رغم صعوبة إحصاء المعارض والدراسات التي تناولت فن بيكاسو وهو على قيد الحياة ثم بعد وفاته، ما يزال مسار هذا العملاق يوحي للباحثين في مراحله الكثيرة بمعارض ودراسات جديدة، يساعد على ذلك اكتشافهم في كل مرة معطيات جديدة، وأحياناً أعمالاً فنية غير معروفة له تستدعي إعادة نظر شاملة في المرحلة التي تنتمي إليها. وينطبق الأمر على المعرض الضخم القائم حالياً في متحف بيكاسو (باريس) والذي يضم نحو 250 قطعة فنية تغطي المرحلة الممتدة من عام 1935 وحتى 1945، أي من الحرب الأهلية في أسبانيا وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وهي المرحلة التي سيرسم فيها بيكاسو أهم لوحاته: "غرنيكا" و"الأصبوحة" و"المقبرة الجماعية"، التي يتجلى فيها بقوة دوره كمُعارض ثم كمقاوم للروح الفاشية والحرب. كما أنها المرحلة التي يقع فيها تحت سحر الفنانة السريالية دورا مار التي سترافقه طوال هذه الفترة وتوحي له بمجموعة كبيرة من البورتريهات واللوحات والمنحوتات التي نشاهد فيها نساء يبكين أو يتعذبن، أو مخلوقات أسطورية وخيالية. ويكشف المعرض بشكل أساسي عن الأعمال الفنية والوثائق التي كانت بحوزة دورا مار والتي سُلّمت إلى متحف بيكاسو بعد وفاتها عام 1997، الأمر يسمح بإعادة تكوين الحوار الخلاق والخصب بين الرسام والمصوّرة خلال تلك السنوات السوداء من تاريخ أوروبا.
وستتعرّف دورا على بيكاسو في نهاية عام 1935 بواسطة بول إلويار، وكانت آنذاك في الثامنة والعشرين من العمر ومعروفة كمصوّرة محترفة تعمل في مجالي الموضة والإعلان الدعائي وترتبط بعلاقات وثيقة مع هنري كارتيي بريسون وبراساي ومان راي ولكن أيضاً مع جورج باتاي وأندريه بروتون وجاك بريفير وجورج أونيي وبول إلويار. وهذا ما يشرح مشاركتها منذ عام 1935 في جميع المعارض السريالية الدولية. من جهته، كان بيكاسو في الثالثة والخمسين من العمر ويمر في أزمة شخصية حادّة. ففي ربيع 1935، توقف عن ممارسة فن الرسم للإنكباب بشكل حصري على كتابة قصائد بأسلوب آلي سرّيالي ستشكّل مادّة علاقته مع المصوّرة الشابة وموضوع حوارهما الأول. وستساعد دورا بيكاسو المعزول بسبب الشهرة التي سيعرفها منذ فترة العشرينات، على الانغماس بشكل أقوى في حالة الغليان وفي نقاشات وتوترات وخصومات المحيط الفني الطليعي. وسيجمع الاثنان منذ البداية اقترابهما من الحركة السريالية وثقافة أسبانية مشتركة وحساسية والتزام سياسي متجانسين.
ولأن هذه العلاقة المميّزة ستنطلق بشكلٍ رمزي من خلال سلسلة لقاءات يطغى عليها فن التصوير، يكشف المعرض أولاً عن مجموعة صور فوتوغرافية التقطتها دورا لبيكاسو في وضعيات مختلفة وتبدو للناظر إليها وكأنها عملية تملّك حقيقية للفنان الذي يخضع فيها لنظرةٍ محترفة وملهَمة في الوقت ذاته. والمثير في قصة هذه الصور هو بقائها في حوزة دورا على شكل كليشهات سلبية لم تسحَب عنها أي نسخة وهي على قيد الحياة. ولأن بيكاسو سيوظّف كل معارف دورا في فن التصوير في شتاء 1936ـ1937 لخوض تجاربه في تقنية الكليشيه على زجاج، نشاهد إلى جانب صور دورا الأولى بورتريهات أربعة لها حققها بيكاسو على لوحات زجاجية واستخدمها ككليشهات عملاقة لسحب نسخٍ عنها على ورق فوتوغرافي حساس. وتسمح هذه التقنية التي تقوم على إدخال أشياء معتمة أو شفافة، كقطعة قماش أو مجوهرات أو أوراق، بين مصدر ضوئي والورق الحساس، بالحصول على تنويعات فوتوغرافية انطلاقاً من الكليشيه ذاته وفقاً لطبيعة هذه الأشياء وزمن عرضها. ويبدو هذا التلاعب بالضوء والظلال في كل من هذه النسخ كمحاولة من بيكاسو لالتقاط قليل من هالة دورا نفسها.
ألق
وضمن الهدف ذاته، سيتابع الفنان عملية محاصرة موديله بواسطة الرسم والتلوين حيث تظهر دورا أحياناً بأسلوب أكثر واقعية. فالبورتريهات التي سيحققها لها، معتمداً غالباً على ذاكرته، ذات طابع كلاسيكي وتتوق إلى استحضار شخصيتها الحميمة وطبيعة مشاعرها وألق حضورها. وكالصور المذكورة سابقاً، تمسك هذه الأعمال بها من زاوية مألوفة أو خارقة وتساهم في تحليل بيكاسو لها، كما تجسّد مقدّماً البورتريهات التي سيُنفّذها الفنان لدورا بين عامَي 1939 و1945 والتي تتميّز بتشويه معالم وجهها وشكل جسدها وفقاً لأسلوب هندسي تكعيبي جديد لن يلبث أن ينتشر في كامل أعماله اللاحقة.
ويتوقف المعرض أيضاً عند المسألة الأسطورية التي تعبر علاقة بيكاسو بدورا وتتجلى في كامل الأعمال التي حققها عام 1935. إذ سيتماثل الفنان بصورة المينوتور الذي يتحوّل نموذجاً ومرآة لبورتريه ذاتي متعدد الأشكال. صدى لطقس مصارعة الثيران التي ولع بها بيكاسو منذ صغره، يمكن للمينوتور أن يرمز للتسلط الجنسي، لفعل الخلق أو للبربرية السياسية الحديثة. ومنذ بداية علاقتهما، يُمثّل الفنان دورا على شكل مينوتور أنثى، كما في الرسم الأول الذي خصه بها والذي تظهر فيه بقرنين على رأسها وبوَبرٍ يعلو جسدها، باردة الأعصاب، تعكس الضوء بواسطة يدها المفتوحة وتتصارع مع الشمس فتعميها وتطفئها. وبسرعة تأخذ دورا في لوحات ورسوم بيكاسو ملامح عصفور أسطوري (le Sphinge) تجتمع فيه رشاقة طيران الفينيق والجرأة الملغّزة للناطقة بأجوبة الآلهة (l'oracle)، أو عصفور برأس مينوتور، كما في لوحات "العري المنجَّم" و"نساء تتبرّجن" والمرأة والطبل".
ومن بين الأعمال الفنية الكثيرة المعروضة، تستوقفنا منحوتة بعنوان "رأس امرأة" هو بورتريه لدورا ضمن أسلوب المنحوتات الكبيرة التي حققها بيكاسو عند بداية الثلاثينات على صورة صديقته السابقة ماري تيريز. كما يستوقفنا الريبورتاج الفوتوغرافي الذي حققه دورا حول مختلف مراحل تنفيذ لوحة "غرنيكا" (1937) الشهيرة، والذي يُعتبَر الأول في تاريخ الفن الحديث الذي يتناول عملاً فنياً في طور الإنجاز. فبدلاً من الاكتفاء بتصوير اللوحة تدريجياً وفقاً لتحوّلاتها، تتدخّل دورا بواسطة المونتاج في سيرورة خلقها. إذ سيأخذ بيكاسو بعين الاعتبار قواعد وصُدَف عمل صديقته الفوتوغرافي، كطرق الإضاءة وضبط الصور وترتيبها، أثناء تشكيله هذه اللوحة.
ويركّز المعرض بشكل خاص على الأعمال الفنية التي حققها الفنان خلال الحرب الأهلية الأسبانية والتي تبدو، مقارنة بأعماله السابقة أو اللاحقة، ذات طابع دعائي ونضالي، مثل لوحة "حلم وأكذوبة فرانكو" أو "غرنيكا" التي رسمها مباشرة بعد قصف الطيران النازي مدينة غرنيكا الأسبانية، أو لوحة "وجه امرأة مستوحى من حرب أسبانيا" التي رسمها بعد المجازر التي قامت بها ميليشيات موسوليني بحق سكان مدينته الأم مالاغا، أو لوحة "القط والعصفور" التي ترمز إلى سقوط مدريد عام 1939وفي جميع هذه اللوحات، نجد وجه دورا حاضراً دوماً. فبالنسبة إلى بيكاسو: "دورا هي امرأة تبكي. خلال سنواتٍ رسمتها بأشكالٍ معذبة ليس لأنني ساديّ أو لمتعة ما. إنها طبيعتها العميقة". ولكن في سلسلة الدراسات التي تسبق لوحة "غرنيكا والتي تظهر فيها للمرة الأولى رؤوس "النائحات"، نشاهد "رجلاً متوسِّلاً" واحداً رافعاً يديه ويتميّز بنفس مواصفات الوجوه النسائية: رأسٌ مقلوبٌ إلى الخلف، فمٌ صارخ، لسانٌ مشدود... والمتأمل في هذا الرجل يلاحظ أنه بيكاسو بسرواله المقلّم. وكأنه بهذا الرسم يريد كشف الرابط العميق بينه وبين موديله (دورا) المستخدم غالباً كي يُعبّر عما يريد هو الإفصاح به، أي رجلٌ يبكي وطنه الدامي. فالمرأة بالنسبة إليه، أكثر من الرجل، هي ضحية الحرب وتبدو بالتالي كالحَمَل المرصود للأضحية الذي سيُشرّح بيكاسو أيضاً جسده في سلسلة رسومٍ عام 1939. وسيؤكّد الفنان هذا الرابط بين وضع المرأة والحمل في موضوع "الطبيعة الميتة" الذي سيعالجه انطلاقاً من عام 1939 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية في لوحات تنصهر داخلها ملامح دورا مع رأس حيوان مقدَّم كأضحية، كما في سلسلة "أباطيل العالم".
وتختم المعرض لوحة "المقبرة الجماعية" (1945) التي استوحى بيكاسو مراجعها من لوحة بوسان "مذبحة الأبرياء". لكن العنف فيها يبدو مركّزاً داخل مشهد عائلي مأسوي. وتشير دورا إلى أن أحد مصادر وحي بيكاسو لهذه اللوحة هو فيلم إسباني حول قضاء عائلة بكاملها داخل غرفة خلال قصف مدريد عام 1937. ويُشكّل هذا العمل الفني الذي بدأه بيكاسو قبل دخول الحلفاء إلى مراكز الاعتقال النازية، مرآة لمآسي الحروب وفظائعها.
المستقبل
الخميس 27 نيسان 2006