إصدار جديد للشاعر والناقد السريالي الكبير ساران ألكسندريان

انطوان جوكي
(باريس)

لعل فيكتور براونر (1903 ـ 1966) هو الفنان الأكثر غرابة بين كبار فناني القرن العشرين. فعلى الرغم من النصوص النقدية الجيدة التي تناولت فنه والمعارض الكثيرة التي خصصت له إلى حد اليوم لا يزال الغموض يلفّ تشكيلاته الباطنية ولوحاته الإيروسية المدهشة. وربما هذا ما دفع الشاعر والناقد السريالي الكبير ساران ألكسندريان، صديق براونر الحميم ومفسّر أعماله الأول، إلى إصدار كتاب جديد حوله يتضمن نصّه الشهير، "فيكتور براونر الملهم"، وعدد من النصوص التي سبق وصدرت في كاتالوغات معارض براونر الاستعادية، بالإضافة طبعاً إلى نصوص جديدة تشكّل خلاصة أبحاث ألكسندريان حول ذلك المبدع السريالي الآخر.

ويحتل نص "فيكتور براونر الملهم" القسم الأكبر من الكتاب. ولا تكمن أهميته فقط في كونه أول كتاب يصدر حول براونر، وكان ذلك عام 1954 لدى دار "دفاتر الفن"، وإنما في مضمونه العميق والمنهج النقدي الطليعي الذي سيستخدمه ألكسندريان لشرح أعمال الفنان وطموحاته الفنية ولكن أيضاً الفلسفية. ولفهم هذا النص الساطع وطبيعته الفريدة لا بد من التوقف أولاً عند ظروف ولادته. ففي كانون الثاني 1947 كان أفراد المجموعة السريالية في حالة هيجان كبير لتنظيمهم "المعرض السريالي الدولي" في غاليري "ماغ" الشهيرة. وسيكتب ألكسندريان، الذي كان آنذاك في الثامنة عشرة من عمره، رسالة طويلة إلى أندريه بروتون تعجبه لدرجة يدعوه فيها إلى المشاركة في كاتالوغ المعرض. ويقرأ بروتون تلك الرسالة للمحيطين به فتفتن بشكل خاص براونر الذي ما إن يلتقي بألكسندريان أثناء محاضرة تريستان تزارا حول السريالية، في آذار، حتى يدعوه مباشرة لزيارة محترفه. ومن زيارة إلى أخرى، يسحر براونر ألكسندريان، وكان آنذاك من عمر والده وإن كان يتصرّف معه كأخ ذي روح مراهقة. وستتطوّر صداقتهما لدى تعاونعهما في تنظيم "المعرض السريالي الدولي" الذي كان براونر أحد نجومه. كما ستزداد ثقة الفنان بألكسندريان الفتى حين يُصدر هذا الأخير بيانه "شعر وموضوعية" الذي سيجعل منه ممثل الجيل السريالي الصاعد. وعند نهاية العام ذاته، يشارك الإثنان في مشروعين كبيرين: تأسيس صحيفة N?on ومجلة Sup?rieur Inconnu التي كان بروتون يحضّر عددها الأول والتي لن ترى النور إلا في التسعينات على يد ألكسندريان نفسه. ونظراً للاحترام الذي كان يكنّه بروتون لبراونر، يطلب هذا الأخير منه في تلك الفترة كتابة كتاب حول فنّه بهدف تنشيط مبيعات لوحاته. ويقول ألكسندريان في هذا الخصوص إن براونر لم يدرك أن هذا الزعيم الروحي لطائفة من الفنانين لم يكن قادراً على تحرير كتاب حول واحد منهم من دون أن يثير مطالب جميع الآخرين. ولدى تسلّم ردّ بروتون السلبي في رسالة رقيقة وصريحة، ينهار براونر ويمرض، الأمر الذي يوضع ألكسندريان عفوياً، لدى مشاهدته صديقه الفنان في هذه الحالة، إلى الالتزام بتحقيق هذا المشروع شخصياً، ولن يلبث ألكسندريان أن يشعر بأنه سجين قراره. إذ كان يتوق إلى أن يكون كاتباً كاملاً فيحقق روايات وأبحاثاً وكتب تاريخ وليس فقط نصوصاً في النقد الفني. وسيدفعه ذلك إلى تحويل مشروع الكتاب إلى بحث في "علم الجمال الأنطولوجي" (Trait? d'esth?rique ontologique) بدلاً من استخدام النقد الفني التقليدي في مقاربته لفن براونر. وبما أن "الانطولوجيا" هي علم الكائن، فإن الجمالية الانطولوجية تقوم على تحديد كيف يسمح الرسم في فهم الكائن. وسيعرض ألكسندريان في هذا البحث مبادئ نقد فني مبني على التحليل الوصفي للوحات والكشف عن دوافع الفنان الوجودية. فبالنسبة إليه: "لا يمكن شرح حياة الفنان بواسطة أعماله أو تفسير أعماله بواسطة حياته، بل يمكن تحديد الإثنين معاً بواسطة مشروع كينونة أساسي للفنان يتوجّب دراسة شروطه. هكذا، يبدو الناقد الفني كمشاهد أخلاقي يضطلع بمهمة خلق كامل أعمال الفنان من خلال الخطاب أو الفلسفة اللذين تحتويهما". وتجدر الإشارة إلى أن النص الذي سيصدر في ربيع 1954 ليس سوى مختصر عن المخطوط الأولي الهائل الذي ينقسم إلى أربعة أجزاء وأربعة عشر فصلاً يحلل ألكسندريان داخلها لوحات براونر الوحدة بعد الأخرى ما أن كان ينتهي هذا الأخير من رسمها، مستخرجاً خلاصتها عبر استحضاره لتعاليم وفلسفة الطاويّة (le tao?sme) واليوغا التنترية (tantrique) وظواهرية (ph?nom?nologie) الفيلسوف الألماني هوسرل.

ومن خلال هذا النص، كما من خلال النصوص الأخرى التي يحتويها الكتاب، يبيّن لنا ألكسندريان كيف أن براونر، مثل هولدرلين وويليام بايك وأرتو الذين روّعوا الكتابة من أجل فتح واحة عطشهم للمطلق، سيُعنّف لغته التشكيلية لدفعها إلى الإفصاح عن أرهف حركات النفس، مستسلماً بعفوية لمسألة ملاحقة جوهر الأشياء الفانية. وبالفعل، وبهدف الكشف عن ماورائية الأشياء ونقل ما يدور داخله على سطح لوحاته، سيضحي الفنان باستمرار بسعادته وصحته وراحته وشهرته وحتى بتجربته المكتسبة، مجبراً الرسم عمداً على محاولة المستحيل، أي قطع عقدة المشاكل المريرة التي تخنق الحياة البشرية وإحلال الحقيقة والخير بقوة القلب، وإن كلّف ذلك فناء الرسم ذاته. ويعتبر ألكسندريان أنه من الطبيعي أن ينتج عن هذه المغامرة المؤلمة والجريئة أسلوب رائع، خصوصاً وأن رسم براونر تميّز دائماً بوضوحه ودقته لارتكازه على الجزالة والتباين الضروريين لتحويل إمكانيات الكينونة إلى صور. مأسوي، محطماً داخل أهوال شعور بالكارثة، مدفوعاً بهاجس خلع جدية قيود الوجود والتغلّب على القدر الغاشم بواسطة المرح والطرافة، يسعى براونر عبر أعماله إلى بلوغ تأمل بصير أو حلم رؤيوي حول مصير الواقع البشري.

لهذا يبدو رسمه محبوكاً بفلسفة أصيلة لدرجة يمكننا داخله قراءة قصة ضرورة التفلسف في العلامات المستحضرة أو المبتكرة. ولا يقصد ألكسندريان بالتفلسف الإنكباب على جدال المدارس الفلسفية وفوارقها، وإنما القدرة على التقدّم في اتجاه المعنى الشامل للحياة بواسطة وسائل معرفية بسيطة وطبيعية. لكن من خلال خيار الأشياء الممثلة وطابع قوانينه التعبيرية، يظهر استخدام براونر لميدانه الخاص. فهو لا يعرض العالم كما هو وإنما كما يسعى إليه ذاتياً. ألا تكمن حقيقة الفن بالتحديد في إثبات أن العالم غير موجود بصرف النظر عن إدراك يدعوه بفعل الضرورة؟ يشير ألكسندريان في هذا السياق إلى جملة لبراونر كان يكررها باستمرار: "أريد رسم جوهر البائد". أليس ما يزول هو تلك الاتصالات الجامحة التي تربط الإنسان بالأشياء التي تثيره خلال فترة حياته؟ من هذا المنطلق، يتحول الخيال، من مجرد هروب، إلى درب تقود إلى قلب العالم، حيث يتحقق انصهار الممكن والواقع.

وإذا كانت "الواقعية الفكرية" هي الموقف الذي يرتكز على رسم الأشياء ليس كما هي وإنما تبعاً لإدراكنا لها، لا شيء يصلح لتحديد أسلوب براونر أفضل من تسمية "الواقعية النفسية" التي تتضمن الموقفين اللذين يتمسك الفنان بهما معاً : فمن جهة، نراه يرسم الحياة النفسية بشكل عام كواقع مرئي بأشكاله الفريدة وبنياته التي يمكن للنظر أن يحددها تماماً كبنيات العالم، ومن جهة أخرى، يرسم الواقع الخارجي ليس كما يتجلى على شكل مشهد غير شخصي وتذكر كما يمكنه أن يظهر حياً بالنسبة إلى كائن يضع فيه معتقداته ومشاعره. وبرسمه على هذا النحو، يشكّل براونر لنفسه رؤية عميقة للأشياء، رؤية تتناول النتائج الأخلاقية لهذه الأشياء داخل الإنسان، بدلاً من مجرّد تقييم مظاهرها الفجة. ويذكر ألكسندريان في هذا السياق جملة كان براونر يكررها أمام المقربين منه: "ارسم حالة ذلك الذي ينظر داخل كائن ما ويصيبه الدوّار". إنها في النتيجة الحالة التي أنجبت جميع أعماله. فبتأملنا لهذه الأخيرة، نتخيّل بشكل لا يقاوم مبدعها غائصاً في أغوار الكينونة وساعياً إلى وصف ما يراه بصدق، على الرغم من الضيق الناتج عن هذه الوضعية. مهمة قديس أو بطل، ممتلئة نعمة أو لعنة، بفضلها يخطو الفن فوق اللعب والممارسة المنهجية ليصبح قمة المعرفة المتقدة.

باطني النزعة، يستخدم براونر رموزاً كثيرة في عملية خلقه يتوقف ألكسندريان عند عدد منها، بدءاً بالأفعى التي ترمز إلى اللاوعي النموذجي (arch?typique) وانتهاء بجميع الأشكال التي تستحضر بشكل عميق "الكلمة المبدعة" والأرض ـ الأم واتحاد الماء والنار وتلاقي الذروة والنظير. أما بالنسبة إلى عظمة إلهامه فتبدو مرتكزة على التأمل الحاد الذي تنتهي به جميع ظواهر التلقين (initiation)، أي المعرفة الصرفة.

رسم براونر غني إذاً بالمواد الذهنية بقدر غناه بالمواد الرسامية. لكن ذلك لا يعني أنه علينا إجبارياً "فهم" ما أراد رسمه كما نحاول تفسير رسالة باللغة الهيروغليفية. إذ تفتننا أيضاً عملية تصويره نظراً إلى ابتكاراته على المستوى التشكيلي. رسام قبل أي شيء، حتى حين كان يغمر بفنه داخل مناطق كانت ممنوعة على الرسم قبله، لم يختر براونر سوى أساطير ورموز قابلة للتمثيل من خلال تدفق الخطوط والألوان. فسحر أعماله الغامض لا ينبع من جماليتها المتعمدة وإنما من أحلام اليقظة السامية التي تحييها.

على طول الكتاب، يبيّن لنا ألكسندريان كيف أن براونر مصدر فني وفلسفي لا مثيل له يمنح الأشكال ذكاء جديداً والإمكانات صياغة تعتمد على مبدأ المفاجأة الدائمة، وكيف أنه مبتكر لمنظور رسامي جديد غايته اختبار ما يتخطى الإدراك بواسطة الرسم. وربما لهذا السبب تبقى أعماله غامضة يمكن أن يُقال الكثير حولها، بعكس أعمال فنانين كبار آخرين مثل بيكاسو وميرو وارنست التي استهلكت مضامينها. وهذا سيدفع ألكسندريان في خاتمة كتابه إلى تحديد براونر كأحد أكبر فناني القرن الواحد والعشرين، مستشهداً بلوحاته المشمّعة التي تبدو وكأنها تمثل مشاهد من حضارة مستقبلية، ولوحاته التي تشبه رسوم كهوف من عالم الغد.

الكاتب: ساران ألكسندريان
الكتاب: فيكتور براونر
دار النشر: أوكسس (Oxus)-

المستقبل - الثلاثاء 16 آذار 2004 - العدد 1546