عمان ـ 'القدس العربي' يحتفي الفنان محمد العامري بصديقه ـ صديقنا جميعا- الراحل الشاعر محمود درويش بطريقته الخاصة، إذ يحييه عبر معرضين يتتبع بهما 'أثر الفراشة'.
يقول العامري: في 'اثر الفراشة ' وجدت أن درويش احتفى بصوت اللون داخل اللغة، فهذا الكتاب تقطير لحياة الشاعر وأحاسيسه في فكرة الوجود، بل ذهب إلى ابعد من ذلك ليدخل في حالة صوفية كاملة أجدها في كثير من مناطق الكتاب واللون كان حاضرا ومواربا.
ويرى العامري الذي تتناوب عليه القصيدة حينا، واللوحة أحيانا، 'القصيدة اكتبها في وقت لذتها الكاملة وحين تتأجج فيَّ، ولا ألح عليها كي اكتبها، وإذا جافتني لا اغضب، وكذلك فعل الرسم. انه نسيان كامل للخارج وقناديل متوهجة للنفس'.
وبمناسبة معرضه 'أثر الفراشة' في غاليري كريم في العاصمة عمان الذي افتتح في الذكرى السنوية الأولى لغياب الشاعر درويش، حاورته 'القدس العربي'..
تحية ثقافية بعيدة عن البكائيات
سبق وأن قدمت مجموعة أخرى من 'اثر الفراشة' في غاليري البارح في البحرين. والآن تقدمها في غاليري كريم في العاصمة عمان. كيف استقبلت 'الاحتفالية' في البحرين وفي عمان؟ وهل هي اللوحات ذاتها التي عرضت في المعرضين؟
اعتقد أن من حق المثقف على زميله المثقف أن يقدم له تحية ثقافية بعيدة عن النواح والبكائيات التي لا تؤسس لمواصلة خطابنا الثقافي الذي ندافع عنه كعائلة ثقافية - في الغالب مضطهدة- اقصد العائلة الثقافية المضطهدة من قبل المجتمعات المتخلفة التي لا تستطيع أن تتعامل مع فكرة الحرية.
تلك الحرية التي دفع كثير من المثقفين أثمانا باهظة من اجلها، وأنا كواحد من هذه العائلة لا املك إلا أن أواصل فعل الحرية حفاظا على استمرار السلالة فتحيتي لصديقي الراحل درويش كانت من خلال إعادة الاحتفاء بكتابه 'اثر الفراشة' عبر معرضين، الأول كان في البحرين في غاليري البارح حيث لاقى المعرض احتفاء غير عادي فيما قدمت من أعمال من قبل المثقفين ومحبي الفن ودارت حوارات مهمة على هامش المعرض تتمحور حول علاقة النص البصري بالنص الشعري، بل أنتج الغاليري فيلما عن التجربة وكان الفيلم يبث طيلة أيام المعرض.
أما الأعمال التي عرضت في الأردن فهي غير التي عرضت في البحرين ولكن من نفس التجربة، وآثرت أن أقدمها في الأردن بمناسبة مرور عام على وفاة الشاعر الكبير محمود درويش وكون درويش من المقيمين في عمان ويستحق منا كل هذا الاحتفاء لما قدمه من موروث غني في القصيدة المعاصرة، وارى إلى أن الاحتفاء على طريقتي هو الأجدى لإحياء ذكرى الشاعر بالعمل الثقافي لا بالعمل الخطابي وهذا ما أردت إيصاله للمؤسسات الثقافية العربي.
وهذا الأمر لا يصب في الخشية من النسيان بل إعادة الاعتبار لموروث ثقافي يمكن أن نتواصل من خلال تداوله في أكثر من مادة تعبيرية.
الاحتفاء باللون ودلالته المفتوحة
معرضك 'أثر الفراشة' في غاليري كريم اشتمل على خمسة عشر عملا جاءت كنص مواز التقط 'الخفة في اللون المرتكز على اثر الفراشة الذي يتصف بالألوان المتطايرة' كما قلت في مقدمة كتيب المعرض. كم استغرقك من الوقت لإنجاز المعرض؟ والأهم كيف تقمصت 'اثر الفراشة' واندغمت بها لتحولها على لوحات؟
المسألة تتعلق بحب النص وعشقه، وقد سبق لي وان تعاملت مع 'جاز صحراوي' للشاعر امجد ناصر فلا استطيع أن أناكف نصا شعريا بصريا ما لم يستفز بي هذا النص كوامن عميقة وعاطفية أحسها بصدق القشعريرة التي تجتاحني حين اقرأ النص مرات ومرات، وما حدث في 'أثر الفراشة' أنني قرأت الكتاب أكثر من خمس مرات وفي كل قراءة كنت أصاب بحالة تختلف عن الحالة الأخرى، وجدت في 'اثر الفراشة' الموت والاغتراب والحياة، ووجدت أن درويش احتفى بصوت اللون داخل اللغة، فهذا الكتاب تقطير لحياة الشاعر وأحاسيسه في فكرة الوجود، بل ذهب إلى ابعد من ذلك ليدخل في حالة صوفية كاملة أجدها في كثير من مناطق الكتاب واللون كان حاضرا ومواربا في حين آخر فنجد في قوله: (الفارق بين النرجس وعباد الشمس هو الفرق بين وجهتي نظر: الأول ينظر إلى صورته في الماء، لا أنا إلا أنا. والثاني ينظر إلى الشمس ويقول: ما أنا إلا ما اعبد).
فكانت مجمل الأعمال التي أنجزتها ترتكز على الخفة وانعكاس الماء في الأشكال والتكوينات الخفيفة المتطايرة وارى إلى أنني استفدت كثيرا من الألوان التي قالها درويش في اثر فراشته مثلا: السماء رمادية رصاصية والبحر رمادي ازرق . أما لون الدم فقد حجبته عن الكاميرا أسراب من ذباب اخضر. هذا الاحتفاء باللون ودلالته المفتوحة أفاد لوحتي بطريقة مناكفة لنص درويش كثيرا ما وجدت في 'اثر الفراشة' أن الألوان تحتفي بالموت كالذباب الأخضر الذي نشاهده على الجثث، ولكنني احتفيت بألوان الحياة وفرح استمراريتها بل ولذاذاتها الكتومة والمفضوحة، فكنت بحزني أكثر فرحا، وبفرحي باللوحة أكثر تحليقا، ووجدت أنني غرقت بتلك الحالة كغريق أراد أن يمكث تحت الماء حيث الألوان المائية أشبه بدخان اللون من الخفة والرشاقة فكنت ارسم بماء اللون. الأصفر في أثر الفراشة، كان ليمونيا ليسطو على باليتة الألوان ويذهب بي إلى ذهب نادر بجوار الأخضر الجنزاري، وخجل الأحمر الوردي الذي بدا نقطة مضيئة في غابة من الأصفر الليموني.
ذلك الأصفر في الكتابة الذي يقودك إلى دلالات أبعد من فكرة اللغة، يضعك في حلم من الصور الطيفية؛ صور لا يمكن القبض عليها، لكنك تستطيع أن تراها واضحة. تماما كما فوتوغراف من هواء وماء ينسرب من بين أصابع الذاكرة ليواجهك في جهة القلب. تماما كما قال درويش عن عباد شمسه، فما بين الليموني وعباد الشمس مسافة من الحرية والعبودية، مسافة بين اليد الممسكة بالريشة وبين بياض الورقة، البياض الصفر، الواضح في غموضه والمتمكن منك في قماط الطفولة وبياض الكفن. كأن المسافة بين القماط والكفن تشبه المسافة بين انحناءة عباد الشمس حين يغادرها الضوء، وبين نهوضه في تسلل الضوء إليه، يعني أننا في قصر العمر الذي تطول به آنية الإقامة بين ليل ونهار.
أناكف النصوص وأحاورها بشراسة
لك تجارب سابقة في محاكاة الشعر في العمل الفني، ومنها مع الشاعر امجد ناصر في 'جاز صحراوي' والراحل محمد القيسي في 'تلاقيات' والشاعر طاهر رياض في 'كأنه ليل' وغيرها، صف لي أجواء دخولك لكل من هذه التجارب؟ وما الذي مايز بينها؟
إن إنتاج نص مواز لنص منجز مسألة عشق ووله، فلم يسبق لي أن تعاملت مع أي نص لا أحبه، فالعشق يثير في الذاكرة مناطق كانت بالأمس مغلقة فالنص المثير والمستفز يفتح آفاقا جديدة لدى الشاعر والفنان والموسيقي والسينمائي فكل الفنون جاءت من بئر واحدة، فتجربتي مع 'جاز صحراوي' كانت استثنائية، فوجدت أنني أتشابه في الطفولة مع هذا النص، وأعادني إلى منطق البدائية الأولى في حياة القرية، وأعطاني ذلك مفتاحا لطفولة صديقي امجد ناصر الذي ما زال ينهل من مشاهداته الأولى كمعين لكتابته وهي منطقة غنية جدا بالواقعية السحرية، كنت أتمنى لتجربة 'جاز صحراوي' أن يتم إخراجها بطريقة أفضل، ولكننا لم نستطع لظروف كثيرة لها علاقة بالمؤسسة التي طبعت الكتاب، وسأعيد طباعته كتجربة متصلة بطريقتي الخاصة كي لا نفقد جماليات ما أنجزناه.
ومثل هذه التجارب موجودة في العالم، لكننا في الأردن تنقصنا هذه المغامرة على صعيد اشتباك الفنان بالنص الشعري، وعلى صعيد طرائق النشر أما مشروع 'تلاقيات' مع الراحل الصديق الشاعر محمد القيسي فكانت تجربة مركبة اشتملت على التشكيل والفنون الأدائية (بيرفورمانس) والموسيقى وقدمنا هذا العمل في غاليري الاورفلي
بعمان، وكذلك مع الشاعر طاهر رياض حيث كانت التجربة مختلفة حيث أنجزت كتاباً فنياًart book.
وكذلك لي تجربة مع كتاب آخر للشاعر قاسم حداد 'أيقظتني الساحرة'، إن مثل هذه التجارب تضعني في مناخات أخرى تتجلى في أعمال فنية تتيح لي البحث في أدوات جديدة في التعبير عن مناخات الكتاب بعيدة عن التعبير الفوتوغرافي الساذج، بل أجدني في معظم الأحيان مناكفا لتلك النصوص ومحاورا شرسا لها بلغة غير لغتها.
قصائدي مليئة بالرسوم الغريبة..
في معرضك 'فضاءات شعرية' العام 1992 قدمت تجربة مماثلة مشتبكة مع نصك الشعري. كيف أسست تلك التجربة لما تلاها من تجارب؟ وهل التعامل اللوني مع النص يختلف في حال كان النص للشاعر الفنان ذاته، عن تعامله مع نص شعري لشاعر آخر؟
إن تلك التجربة المبكرة بالنسبة لي كانت الدخول الأول لمناكفة الشعر والسير جنبا إلى جنب معه ومع إيقاعاته، وهي مسألة معقدة وبسيطة في آن، حيث يثب أمامي في حالة الكتابة شكل ما، وأتوقف لأرسم داخل النص نفسه فمسودات قصائدي مليئة بالرسوم والتخطيطات الغريبة، ووجدت ذلك لدى الروائي الألماني غونتر غراس الذي كان يملأ مخطوطات رواياته بالرسم، إنها متعة أشبه بالسحر، فحين أكون في حالة رقم الأحرف والكلمات تتحرك الأشكال وتتحول يدي إلى رسوم تشبه تلك العبارات الشعرية، وغالبا ما أجد في تلك الرسوم مناخا سورياليا وغرائبيا ويوازي ذلك شكل القصيدة، والطمس والشطب حيث تتحول المسودات إلى أفعال بصرية ولدي مشروع يتمثل في عرض تلك المسودات كمادة فنية كما هي.
والغريب أن تلك المسودات مليئة ببقع القهوة والأحبار، إنها حالة من اللذة لا يفهمها إلا فاعلها وليس لديّ تفسير لذلك.
الرد الثقافي أجدى من الفعل السياسي...
في معرضك 'غزة في الحياة' سخّرت الفن لخدمة قضية وطنية.. إلى أي حد يمكن توظيف الفن لخدمة قضايا المنطقة الإنسانية؟ بل والسياسية؟
هي حالة انفعالية، وجدت نفسي بلا توازن لما يحدث، وليس لدي قدرة على رد ذلك الفعل المشين فآثرت أن أقدم أعمالا فنية على صيغة معرض تبرعت به لأهل غزة، وقد فعل الكثير من مثقفي الأمة العربية من فنانين ومسرحيين ذلك. انه الرد الثقافي على ما حدث.
واعتقد أن الثيمات الثقافية في النهاية هي الأهم في الرد على أي سوء، وهي الأجدى على المدى البعيد من الفعل السياسي أو حتى العسكري، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى مواصلة بعيدا عن الفعل المناسباتي.
مع الكائن القصيدة والعشيقة اللوحة
بعيدا عن اللون، أنت أيضا شاعر لك حضورك الذي وثقته عبر أربع مجموعات شعرية: 'خسارات الكائن'، 'معراج القلق'، 'بيت الريش'، 'قميص الحديقة' ما جديدك الشعري؟ وهل لا تزال على إيمانك بجدوى القصيدة على المستويين الشخصي والإنساني؟
الشعر حياة حقيقية كالماء والهواء ولدي مجموعة بعنوان (طحين الفضة)، ولكنني لم اعد ارغب في الظهور من خلال النشر، لكنني انشر بفترات متباعدة، وحقيقة اكتب لي وأتلذذ بما افعل، وأحيانا اطل على القراء بقصيدة كما لو أنني اغتسل من درن بعيد أريد أن اشرب من الكأس مباشرة، ولا حدود للثمالة بلذة الفعل الجمالي فما اقترفه بالشعر افعله كذلك في الرسم والتلوين، وفي أحيان كثيرة تطغى القصيدة على اللوحة والعكس إن ما افعله يخصني تماما، ولا ابتغي مجدا، ابتغي فعل الحياة في الشعر والرسم وفي كلتا الحالتين أمارس اللذة مع الكائن القصيدة ومع العشيقة اللوحة.
نعم الجوائز عظيمة ومهمة للمبدع
فزت بغير جائزة دولية وعربية في مجالي الرسم والشعر. هل تسهم الجوائز في نهضة إبداعية عامة؟ أم هي محفز شخصي للمبدع الفائز فحسب؟ كيف تنظر لهذه الجوائز؟
الغريب أن الجوائز ما زالت تعطينا لذة من نوع خاص، كما لو أننا ننال في كل جائزة مبرراً لمواصلة الفعل الإبداعي. نعم الجوائز عظيمة ومهمة للمبدع كوننا نعاني من احباطات الزملاء قبل احباطات المؤسسات الثقافية والتي أصبحت تحاصرنا وتحاصر حرياتنا، إنها الحقيقة غير المواربة. نحتاج إلى كل تلك البهجات، ونحتاج إلى عشاق ومحبين، فالعالم يعاني من عزلات، كذلك نحن في عمان نعاني من عزلات، والسبب غير معروف فلا رجاء غير القصيدة واللوحة، وبدونهما كنا انتحرنا وفرغنا من هذه الحياة ، فالشعر معادل للحياة وكذلك الرسم. إنني افعل الحياة ولا أتكلم عنها.
الكتابة في المطر واللوحة في النور
بصراحة أين تجد محمد العامري الحقيقي: في اللوحة أم في القصيدة.. أم في فن ثالث؟
أنا أصغي لذاتي بصدقية عالية، ولا يهمني أين أصنف، ما ابتغيه هو الفعل ذاته فالقصيدة اكتبها في وقت لذتها الكاملة وحين تتأجج فيَّ، ولا ألح عليها كي اكتبها، وإذا جافتني لا اغضب، وكذلك فعل الرسم انه نسيان كامل للخارج وقناديل متوهجة للنفس.
وهناك حقيقة أود قولها أن الكتابة تأتيني في الغالب في حالة المطر والإعتام واللوحة تتمظهر في الإضاءة والصيف، كما لو أن القصيدة تحتاج إلى بلل وإعتام، واللوحة لا تقبل إلا النور.
فأجد نفسي في حالة الفعل وليس في التصنيف.
نهر الأردن.. بهجات على الأرض
وأنت الذي عشت على ضفاف نهر الأردن، ما حكايتك مع النهر؟ وكيف امتزجت عبر مسيرتك الإبداعية في غير مشروع؟
النهر الذي اغتسلت فيه، والذي أكلت منه سمكا، ورأيت فيه وجهي، كما لو انه أمي التي رضعت منها الإشكال.
عشت تلك الطفولة المائية فيه وشاهدت صور الأشجار وهي تتكسر في مائه، عشقته كما لو انه الرحم التي ولدت منها.
كنت هناك حين حملني أبي على كتفيه باتجاه نهر الأردن، حيث الدفلى وشجر الطرفاء والكينا، حملتني البهجة حيث بيارات جدي، ورائحة الليمون التي تتجاور ورائحة النهر التي تفوح حين يشتد الصهد وتنطلق الفراشات واليعاسيب في أفق اخضر في متناول اليد، إنها البدائية المثيرة للأرض التي تتفجر فرحا حين يفيض النهر في موسمه الاعتيادي، الموسم الشتائي المنتظر ليلقي النهر بأحلامه على اليابسة وارض البيارات، موسم ننتــــظر فيه الفضة وهي تتحرك على اليابسة، في تلك اللحظة أراه هادرا وغاضبا كونه انحبس طول العام، يفيض النهر كما لو انه يريد أن يلبس اليابسة ويعانق أشجار المندلينا والليمون حتى يغمرها للرقبة بل يتجاوز ذلك حتى يصل إلى الأغصان العالية، كما لو انه غسول وطهارة موسمية للشجرة، يغسل أشجاره بعفة الماء لمدة ثلاثة أيام ويعود خجولا من زواج كان للتو طازجا بالطمي والأسماك، يعود بانكسار هاربا نحو مجراه وحصاه اللامع تاركا خلفه أسماكا من الكرب والمشط والبلابيط تتحرك تلك الأسماك كفضة تهدر في قدر اخضر محركة شهية القرى المجاورة حيث يهرع أهل القرية بالأكياس والعصي، مشيا إلى النهر وما تركه من بهجات على الأرض، ويبدأ حصاد السمك الذي فقد النهر فجأة ينظر بعين مدورة ولامعة إلى الناس مستسلما لأكياسهم ليعودوا محملين بأسماك وتفاصيل حكايات سحرية.
القدس العربي- 04/09/2009