عباس يوسف، أحد فناني الخليج التشكيليين المشهورين والمهمّين، لمع نجمه مع مطلع التسعينيات، وحاز العديد من الجوائز العربية والأجنبية منها: الجائزة الأولى في الجرافيك، في بينالي العالم الإسلامي الثاني للخط. طهران ـ إيران، جائزة تقديرية، في بينالي العالم الإسلامي الأول للفنون. طهران ـ إيران. واقتنيت أعماله من جانب العديد من المتاحف العربية والأجنبية منها: متحف البحرين الوطني، الجمعية الملكية للفنون (الأردن)، المتحف الوطني (سورية)، متحف الفن العربي المعاصر (قطر)، الكوفة جاليري (لندن)، متحف الفن الحديث (برشلونة)، المتحف الوطني للفن الحديث (الأردن).
وهو إلى ذلك، كاتب في مجال الفنون التشكيلية والخط العربي، والمستشار الفني لمجلة ثقافات الصادرة عن جامعة البحرين.
"المشاهد السياسي" التقته في أبو ظبي على هامش معرضه الخاص المقام في المجمع الثقافي، وأجرت معه جولة حوار مطوّلة حول الفن التشكيلي، والصداقة والحب والأفكار.
قلت للفنان عباس يوسف:
* حدثنا عن تجربتك الفنية ورؤاك في الفن، انطلاقاً من مكان الطفولة، إلى المرسم إلى المعارض، إلى بهاء التجارب الفنية المتعددة الخاصة والمشتركة، التي دأبت على القيام بها مع فنانين معاصرين لك، وبينك وبينهم انسجام من نوع خاص.
لربما أستطيع أن أعدّ نفسي واحداً من المحظوظين، كون بعض أنواع الكتب، منذ الطفولة، كانت تتخطرف أمام القلب ومنها القرآن الكريم.. جزء عمّ ملفوف في قماش غالباً ما يكون أخضر اللون، وأيضاً بما له من دلالة تستحكم بالذات العميقة للطفل والفنان، فيحمل هذه الصور والمشاعر معه طوال حياته، فحتّى اللحظة الراهنة لا أزال أراه خيطاً أخضر يتبارك به الناس عميقاً، يحمله الأطفال ويهمّون به إلى حلقات الدرس في منزلنا، حيث يتلقّون من والدتي المعلمة درس تعلّم القراءة، بدءاً من القرآن الكريم، هذا إلى جانب بعض الكتب الدينية والكثير من كتب الأدب الحسيني، وما كان يلقيه الخطباء من مقاطع شعرية، من على المنابر في مثل تلك المناسبات، وما كنا نسمعه بصوت الوالدة (وهي القارئة في مأتم النساء بحيّنا في القرية) صار جزءاً من تكويننا العاطفي، إخوتي وأنا. ويبدو أن درسي الأول الذي تلقيته في اللغة العربية، كان في هذه الحضرة البهية الغنية، لذلك سيكون مدخلاً فيما بعد لدراستي الجامعية في اللغة ذاتها، وهو ما عزز ولعي وشغفي بالأدب شعراً وسرداً. ولحسن الحظ، أنني كنت من جيل ينتمي لفترة يمكن تسميتها، إن جاز القول، فترة التفتح والانفتاح، قياساً إلى ما نحن عليه الآن، حيث الانغلاق والظلم، وما كان بوابة صار جداراً، وما كان معرفة أضحى ضلالاً. واليوم يمكنني القول أننا تلقينا درسنا الثقافي محاطاً ومسيّجاً بالسياسي الثوري.
* كفنان تشكيلي، لك علاقة مميزة مع الكتّاب الشعراء والناثرين من أمثال قاسم حداد وأمين صالح، وقد أنجزت مع هؤلاء بعض أعمالك، حدّثنا عن طبيعة هذه العلاقة، والمقوّمات التي تنهض عليها؟
ثمة انحياز لا يمكنني وصفه ولم أجد تبريراً له في تلك الفترة، إلى كتاباتنا المحلّية، متمثّلة بالأخص في ما أنجزه قاسم حداد وأمين صالح وعلي الشرقاوي وعبد القادر عقيل، فوجدتني في اللاشعور، وما زلت حتى هذه الساعة، متمسّكاً بها، أحمل إصدارات أدبائنا كلما سافرت إلى بلد ما، أؤمن بهذا النوع من البريد (أسمّيه الإنساني)، حيث الكتاب مخلوق يتوجب علينا حبّه، والاعتناء به، وإيصاله بخفّة وحنان إلى أهله (متلقّيه)؛ والواقع أنه منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأ نزوعي إلى كل ما هو تجريبي وحداثي في الأدب، فما كان أهم من قاسم حداد وأمين صالح محلّياً ليشفيا غليل الفنان المتمرّد فيَّ.
مخاض التجربة
* لك علاقة مميزة جداً مع الفنان عبد الجبار الغضبان، قمتما معاً بمشاريع فنية مشتركة، منها ورشة عمل لفن الجرافيك.. ما الذي جمعك بهذا الفنان؟
< منذ أن التقينا أنا والصديق الفنان عبد الجبار الغضبان، وبعدما أسس في العام ١٩٨٩ مشغلاً لفن الجرافيك في جمعية البحرين للفنون التشكيلية، والذي راح ينثر فنه وخبراته الإبداعية والحياتية علينا، تأسّست علاقة بيننا، أقلّ ما يمكن القول أنها باذخة الجمال، نتج منها معرضنا الأول عام ١٩٩٥ في صالة غدير بالكويت، أي باكورة نشاطاتنا الثنائية حيث لقي نجاحاً جميلاً على مستوى العرض، والاحتفاء من قبل الفنانين والمتلقّين والصحافة، وبعده توالت عروضنا الثنائية المشتركة، التي جابت الكثير من العواصم والمدن العربية والأوروبية، من عمّان إلى دمشق إلى حلب إلى مسقط العمانية إلى كوبنهاجن إلى لندن إلى القاهرة إلى المنامة، التي أقيم فيها معرضنا (أيقظتني الساحرة) بمعيّة الشاعر الصديق قاسم حداد.
الهروب إلى الآخر
* يتوق الفنانون عادة إلى التعبير عن أنفسهم، وفي الأحاديث الصحفية يتحدثون عن صنيعهم الفني.. لكنني أراك تهرب من الحديث عن نفسك إلى الحديث عن أصدقائك الفنانين؟
لعل ما يثير الدهشة حقاً ويبعث على الاستغراب بالنسبة إليّ، هو الكلام على نفسي، فما بالي إن وجدتني في ورطة التحدث والكتابة عن تجربتي الفنية، والصداقة الحياتية مع صديقي الغضبان التائه داخل لعبة الفن، إنما أوثر الحديث عنه، وعن تجربته.. إنه الفنان النبيل المغامر، الواقع في شرك غربة الجرافيك بعناد المصرّ على المغامرة، الماضي أبداً إلى صمته، والذي لا يختلف اثنان على أستاذيته في الرسم والحفر، والذي أدين إليه بكل ما أنا عليه.. إنه بالنسبة إليّ الملتزم قدسية فن الجرافيك. يتوق في بحثه الفني والجمالي إلى إخراج ما يؤرقه، ويعتمل بدواخله، اعتماداً على تعبيرية ناجمة عن وجود وحالات المرأة التي تمتلك الحظ الأوفر في رسومه، بوصفها عالماً خصباً وثورة وعطاء، عبر إيماءة ونظرة ساكنة أو ملتهبة، يترجم بها ربما وضعاً مأزوماً لا تتحقق غاياته الدفينة إلا بالشرود إليه.
ففي عمله الفنّي، تتضح العلنية وتتكشف الصراحة، بخبث ودراية خبير بفعله.. بصير بشرطه القائم على تقشّف في الشكل واختزال في مضامينه المدوّية، والزهد العميق الغائر في ألوانه الجرافيكية، المتحصّلة من علائق الدمج بين تقنيات الجرافيك وصباغاته الهادئة المتشظية، وكأنما الحالة السوداوية البارزة، شكلاً ومضموناً، هي الفضاء المناوئ والمدافع بقوة وصبر متوار، عن انحيازه لفعل الجمال الخالص الكامن في الرسم والتقنية، مبادراً دوماً إلى كسر القالب التقليدي الصرف، المعتمد في إنتاج طبعته المحفورة، يزاوج فيها تقنية الرسم الزيتي بتقنيات الحفر، ومنه يحاول جاهداً إنتاج لوحة معاصرة، تمتلك شروطها الطباعية القائمة على مبدأ الشيوع والتعدّد. ما لي كلّما أردت التحدّث عن نفسي يحضر الآخر، فأنساها..
* أنت تطرح هنا أسئلة الفنان الوجودية، لتعثر ربما على معاني الصداقة في الفن نفسه، وعلى العمق الخالص في الفنان؟
إنها منطقة حسّاسة جداً في تصوّري، وغاية في الصعوبة وموغلة في التعقيد، فلطالما يمثل أمام النفس حفنة من الأسئلة الوجودية المقلقة والمحرجة أكثر، في الوقت ذاته، حول العلاقة والتجربة. ولو شئت، فإن منجزي الفنّي، قال جبار عنه، ذو هيام وتأمّل وشرود، ونحن في حضرة العبث والنسيان، والتحضير والتفاعل والعمل.. إنها تجربة تمثّل في مسارها وتطوّرها، خصوصيتها من حيث البحث والتجديد، بغية الوصول إلى مستوى أكثر نضجاً، وصولاً إلى طرح حديث يقترب كثيراً وعميقاً من العمل التجريدي المبني على اللون والمساحة، والعنصر المجرّد، الذي تبرز أهميته في إعطاء الانطباع المقنع والمفاجئ في الوقت نفسه. لقد زرعت تجربة أعمال الحفر مفاهيم مهمّة، وفتحت أمامه مسارات جديدة للقفز باللوحة إلى عوالم ومستويات أرقى وأنجع، وذلك بالمزاوجة بين الحفر واللون، كمحرّض تقني يوصل إلى فضاءات ومناخات تعيش تنفّساً مختلفاً، يقلب جوانب البصر في التمتّع بهذا البوح الجميل، أعني العمل الفنّي.
أسئلة ربما هي مدفونة في دم الوريد … مكتوبة على جناح مدى لا يعرف مآله ومرفأه بالتحديد، مؤقتاً ـ في أقل تقدير، إلاّ نحن، الغضبان وأنا ـ أشعرها مدسوسة في ثنايا هذه الغرفة التي نطلق عليها جزافاً تسمية مرسم، والتي لا تتعدى مساحتها الـ١٥ متراً مربّعاً.. أحسها تتطاير أمامي كشرر من زوايا الأدوات الموزعة بصورة فوضوية وعبثية، لدرجة رفضها الرتابة والترتيب.. إنها تعيش حالة التنافر والصراع الحاد فيما بينها.. وبين الأسئلة ووجودنا.. الكراسي.. الطاولة الوحيدة.. أوراق التخطيطات.. المعادن.. أدوات الحفر.. الأعمال الفنية الجاثمة على السطح، والمكبس القديم، ورسوم صبا وموفّق ودريد وفرات، وصور الأصدقاء، ولعنات الأحبّة السلسبيل وأدعيتهم الصوفية، وخطواتهم التي استحالت وشماً تاريخياً على جدرانه، وزفيرهم الممزوج بلون ماء النار وروائح الأحبار وضبابية دخان السيجار، جميعها امتزجت بالأسئلة اللّجوجة. إنها عصيّة على التناول حقاً، لا تقربها الأجوبة وقت الشروع، ولا تتجرّعها المشافهة ساعة القدوم.
مغامرة الفن
* ما الذي أعطتك إياه تلك المغامرة المشتركة في فن الجرافيك مع الفنان الغضبان؟ وإلى أين سيؤدي بكما فن الحفر والتجربة الفنية المشتركة وماذا سيكون مصيرها؟
أحياناً أطرح على نفسي السؤال نفسه، وأضيف عليه.. وماذا عن بهاء اللون وحليب المعدن وكيمياء الذهاب المفعم بالبوح وباللغز والأتعاب... إلى متى سيبقى ركوب البحر مغامرة مبهمة، كمغامرة السير في الأزقّة ليلاً بلا هدف؟
التجربة الفنية كالمرأة لا تتحقّق إلا بالتحدّي، ولا تسترخي إلا للعناد. تراودني الحيرة ويقتلني السؤال ويباغتني السلام عليّ. الحفر والحرف والمرأة وقمر الرحيل، وبوصلتنا العصيّة على الترك والمغادرة، لكونها قدراً محتوماً كتبت أبجديته بشفيف أرواحنا. أسأل نفسي عن التجربة الفنية.. عن الحفر والفن والإنسانية والغفران، عن العلاقة والصداقة، عن الكتلة والخط، عن غنى اللون الكامن في التقشف، عن سيمياء الروح التي تعتصر حبّاً، عن تراجيديا التجربة والصمت والسكون، عن الجموح والدينامية والاستعصاء الآخذ في الصعود، عن الفتنة كذلك من اشتغالنا اليومي في المكان الموسوم بالمرسم، بعيداً عن عقم الدوام الرسمي وصفاقاته! من هذا الحيّز الصغير المسمّى بالمرسم، والذي كلّما تزاحمت معدّاته وزادت أغراضه، وتقلصت مساحته وضاق ضيقه بالضيق والمضايقة، اتّسعت مكانته ووسع فضاؤه، بحيث بتنا نؤمن ونصدّق، وهمّنا به وبكذبته الكبرى كوننا في أفق مفتوح، لا تؤثر فيه العواصف، ولا توقف مشروعه عراقيل ومكائد. هكذا نحن، جبار وأنا، غارقان في هذه الجنّة المستعرة الصاخبة بنار اللون والمعدن... منه كانت جرأة الذهاب إلى الخارج، واستذواق رأي الآخر، سواء العربي والأوروبي، ومعرفة وجهة نظره حول منجزنا الفنّي الذي تحوم حوله الأسئلة كل لحظة ويوم، ضمن مراجعاتنا الذاتية، وأحاديثنا الصريحة، ونقاشاتنا الحادة والمحتدمة أحياناً كثيرة بشأنه. هذا المنجز الآتي من الشرق… القائم على حب البحر وعشق الفن، والذوبان في جمال المرأة، والصدق، عرضنا واكتسبنا الخبرات، وتحاورنا مع الثقافات الفنية الأخرى، وكوّنا صداقات حميمة، ومددنا جسوراً ورسّخنا وشائج مع الكثير من الفنانين.. حقّاً أعطتنا هذه المغامرة الحب الكبير، والاحترام الجليل البعيد.. البعيد.. وعلّمتنا طرائق العزف والتمادي في جنوننا وغاياتنا، بإيمان مطلق بأهمية وتاريخية شيوع العمل الجرافيكي، الذي أقيم لهذه الغاية والهدف. لا أنكر أبداً الصعوبات التي نحتمل ونعاني ونكابد، بكل برود عاطفة، وهسيس روح، وضحكات مدوّية تستأنسها المعادن، وترقص لها أوراق الطباعة والأحبار، وتقف لها العاطفة إجلالاً، في وقت تكون العروض الشخصية فيه شحيحة، والمشاريع الجماعية شبه معدومة.
تحيّة إلى أمين صالح
* ماذا يعني لك هذا العنوان "البحر عندما يسهو".. هل يذكرك بشيء خاص؟
مشروع قديم يحوم في كبدي منذ تسعينيات القرن الماضي، لإيماني الشديد بأهمية الحب الصادق.... بالعلاقات الإنسانية الشفافة القائمة على حب فعل الخير والجمال. يحصل تعجّب، ولربما تحب أن تحب شخصاً ما، لكاريزما شخصه مثلاً.. شاعراً لشعره وإن كان تافهاً، روائياً وإن كان نزقاً، ورساماً صادقاً مع فنّه، وإن كان في قمة الغرور والتعالي... فما بالي إذا كان هذا الشخص أمين صالح... هذا الجميل بعالمه الإبداعي المخيف..الأنيق الباذخ. هذا المشروع الخرافي الباهر دوماً، هو دليل فنار بحرنا.. وبإخلاصه المتمادي في مشروعه دوماً، وعبر نصوصه الفاتنة، أتمثله رساماً تشكيلياً محرّضاً منفلتاً خارقاً.. هادماً كل التابوات والأعراف الفنية والتقنية.. ذاهباً إلى الذي لم نألفه، متذرعاً بالبحث وعشق الاكتشاف... هذا المعرض، وبعيداً عن مؤامرة (المفاجأة) التي ضمرناها لفترة ما قبل موعد الافتتاح، قاسم حداد وجبّار الغضبان وأنا، عن أمين، كان مفاجأة أيضاً بالنسبة لي عندما أنجزت بعض الأعمال برفقة "نصوص المدائح" و"هندسة أقلّ... خرائط أقلّ". وأنا في أجواء ثلج أوسلو، وقت تدفّق سواد الأحبار على صقيل الخشب. عددته إنجازاً باهراً على المستوى الشخصي، كوني استطعت، ولو بشكل متواضع، أن أقدّم تحيّة لإنسان مثل أمين صالح، الذي يستحق منا الكثير الكثير.. أشعر أنه مهما قدّمنا له، سنبقى مقصّرين في حقه!
فمنذ جنينه الأول "هنا الوردة.. هنا نرقص" ونحن نغذّي أرواحنا بعرفان قلبه المتدفق حبّاً وجمالاً، والذي ما انفك يرشق وجوهنا بحناء غسله اللازوردي، أقول له: يا رسول الاستغراق والكلم، حاولت التقرب إليك راغباً في جنّتك، طامعاً في قراءتك ومعرفتك وترجمتك ، فمنعتني المرأة من البوح، واخترعت لك الصمت طريقة.
المشاهد السياسي- 2006-4-09
إقرأ أيضاً: