجين، تدور حول البحث عمّا نختلف فيه عنهم. الكتابة بالنسبة إلي شخصياً ليست أمراً متعمداً. في أي حال كل جيل لديه وجهات نظر مختلفة، وأعتقد أن وجهات النظر هذه كلها ضرورية. ليس هناك عمر للكتابة.
حسان: بصراحة لم تعنِ لي كثيرا فكرة الحرب من حيث تقييمها أو الكتابة فيها أو التأثر بها. الآن وكما قلت، حين راجعت ما كتبته، وجدت أن الحرب وشخصياتها موجودة. ما يعنيني من الحرب هو ما أنتجته من ثقافة، أي كيف تعاملت مع اللغة والرواية والشعر والايديولوجيات أكثر مما عنت لي الحرب كحدث. هذا ما كان في «طواحين بيروت» التي كتبت قبل الحرب، وفي ما أنتجه روائيو الحرب كالياس خوري وغيره الذين قربوا اللغة إلى الصحافة والسياسة والشخصي والفردي. هذا ما يعني لي أكثر من الحرب نفسها، على الرغم من أنها تختصر الانسان وآلية المجمتع اللبناني نفسه.
محمد: لم أتأثر بالمواضيع التي كتبها جيل الحرب، إذ طيلة الوقت كان هاجسي تقنية الكتابة والأسلوب واللغة أكثر من المواضيع التي تناولها الكتّاب. كنت أفتش عن طرق للحبكة وطريقة السرد وتقطيع الرواية عبر المشهدية لا بالمواضيع. ما يعني لي كيف يقدم المشهد، كيف يعيش الرواية.. لكثرة ما عشت الحرب في الصحف والأحاديث، لم يكن الهمّ في جعلها الموضوع.
أحمد: برأيي ان لدينا مسؤولية إذا اتفقنا أن الحرب لا تزال مستمرة. من يريد أن يكتب عليه أن ينطلق من ذاته، أي عليه أن يجرب أن يكون على حافة الحرب. إذا غرق فيها فسيصبــح جـــزءا منهــا. حيـن نعــود إلى قــراءة الجيل السابق، لا يمكننا أن نقرأهم كلهم بالطريقة عينها. هناك كتّاب ايديلوجيا وهناك كتّاب رواية الخ، أي ان هؤلاء الكتّاب يختلفون عن بعضهم البعض.
وهذا الأمر، أعتقد أنه موجود حاليا، بيننا، كــل واحد منّا يختلف عن الآخر. والأهم أن لا نغرق في الحرب كي لا يصبح من الضروري أن نكتب عنها.
تابوهات
اسكندر: أعتقد أن المشكلة بهذا الطرح تكمن في أننا نلغي تجربة كتابية كاملة. إذا أردنا أن نحاكم أجيالا لأنها تكتب الحرب أو لا تكتبها فتلك كارثة. في رأيي أن السؤال هو هل هؤلاء الذين كتبوا الحرب هم روائيون فعلا أم لا؟ أقصد أن النص الذي قرأناه يستحق أم لا؟ شولوخوف مثلا كتب عن الحرب، تولستوي أيضا.. هل أنهما من الكتّاب أم لا؟ هنا التحديد، الحرب موضوعة مثل بقية الموضوعات التي تتطرق الرواية إليها أو الكتابة بأسرها. لغاية اليوم لا تزال هناك روايات تصدر عن الحرب الأهلية الاسبانية.
جنى: من الممكن أن تكون رواية حديثة جداً وأن تكون إحدى شخصياتها تلخص في مكان ما سؤال الحرب. ربما مع الوقت يمكننا القيام بذلك، إذا أردنا نحن كجيل أن نتكلم في ما يمكن لنا القيام به. ربما علينا أن ننظر إلى الحرب عن بعد زمني معين.
حسان: أعتقد أن ليس هناك أي هاجس كبير للكتابة عن الحرب.
عباس: كل رواية الجيل الذي سبقكم أو معظمها عن الحرب. هذه واقعة ليس من الضروري تعميمها ولا بالضرورة النظر اليها من بعيد. لكن علاقتها بالحرب قوية لدرجة أن آخر ثلاث روايات «حي الأميركان» (جبور الدويهي) و»سينالكول» (الياس خوري) و»طيور الهوليداي إن» (ربيع جابر) كلها تدور حول الحرب.
اسكندر: بينما رواية حسن داود الأخيرة «نقل فؤادك» ليس لها علاقة بالحرب.
عباس: هناك جيل كامل انتهى من موضوع الحرب، وليس معنى ذلك أن الحرب انتهت.
اسكندر: هناك أشياء لا نستطيع بعد الكتابة عنها في رواية الحرب.. ثمة تابوهات كثيرة. هل كتبت الحرب؟
حسان: أعتقد أننا علينا كلنا أن نفحص علاقتنا بالأدب. ما زلنا مرتبطين بهذا الأدب الذي كتب بالحرب.
السفير- 23 ديسمبر 2014