برز الفنان العراقي الشاب حليم مهدي الكريم، من خلال مشاركته، العام الماضي، في معرض الخريف بمتحف سرسق، وقد حاز الجائزة الأولى حينذاك، ومشاركته العام الحالي، وقد عرضت له ثلاثة أعمال باهتمام ملحوظ، وكان لها حضورها الساطع، وهو اليوم يقيم معرضاً فردياً في (أسباس SD) (يستمر لغاية 13 كانون الثاني الجاري)، مستأنفاً حضوره البيروتي، بما يميزه عن سواه من العارضين في الصالات اللبنانية.
(طبقات الروح بين الهلوسة والشيزوفرينيا)، عنوان معرض التجهيز الذي ضمّ حوالى 60 (عنصراً) تشكيلياً. ولولا أنه وضع تسمية (تجهيز) على بطاقة الدعوة، لكان في إمكاننا التعامل مع المعرض على أنه يضم مجموعة من اللوحات، المعلقة في الصالة من دون حوامل خشبية، أو المتدلية في القاعة باصطفاف منتظم، من حيث مساحتها والشكل الهندسي الموحد الذي يحددها. إلا أن التسمية أخذتنا أكثر إلى التعامل مع الأعمال المقدمة على أنها عمل واحد أو مجموعات أعمال. فالحدود تبدو تعسفية أحياناً، إذا وضعناها بين عمل وآخر، أو اعتمدناها لتقسيم المعرض على أساس مجموعات، ويبدو الأمر اختصاراً تعسفياً أيضاً، لو تعاملنا مع المعرض على أنها تجهيز واحد يملأ الصالة كلها.
لا يمكن أن نتخيل ما قدمه فنان عراقي، في ظل ما يجري في بلاده اليوم من قتل ودمار وواقع مأسوي، إلا شكلاً من أشكال التمرد على الواقع والانسلاخ عنه، بل نسيانه تماماً، في ارتحال صوفي يستطيع الارتفاع فوق الواقع في اتجاه طبقات الروح.
إلا أن ما قدّمه الفنان لم يبدُ، بأي شكل من أشكاله، هلوسة أو حالة شيزوفرينيا مرضية، كما يُبدي في عنوان المعرض. فالزخرفة المتّبعة في أعمال المعرض، على ما فيها من بعض الهذيان، لا تأخذنا إلى تلك النتيجة المرجوة، بسبب ما نلحظ فيها من تدبير وتأنيق، ومن بحث عن فتنة بصرية، تكرسها مفردات الزخرفة الخطية واللونية التي تملأ مساحة المعرض.
لدى دخولنا صالة المعرض، تستقبلنا تلك القماشات أو القطع الكرتونية المتدلية، وندخل منجذبين إلى المزيد من الطقوس اللونية الزخرفية، ذات اليمين، وذات الشمال، وبين بين. وتصطف الأعمال جنباً إلى جنب، وأحياناً بشكل متلاصق، بحيث لا يجد المشاهد بداً من متابعة ذلك التدفق اللوني والتنوع التشكيلي الذي لا بد من متابعته بكثير من الشغف.
الدخول
في المعرض يشبه إلى حد ما الدخول في نفق لوني فانتازي، يجتذبنا نحو تنويعات أعماقه، ويورّطنا أكثر في إغراء المتعة البصرية التي تسيل منه، حيث الألوان لا تميل إلى قتامة أو تبلد أو برود، إنما تذهب في اتجاه معاكس، نحو التفجر والإضاءة القوية والبهرجة والاشتعال، مما يغري العين ويشدها نحو متعة التنويع البصري.
لا يعلق حليم مهدي الكريم المفردات الزخرفية التي يقدمها على حبل التكرار، فالتكرار، الذي هو سمة من سمات التناظر الزخرفي، موجود في العمل الواحد، ولا يعيد نفسه في الأعمال الأخرى، كأن التنويع هنا ضرورة من ضرورات العرض <<التجاري>>. إذ نشعر، أحياناً، بأننا في معرض سجاد معلق على الجدران، ولا يجوز عرض سجادتين متشابهتين، ونشعر، أحياناً أخرى، بأننا في سوق لعرض الأقمشة، وما الفستان الوحيد المعروض في إحدى زوايا المعرض إلا نموذج لخياطة إحدى القماشات.
زخرفة قماش أو زخرفة سجاد على الأرجح، لكن، في الحالين، لا ينحاز الفنان العراقي إلى زخرفة إسلامية، أو شرقية بالمعنى الدقيق للكلمة، إنما هو يسعى، بكل بساطة، إلى تقديم زخرفات بصرية مختلطة، ناتجة عن مخيلة خصبة في توليد أشكال زخرفية جديدة أو مجدّدة.
لا تحكم المفردة التشكيلية الفنان بتكرار تماثلي أو بهندسية دقيقة، إذ، في الوقت الذي يحافظ فيه على صوغ زخرفي عام، نجده متحرراً، في بعض المساحات، من الذاكرة الزخرفية المتوارثة، فهو يحدث كسراً هنا وخروجاً على القاعدة الزخرفية هناك. كأنّ كل عمل مفرد هو حلم من أحلام الفنان الزهرية، أو كأن التجهيز العام الذي يقدمه ليس إلا بيت أحلام، أو سلسلة انكشافات صوفية أثناء ارتحال الروح نحو نزواتها الجميلة.
السفير
2005/01/31
أقرأ أيضاً: