(من المعرض ت. مصطفى الدين) |
عندما ندخل إلى معرض نذير إسماعيل، لا تتطلع إلينا وجوه لوحاته كما في لوحات اللقطة الفوتوغرافية مثلاً إنما نحن الذين نمسك بزمام الأمر، فنقرأ الوجوه كأنها صفحات كتاب، نقلّبها وجهاً وجهاً، وما ان نغطس في القراءة حتى نتورط في توتر الحالات وتنوعها، فتنقلب الوجوه الصاغرة نفسها سلطة علينا، ويتحول الفنان إلى لاعب ماهر بمزاجنا وأعصابنا وتوتر اللون في وجوهنا، ونغدو معلَّقين بين ألوان الوجوه التي أمامنا وتلك التي تنعكس على صفحات وجوهنا.
المعرض، الذي يستمر حتى الواحد والعشرين من الشهر الجاري، في صالة <<أجيال>> في بيروت، والذي يضم ستاً وثلاثين لوحة مشغولة بمادة الأكريليك التي تسمح طراوتها بمزيد من تطويع الشكل لتنويع تعبيري، يضعنا أمام تجربة تشكيلية غاصت كثيرا في التجريب والتقليب والبحث في صيغة تشكيلية تقدم على نحو مقنع رمزية الوجه الإنساني، بل تقنعنا بقدرة الوجه على تكثيف الحالات التعبيرية الإنسانية.
(من المعرض ت. مصطفى الدين) |
تجربة نذير نبعة التي تتكئ على أكثر من أربعين معرضاً، بينها الكثير من لوحات الوجوه أو لوحات التعبير عن الأحلام الضائعة والذاكرة الموشومة بالمأساة، ربما لا تكون الوحيدة في هذا المجال، ففي سوريا والوطن العربي الكثير من الأسماء التي تتشارك في هذا الموضوع، ولكل مساحته وتميّزه في هذا الموضوع، وإن كان الجميع ينهلون من تراث غزير، يمتد من مراحل رسم الأقنعة التي كانت تصور الشخصيات الأسطورية في الهند والصين واليابان والحضارات القديمة التي عاشت على ضفاف الأنهار الأفريقية، ومراحل رسم الوجوه الأيقونية، ليصل إلى ما جادت به علينا تجارب التجريد من غنى التعبير ولصوقه بالحس الإنساني الذي يزداد رهافة يوماً بعد يوم.
لوحات المعرض كلها تحمل وجوهاً بالمفرد والجمع، ما عدا واحدة منها تختلف إلى موضوع آخر، فيغيب الوجه ليحضر المشهد، مشهد تجتمع فيه ذاكرة رموز، فنشهد بيتا من ذاكرة الخراب، فوق أحد جدرانه يقف طير الشؤم. وقد تأتي هذه اللوحة الشاذة عن موضوع المعرض لتذكر بمقلب آخر من أعمال الفنان، وأكثر من ذلك فنحن نشاهد على هامش المعرض كتبا أو دفاتر يضم بعضها وجوهاً، في حين يضم بعضها الآخر مشاهد. وقد لا يكون هناك كثير اختلاف بين الوجه والمشهد لما نشعر به من ائتلاف تعبيري بينهما وتكامل ترميزي يجمعهما.
قد تحمل اللوحة الواحدة وجهاً واحداً، أو تجتمع فيها مجموعة وجوه، تجتمع بشكل أفقي أو متعامد، أو يحمل وجه وجهاً آخر، لا فرق، فبدلاً من أن يدور الحوار بين لوحة وأخرى، فهو قد يضج في لوحة واحدة، على أن الحوار يحافظ على خصوصية كل وجه وعلى عزلته وتميّز حالته. وفي مجمل الأحوال فاللغة التشكيلية التي يتبعها نذير إسماعيل تجعل التعبير غائراً نحو الداخل، أكثر منه فصيحاً وواضحاً ومباشراً. ذلك أنه يعتمد تجريد الملامح، بحيث يصبح الوجه غير دال على شخص بعينه، وإنما يؤشر لحالة ويرمز لحدث مسحوب من ذاكرة مكتظة بالأحداث.
ما يتبادر للذهن، أن هذه الوجوه الكثيرة المعلقة على الجدار، أو تلك التي لا تزال في بطون الدفاتر، ليست إلا يوميات الفنان، لكنها ليست يوميات نسخية مباشرة أو مقيدة، وإنما هي أفكار <<يومية>> تتوارد أو تتهافت من المشهد اليومي لعذابات الناس ومعاناتهم، من دون أن تكون اللوحة لحظوية أو خاطفة. وبالفعل، فإن ما نشاهده ليس إلا وجوهاً مصلوبة بأشكال مختلفة، فبعضها امّحى فمه وبعضها الآخر استطال أنفه أو غارت عيناه لتساهم في مزيد من الغموض والعتمة، ما يدل على أن الوجوه ليست إلا ظلالاً لحقيقة أو معنى يريد الفنان أن يوصله إلينا، ليحرضنا ويساهم في إثارتنا وتعويم قلقنا وغضبنا من الحالة التي يعبر عنها. وأي حالة يشكلها الفنان أمامنا غير حالة أبناء جلدة الفنان وأبناء لسانه وقومه ومن يعايش ويرى.
وكي ينقل نذير إسماعيل الحالة التي يريد، نراه يسخّر الخطوط، التي يستخدم فيها الأسود والبني المحروق عموماً، لتعبر عن تلك الحدة التي يضمّنها وجوهه، ولتكون حدوداً قاسية للوجه، تؤطره وتحكم عزلته. ويسخّر الألوان لتنوّع بمساحاتها المختلفة تعابير الوجه وملامح هويته الغائرة. تتكثف الألوان وترقّ وتتسع وتضيق لتتشكل كتلها بحرية تامة. ثم تشفّ حيناً كما الماء، وتعتم وتجف حيناً آخر كما التراب. على أن هذه الألوان تضرب مرة في الذاكرة، فتعود بمفرداتها التي تذهب نحو التعتيق والزمن السكوني والتكثيف الروحاني في اتجاه ذاكرة العمل الأيقوني، وتضرب مرة أخرى في الزمن الجديد فتصبح لعبة الألوان فاتنة من الداخل ومشغولة بحرفة ودهاء، وإن كانت تغلفها الانكسارات التي تثقل الوجه بشكل عام.
يمارس نذير إسماعيل حريته كاملة، لا في المساحات اللونية وكيفية تأليفها، ولا في كيفية اختيار أجناس الوجوه وأطوالها، ولا في تغييب وتوكيد ما شاء من أعضاء الوجه وملامحه وحسب، وإنما في عدم الالتزام بشكل محدد للورقة التي يرسم فوقها، فهي لا تحافظ على استطالتها، بل يعمد الفنان إلى تنويع هذا الإطار الخارجي الشكلي للوحته، ولا بأس في أن يمزق أطراف الورقة ويترك الإطار على عفوية غير محكومة بشكل خطي، كما أنه يعمد إلى تنويع ملمس اللون، فيخشّنه أو ينعمه، ويلمّعه أو ينشّفه... وهكذا حتى يكتمل مشهد الحرية التي تنتقم بالأسلوب المتبدل من واقع مستقر.
السفير- بيروت