لبني الأمين، فائقة الحسن، نبيلة الخير ثلاث فنانات من البحرين واناهيد سركيس، فنانة من العراق قدمن تجربة جماعية جميلة في غاليري الكوفة الأسبوع الماضي. وهي التجربة المشتركة الثانية بعد تجربة عام 2003 في صالة دار البارح في البحرين، بين الفنانات الأربع، والرابعة بين الفنانات الثلاث من البحرين.
أربع فنانات مشغولات بقضايا مختلفة ويمارسن التجريب في الفن علي مستويات متعددة اجتمعن للمرة الثانية بعد معرض مشابه في البحرين لمواصلة الحميمية في الفن والتواصل في اكتشاف الحدود الواصلة بين لغة الفن والرموز والأشكال والسطوح والألوان. نساء جميلات يرسمن فنا جميلا، بمصطلحات الفن، ويقدمن تجاربهن بعفوية وصداقة ممزوجة بالتجربة والطزاجة والاستعادة المتجذرة في المكان، فنانات يبحثن عن فضاءات للحرية، لخلق واقع فني خاص، قادر علي الاستجابة لحاجة المرأة في البحرين في مثال الفنانات الثلاث، أو التوزع بين المنفي وحاجة الفن كما في حالة العراقية. نساء يحلمن، ويرسمن إسقاطات الحلم علي مستوي وفضاء اللوحة، ويعملن من خلال مزج الألوان علي استبصار التجربة وإعطاء المشاهد متعة بصرية خاصة. إعمال تتراوح وتتنوع ولكنها منسجمة مع بعضها البعض، حيث يتجاورن في المصير والرؤية، ويمنحن المشاهد أبعادا عن التجربة التي لا تري إلا عبر مزيج الألوان، والثيمات.
43 عملا فنيا أسهم في تشكيل حقل من المجالات البصرية والفضاءات اللونية التي انتشرت علي القماش أو علي الخشب القديم وفي مجسمات ووجوه تعكس ما يدور في ذاكرة الفنانات من خوف وقلق وانفتاح علي الأمل، وتوتر وفرح. كل فنانة عكست رؤيتها للفن عبر سلسلة من التركيبات اللونية، التي عكست بالضرورة مساحات من الذاكرة التي تنفتح علي الحاضر والمستقبل. كل فنانة مشغولة بأعمالها ولها حقلها الخاص في التجريب، إلا ان ما يجمع الفنانات الأربع هو قدرتهن علي التواصل والعمل المشترك والانسجام حتي في حالة تعارض الثيمات الفنية والموضوعات التي يستند عليها الفن.
تبدو حركة اللون والتشكيل وتكوين الموضوعات والأشكال، سواء أكانت صورا، أو عملا علي الخشب، أو تجسيما، مدروسة حيث تعتني كل فنانة بدرجات اللون لكي تقدم موضوعها وصورها والقها الفني. وأمام هذه المجموعات يكتشف المشاهد عددا من المستويات اللونية ومساحات جميلة من الضوء ومدي واسع من التشكيل اللوني الباهت والصارخ انفتح علي مدي واسع من الحقول والانعطافات في الذاكرة. الفن الذي تقدمه الفنانات ليس بالضرورة فنا سياسيا، ولا فنا يدور في إطار التجربة النسوية، فكونهن فنانات من ناحية العنصر الجنسي لا يعني أنهن يصدرن برؤيتهن للعالم من هذا الموقف. فنحن هنا أمام عدد من الأفكار التي تعكس بالضرورة تبصرا ووعيا من الفنانات بها والعمل الدائم علي اكتشافها.
وكون الأعمال غير سياسة شعارية لا يعني أيضا عزلة الفنانات عن واقعهن ومدارهن الزمني، فكل واحدة تقدم رؤيتها للعالم بطريقة تعكس تفاعلها مع الواقع، سواء كان هذا التفاعل عبر وسيط القراءة أو الاستماع والمشاهدة والمشاركة. ولكن تمظهر هذا التواصل ينعكس في النهاية علي مدي اللوحة وانسيابها اللوني.
فائقة الحسن:
البحث عن المرأة
فائقة الحسن، تنشغل في لوحاتها بالأشكال والشخوص، ويحضر هنا في لوحاتها المعروضة رمز الوجه والطربوش، الذي بدا في أكثر من شكل ولون، حيث عملت الفنانة علي البحث عما في داخل الطربوش، الذاكرة والقلق من خلال مزيج من الألوان والتشكيلات اللونية التي بدت فاقعة في بعض الأحيان وهادئة ومتمردة في أحيان أخرى، وفي لوحة تعكس الفنانة التمرد والخلق والخوف من خلال التركيز علي حركة الأجساد شبه العارية التي تتداخل وتتآلف فيما بينها. تقول الحسن ان شغلها الدائم هو المرأة، العمل علي اكتشاف وضعها ليس بصفتها امرأة من البحرين أو الخليج العربي ولكن بصفتها العامة ككائن عالمي، والبحث عن المرأة يقود الفنانة الحسن إلى التفاعل مع تجربتها، الذي يصل أحيانا إلى حد التماهي معها، وهي في تعاملها مع المرأة كموضوع لا يعني أنها تحاول الدخول إلى قضاياها المعروفة من خلال التشكيل، ولكنها تحتفل بالمرأة كموضوع قابل للتطويع والقولبة علي سطح اللوحة، ويتشكل بأشكال وهواجس أخرى عبر مساحات اللون، ولاكتشاف هذا الموضوع السهل تعمد الفنانة لاستخدام الرصاص في عدد من المرات لكل توصل ما تعتبره تفاعلا بين عالم الفن ـ الفنانة، وعالم المرأة باعتبارها موضوعا، وجمهورا في الآن ذاته. فائقة الحسن تقول أنها تستلهم لوحاتها من قراءتها ومشاهداتها اليومية وتسلتهم كثيرا من ذاكرتها. والحقيقة ان كل الأعمال والفنانات مشغولات بالذاكرة إلا ان تمظهر هذا الموضوع أو الفكرة يختلف من واحدة لأخرى. تقترب أعمال فائقة من الانطباعية ولكنها انطباعية خاصة تقف خارج التصنيفات التي يشير إليها هذا المصطلح، فاللوحات وعلي الرغم من توزع الشخوص، إلا ان فيها درجة عالية من التجريد، فالفنانة تترك الكثير مما لم تقله للمشاهد، وهي لا تحرم مشاهدها من لذة اكتشاف ما يدور في خاطر صاحب الطربوش في أشكاله الأربعة. وعن حريتها كفنانة في استخدام الموضوع أو الثيمة في أعمالها، تشير الحسن إلى أنها لم تعان من أي قدر من الرقابة علي إبداعها الفني، فباستثناء حالات فردية عبرت عن شجبها لـ تحرر الفنانة في تشكيل الأجسام وفصاحتها في التعبير عنها، إلا أنها لم تعان من أي قلق رقابي، فهي في داخل اختيار الموضوع تظل قادرة علي اختيار ما تراه مناسبا للتعبير الفني وقادرا علي رسم انفعالاتها الذاتية. فائقة الحسن فنانة حساسة، من ناحية شعورها بالآخر، هذا الإحساس يحدد درجة انفعالها مع موضوعها عبر طبقات اللون، ومساحات أو مسارب الضوء فيه.
لبني الأمين:
اكتشاف المكان وخشب الذاكرة
لبني الأمين، مشغولة أكثر من الفنانات الأخريات باكتشاف المكان، والذاكرة أيضا ولكن اكتشافها للمكان يقوم علي البحث في أشيائه، وما يشغلها في هذا المجال هو خشب الابواب، لا تذهب هنا للنجار وتطلب منه قص وتوظيب مواد خشبية، ولكنها تذهب بعيدا في اكتشاف المكان في البحرين، المثقل بالتاريخ والحياة والتنوع، حيث تقوم بالبحث عن الابواب القديمة، ورمزية الباب مهمة، لأنه البوابة للدخول لمرافئ الذاكرة. ولكن ما يميز هذه التجربة هي انسياحها ليس علي نسيج السطح ولكن حميميتها واقترابها من الأشياء، عبق الأرض، والدخول في الأشياء الصغيرة والخاصة التي كانت تحدث خلف الابواب، صمت وصراخ، الم ورغوة الشهوة، شهوة الحياة في تألقها، همس وانين، أصوات عذبة وبائسة. الخشب أو مادة الفن هنا هي تاريخ المكان في البحرين، والفنانة تحاول الحفاظ علي هذا التاريخ بإعادة انتاج ذاكرته، حيث ترسم عليه مجرات، وتكتشف أبجدية العشق والحركة والصوت، وتستند عليه لكي تعيد سرد الماضي الذي يشع من جديد، مثل قناديل الشوارع التي كانت تهتز في ليل العواصف لتنير للمارة الطريق.أعمال الأمين تجريب على سطوح خشب التيك المستخدم في القديم في البحرين، حيث تبرز من بين طبقات اللون المتعددة تجاعيد ومنعطفات الذاكرة.
مثل لوحات الحسن لا تكفي العناوين للدخول عبر بوابة الذاكرة إلى موضوعات الأمين، فاللون والأشكال التي تبدو في مجالها تراثية، حيث يبدو التراث معاصرا وجميلا وليس بالضرورة مجيدا. تعكس الابواب تجارب مختلفة، فالباب قد يعود لقصر الملك، أو لعائلات تقاتلت علي خطوط الجيرة أو بيوت عاشت فيها أرواح هادئة حيث تبحث الفنانة في دفتر العائلة، وقد يكون الباب مساحة لكل المجرات، الناس والأشياء، ما يقف خلف الباب يحدده اللون، انسيابه علي خطوط السطح، كذلك طبقاته وأشكاله المتعددة، فقد تقف خلف الباب القديم فتاة تنتظر الخروج من مداها الوحيد ـ من ساحة الدار إلى باب الدار، حيث يتشكل في داخل هذه المساحة حقل من الذكريات وتوق للتطلع والخروج لعوالم مختلفة.
نبيلة الخير:
امرأة علي حافة الخطر
نبيلة الخير، في تركيزها علي تقاطيع الوجوه والبور تريه الذي تجسمه علي خشب وتجسيمات مختلفة تبدو أكثر انشغالا بما تقول عنه المرأة التي تقف علي حافة المصيرـ الخوف، فهي مثل زميلاتها في الثلاثي البحريني تستند في فنها علي الذاكرة بما فيها من تعرجات وانفتاحات، وعبر رسم الوجه الذي هو البوابة للعقل الروح تبحث الخير عن عوالم الخوف في قلب المرأة، وهو الخوف الذي يبدأ مع الفتاة هذا الكائن الجميل منذ الولادة، فالولادة خوف، والخروج من البيت خوف، والدخول عالم المدرسة مرحلة جديدة من القلق، وعندما يطرق باب الأهل غريب يطلب يد الفتاة هذه تدخل في مرحلة مخاوف، تجسد أعمال الخير هذه الموضوعات حيث يبدو الوجه في مدي اللوحة، عنصرا فيها، جزءا منها، يقف علي الطرف، يخرج علي استحياء. ما يميز لوحات الخير، ليس الدفء، الذي قد يكون انثويا ولكن التفاصيل التي تدخلها الفنانة بعناية علي حواف بل وفي داخل مركز اللوحة، الوجه، فتعبير الوجه يبدو غريبا بدون هذه الإضافات والتفاصيل التي تصور طقوس الفرح والحزن والترقب، ففي أعمال أخرى سابقة رسمت الفنانة عالم المرأة عبر سلسلة من اللوحات صورت فيها مراحل دخول الفتاة إلى عالم الانثى، حيث رسمت التحول وأثره على الفتاة، المرأة، فهي من مراقب للعالم من خلال فتحة الشباك الدريشة إلى عروس في خلوتها الأكيدة، وتدخل الفنانة عالم المرأة في حميميته ولقائه مع الآخر، حيث تبدو العلاقة في شكل مثال يجمع ادم وحواء والقارئ يعثر في هذه اللوحات علي درجة عالية من التوتر والقلق، أحلام كابوسية، وفي كل اللوحات تقريبا هناك ترقب، نظرات سارحة في المدى تتساءل عن القادم، إنها المرأة في قدريتها وتقبلها لزمانها وشرطها الذي عاشت فيه أو فرض عليها. هنا تعبير في اعلي درجاته، ولكنه تعبير جميل معاصر، ألوانه الصارخة الدافئة تعكس جدل المرأة، وما يثير في وجوه الفنانة أنها تعكس أي وجه في العالم، مع ان هناك سيادة لشكل معين من الوجه، عيون واسعة، وجه طويل، انف مميز وشفاه غليظة نوعا ما، وعلي حواف هذه الصور تنويعات كثيرة عن البرقع، الزينة، وغير ذلك من أشياء الفتاة. نبيلة الخير تنهل كثيرا من ذاكرة الطفولة، قصصها والحكايات التي همست بها الأمهات للأبناء، وهي تعمل علي مواصلة سرد حكايات الطفولة التي تبدو بمداها النوستالجي، بصريا.
اناهيد سركيس:
زيارة الحقل
الفنانة الرابعة، العراقية اناهيد سركيس، مشغولة منذ فترة بدراسة السطح، ففي معرض أخير لها العام الماضي قدمت زيارة للحجر، وهي في مشاركتها في هذا المعرض تواصل اكتشافها للحجر، وفي هذه المرة الفخار، فعبر تشظي إبريق أو إناء الفخار وشظاياه تكتشف الفنانة عنه وتكتشف الفن، فالانشغال بالفخار هو انشغال في التجريب والتلاعب بالخطوط والأجزاء علي سطح اللوحة، وتبدو الفنانة قادرة علي نقل اثر التشظي في ذاتها، وتوزيعها علي مساحات من اللون والأشكال الهندسية العشوائية علي مساحة اللوحة، أو سطحها، ويتحول الفخار المتشظي الذي لا نراه بل نشاهد انعكاساته في داخل الفنانة، إلى سلسلة من المدارات اللونية التي تعكس القلق والانفتاح والأمل، التجربة الفنية تبدو كحقل مفتوح لكل الاحتمالات والقراءات وقابلة للتشكيل بحسب درجة الانفعال والقلق والأمل. تشارك الفنانة هنا في ست لوحات وهي أعمال متسلسلة، تبرز المدى الذي وصلت إليه الفنانة في البحث والاستقراء لمدي التجربة الفنية وقابليتها للتطويع والتشكيل. وأعمالها مريحة للعين، وفيها قدرات بصرية جميلة. وتشكل مع الأعمال الأخرى للفنانات الثلاث سيمفونية لونية جميلة، تعكس قلق المرأة المعاصرة واهتماماتها وقلقها وبحثها عن أدوات لإبراز ذاتها، وانسياحها في الواقع. الفنانات هنا لا يهربن من الواقع بل يواجهن بتفاؤل ينعكس علي درجة لون انسيابه، كتل اللون هنا ليست مبعثرة علي سطوح غير متناسقة ولكنها منسابة بشكل هادئ وجميل يعكس بالضرورة حرفية عالية في التعامل مع فضاء اللوحة، السطح، المادة، خشب، مجسم، قماش أو ورق، والألوان المخلوطة هي الأخرى بعناية، وكلها تتفاعل لتقديم موضوع فني غير تقليدي، موضوع قابل للقراءة من أكثر من زاوية ومجال. حتي المواد الزخرفية، أو الديكورية التي تبدو في بعض الأعمال، تعكس مدي أوسع يتجاوز العادية والمألوف. هنا فن يتعامل مع العادي والمألوف، ويظل في النهاية خارج المألوف والعادي واليومي. فن مليء بالتفاصيل ولكنه يبتعد عن فوضي الديكور والزخرفية اللفظية/ الفنية. وهو فن يمتع العين، والحديث مع الفنانات من البحرين ممتع وجميل فيه الكثير من الحميمية، ولهذا السبب استمرت هذه التجربة أو التعاون المشترك في البحرين ولندن بين الفنانات، فهن في رحلة دائمة للبحث عن أسرار المرأة، وأسرار المكان، والتنقيب في الذاكرة، ومزجها برائحة الخشب المعتق الجميلة التي تحمل معها رائحة الأرض، الرمل، وفيها من حرارة الواقع وحرارة التجربة الشئ الكثير.
الفنانات :
فائقة الحسن: مواليد البحرين، خريجة جامعــة بغداد، شاركت في العديد من المعارض لصالح الجمعيات الخيرية.
شاركت في معارض جماعية في البحرين والأردن.
لبني الأمين: ولدت في المحرق، البحرين ودرست في القاهرة، أقامت عدة معارض شخصية في البحرين (1999)، ودمشق (2000)، كما شاركت في عدد من المعارض الجماعية في البحرين ومصر. والمغرب، ومقدونيا، عضو في جمعية البحرين للفنون التشكيلية.
نبيلة الخير: ولدت في المنامة، البحرين، أقامت معرضين شخصيين، في المنامة (2002)، والكويت (2004)، وعددا آخر من المعارض المشتركة، في الكويت، الصين، وعمان. وتشارك في معارض وزارة الإعلام منذ عام 1989، وأعمالها مقتناة في عدد من المؤسسات في البحرين والكويت والسعودية. وحصلت علي جائزة السعفة الفضية في مهرجان القرين، 2003.
اناهيد سركيس: فنانة عراقية، ولدت في بغداد، ودرست في أكاديمية الفنون في بغداد، وأقامت العديد من المعارض الشخصية والجماعية في لندن، وهولندا، والبحرين. وتقيم في لندن.
القدس العربي - 2004/05/24
أقرأ أيضاً: