محمد العامريعمان ـ 'القدس العربي'
ـ من سميرة عوض: يأتي معرض الفنان الأردني محمد العامري 'النهر وجواره' الذي احتضنه غاليري الاورفلي في العاصمة الأردنية كحصاد مشروع التفرغ الإبداعي الذي فاز به الفنان في العام 2008، يقدم العامري مجموعة من العناصر الجمالية التي تختص بالمكان تحديدا نهر الأردن وما جاوره من تفاصيل جمالية وظفها في أعماله البالغة خمساً وأربعين لوحة نقلت مشهدية المكان الغوري.
والفنان العامري أقام أكثر من ستة عشر معرضا شخصيا، إضافة إلى المشاركات العديدة في المعارض الجماعية، تقتني أعماله مجموعة من المتاحف والمؤسسات العربية، ودخلت في مزادات دولية منها كريستيز اوكشن وارت فير دبي.

عن معرضه الذي نقل جماليات مكانه الأول حاورته 'القدس العربي'.

استدراج مناخات الطفولة

* كيف ترى إلى تجربتك في معرض 'النهر وجواره' بوصفه نتاج مشروع التفرغ الإبداعيّ الذي مُنِحْتـَه من وزارة الثقافة؟

مشروع التفرغ الإبداعي من المشاريع المهمة التي تشرف عليها وزارة الثقافة ، بل هو مشروع يحقق طموح المثقف الأردني الذي طالب به منذ عشرات السنين فتحققه منذ أكثر من ثلاث سنوات يشكل انعطافة ايجابية في الحياة الثقافية الأردنية كون المشروع يتيح للفنان والكاتب والموسيقي والمسرحي للتفرغ سنة كاملة لانجاز مشروعه الإبداعي وهذا الأمر انعكس حقيقة على طبيعة الإبداع نفسه.
بالنسبة لي منحني التفرغ الإبداعي مساحة للتأمل والتحلل من ربقة الوظيفة اليومية لمدة سنة كاملة لأنجز مشروعي الذي كنت احلم به وهو انجاز مجموعة من الأعمال الفنية عن مسقط رأسي تحديدا منطقة الأغوار الشمالية ( وادي الأردن) وكانت فرصة لاستدراج مناخات الطفولة وتفاصيلها في هذا المشروع .
'النهر وجواره' مشروع لاقى استحسانا كبيرا من العرب والأردنيين واستطاع أن يقدم منطقتي التي ولدت فيها بصفة الإدهاش أي انعكاس الواقعية السحرية في النص واللوحة على حد سواء.
فقد قدم 'النهر وجواره' مناخا يرتكز على جماليات المكان الغوري الذي لم يأخذ حقه في الرسم باستثناء بعض المستشرقين الذين اندهشوا بتلك المنطقة أمثال دغرائين وروبرت إلى جانب بعض الفنانين الأردنيين أمثال أبو كريم والبربري وأبو شاويش.

* وماذا عن العودة إلى استلهام مكانك الأول المطل على النهر حقيقة لا مجازا؟

هذا المشروع أتاح لي العودة إلى مناطق كنت اعبث بها وأنا طفل، عدت وذهبت إليها من جديد كسد زقلاب والشلال والينابيع ومنطقة الزور ( زور أبو عيسى، وزور عبدالله) والقليعات وتل الأربعين وتلجسورة وجسر الشيخ حسين والزمالية والمنشية والمطمورة والشونة الشمالية والعدسية إلى جانب ما تشتمل عليه تلك المناظر من اثر جمالي ساحر من أشجار وطبيعة جبال ومياه وظلال وصولا إلى طبيعة البيوتات الطينية القديمة التي أصبحت الآن في عداد الماضي.
وانطبقت تلك الذكريات على النص الذي استدرج مناخات الأغوار الشمالية الزراعية وطقوسها في الحصاد وقطف البرتقال والخضراوات وصولا إلى طقوس تشييد البيوتات القديمة.
هذه الحالة أعادتني تماما إلى شقاوة الطفولة وما كنت افعله في ذلك الزمن وهي منطقة تشكل لذة في الرسم والكتابة، منطقة لا تشبه سوى السحر والتلذذ باسترجاعها اليوم وهي المؤونة الحقيقية لي في الرسم والكتابة.

منطقة لذة الرسم والكتابة

* هل تعد معرضك انتصارا للمكان الغوري، ( الأغوار الشمالية)، فيما يسمى معركة العاصمة والأطراف؟

الغور منطقة ساحرة لي لا املك إلا الاستسلام لها ولجمالها خاصة في فترة الربيع حيث يتحول المشهد إلى سجادة من الألوان، جغرافيا مجنونة بالحب والحرارة فما زلت إلى الآن اذهب إلى هناك هروبا من عمائر الاسمنت الشاهقة في عمان اذهب هناك باحثا عن السحر والخيال فهي تمدني بالحياة والكتابة والرسم، فلم يعد لي سواها فأعمل دائما على الاشتباك معها عبر العودة لنهر الأردن ومراقبة فيضانه في فصل الشتاء ومراقبة الطيور النائمة على أشجار الطرفاء والعليق والكينا وأشجار الليمون والخشخاش.
نعم إن مشروعي يشكل انتصارا حقيقيا لمنطقة وادي الأردن فهي المنطقة التي شهدت أحداثا تاريخية مهمة في تاريخ الأردن السياسي وساهمت تلك المنطقة في تشكلي الثقافي، منطقة حرة مداها لا يحد فغروب شمس الأغوار يمنحك سحرية خاصة في الألوان التي تتشكل في السماء الغربية وشتاؤه لذيذ كما نهرنا ، كل شيء طازج هناك.

الكتاب وثيقة ستظل حاضرة..

* ترافق معرضك مع كتاب حمل عنوان 'النهر وجواره' وهو ذاته عنوان المعرض. ما فلسفتك في إصدار الكتاب الذي جاء باللغتين: الإنكليزية، والعربية؟

الكتاب الذي أصدرته وزارة الثقافة ضمن مشروع التفرغ هو وثيقة إبداعية مهمة فاللوحة من الممكن أن تباع وترحل من بيت لبيت أما الكتاب الذي اشتمل على نص لي باللغتين العربية والانكليزية ومجموعة الأعمال هو وثيقة ستظل حاضرة في تاريخ الثقافة الأردنية والعربية والكتاب شاهد على ذلك حيث يتيح للباحثين في مجالي الأدب والفن التشكيلي أن يمسكوا بما أنجزت في هذا المجال، ومن باب نشر التجربة يتيح الكتاب لطلاب الجامعات والمدارس الاطلاع على المشروع وهو إضاءة على المنجز كوننا نعاني من قلة الكتب المنشورة في مجال الفنون التشكيلية.

'أمنا الشجرة' تنفث رائحتها

* 'الشجرة المجردة' كانت أحد مفردات المعرض الهامة.. كيف هي علاقتك بالشجرة.. بوصفها لوحة فنية متجددة العطاء ليس في طرح الثمر فحسب... بل بألوانها في تغير الفصول.. برائحتها.. مع تغير درجات الحرارة؟

الشجرة كانت إحدى العناصر الأساسية في انعكاس تجربة النهر وجواره، فالأغوار منطقة قائمة على الأشجار وظلالها، فكانت هي العنصر الطاغي في العمل الفني إلى جانب عناصر أخرى مهمة في تكوين العمل الفني منها الماء كمرآة تعكس الأشكال وتدلل على السدود والنهر والينابيع إلى جانب البيوتات القديمة التي تتسيد المشهد كفعل مجاور للأشجار وباقي العناصر الأخرى كفضاء السماء المفتوحة والأشجار المختزلة وحركة الماء وتراكمات البيوت.
فدلالة الشجرة ومجالها الحيوي لا يتحققان فقط بالثمار التي تطرحها بل هناك أكثر من مناخات تجترحها الشجرة كالرائحة والشكل ومكونات الظلال التي تتبع شكل الشجرة فالظلال المتحركة تتبع حركة الشمس، والشجرة كذلك فعل متحرك في الشكل والرائحة حيث تتحرك بفعل الريح وتنفث رائحتها بفعلي الماء والهواء فكل عناصر الطبيعة عناصر محكومة بالانسجام تماما كما في العمل الفني.
فقد وصفت الشجرة بالأم ( أمنا الشجرة) وهذه دلالة على رؤم الشجرة ومديات اشتباكها بفكرة الإنسان كعلاقة تاريخية وإنسانية.
وارتبطت بالتسامح والعطاء سواء كان ضمرا أو ظلا أو رائحة او مشهدية جمالية.

المشاهد الأولى نبع فوار بالذكريات والتأويل

* ولماذا كل هذا الحنين لـ 'إيماءات البيت القديم'؟ هل فعلا يظل حنين العربي أبدا 'لأول منزل' كما قال جدنا الشاعر الجاهلي؟

الإنسان يولد كصفحة الماء يكتب تاريخه في مكانه الأول الذي عمده بالرائحة والظل وصولا إلى الأصوات الذي شربتها الأذن الأولى من أغان ٍ وثرثرات وتهويدات، كذلك العين التي شربت الألوان وأشكال تلك العناصر هي تاريخ الإنسان في بداياته والتي تظل مركوزة في الذاكرة تخرج بين الحين والآخر كدفتر الذكريات وخزان للجمال من تصوير وسرد وإيقاع.
المنزل الأول مكون مهم في تاريخ الفرد لا يمكن الفكاك منه فهو طاغية جمالي لذيذ يتلذذ به الكائن عبر استدراجه للحاضر.
وتظل المشاهد الأولى مساحة خضراء لا يمكن أن تجف فهي نبع فوار بالذكريات والتأويل.

الماء مرآة لانعكاس اليابسة

* وأنت جار الماء ماذا عن علاقتك بـ 'الماء ـ بوصفه مرآة'، ولعله دهشة الاكتشافات الأولى لصورة الأشياء وصيروتها؟

صورة الماء في هذه التجربة هي مرآة لانعكاس ما هو على اليابسة في بحر المرآة وهي الشفافية الطاهرة التي تتغسل بها العناصر فقد ارتبط الماء بالطهارة والاغتسال من السوء، فالماء ظل العنصر الذي تتحرك فيه العناصر، وكذلك هو البقعة التي تشرب مشهدية القبة السماوية. الماء مساحة مطلقة في الصورة لا يمكن أن تحد، وهنا اذكر قول الشاعر علي العامري ( المرايا حقائب لا تمتلئ).

الذهاب إلى التعبيرية التجريدية..

* محمد ما المختلف في معرضك هذا من الناحية التقنية الفنية؟

المختلف في معرضي هذا هو الذهاب إلى التعبيرية التجريدية، فأنا امكث في التجريد، فقد انتقلت إلى إظهار الأشكال الأقرب إلى التعبيرية دون التصريح بها، فالشجرة تستطيع أن تراها بلا تفاصيل ولكنها تعلن عن نفسها كشجرة، وكذلك البيوتات وكذلك اختلاف مشهدية البناء الفني في اللوحة فباتت الأعمال اقرب إلى المشهد الطبيعي بصور مختلفة دون أن تفقد التجربة خصوصيتها من حيث صياغة العناصر والإشارات المطروحة.

جديدي.. مشهدية مدينة العقبة وما جاورها

* ما جديدك... فنيا.. وماذا عن ثيمة معرضك المقبل؟

جديدي الآن اعمل ـ بتكليف - على كتابة نص نثري عن العقبة، وكذلك مجموعة من الأعمال الفنية لها علاقة بمشهدية مدينة العقبة وما جاورها. وهي مغامرة أخرى في جماليات المكان الأردني.
حيث زرت العقبة وبدأت أتحسس جمالياتها بلغة مختلفة عن لغة السائح قرأت عن تاريخها السياسي وعن أحداثها الاجتماعية وقرأت البحر بطريقتي وكذلك شهدت ليلها ونهارها.
أحاول في هذه التجربة تكريس حالة جمالية تحتفي بالمكان الأردني وقد سبق وان كتب الشاعر امجد ناصر في ذات السياق نصا طويلا عن البترا.

2011-04-07