باريس ـ أنطوان جوكي |
كما عوّدنا متحف لوديف (جنوب فرنسا) النشيط في معارضه السابقة التي تم في سياقها تقديم أبرز التيارات الطليعية التي طبعت الفن الحديث في أوروبا، يُنظم القيّمون عليه حالياً معرضاً ضخماً تحت عنوان "من جايمس أنسور وحتى رونيه ماغريت"، يتألف من ثمانٍ وسبعين لوحة تم استعارتها من متحف "غان" البلجيكي الشهير وتهدف إلى تأمين قراءة شاملة لعملية ظهور الفن الحديث في بلجيكا وتحديد مصادره الداخلية وروابطه الخارجية. ولا مبالغة في هذا الاهتمام بخاصة أنه، كما في الشعر والأدب، للفنانين البلجيكيين مساهماتٍ مهمة عديدة في بلورة الحداثة على الساحة الأوروبية.
وبالفعل، عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تفرّعت الطليعية الفنية في كامل أوروبا مُخلفة فيضاً من التيارات والمدارس والميول المحدّثة. وما لا شك فيه هو أن الفن البلجيكي الحديث قد تأثر بهذا التنوّع المثمر وأثراه. وإذا كانت شهرة بعض فنانيه قد تخطت حدود وطنهم وأحياناً قارتهم، مثل جايمس أنسور أو رونيه ماغريت أو بول دِلفو، إلا أن نشاط معظم الفنانين البلجيكيين المهمين آنذاك لا يزال غير معروف حتى في فرنسا أحياناً! من هنا أهمية هذا المعرض.
ففي الوقت الذي كان الأسلوب الانطباعي في أوجه في فرنسا مثلاً، أي في فترة الثمانينات من القرن التاسع عشر، يظهر في بلجيكا عددٌ من الرسامين الانطباعيين يجمعهم أسلوب يُعرَف بالنزعة التلطيخية(le tachisme) . وسيوجّه هذه المجموعة الرسام جايمس أنسور محاطاً بفرنان كنوف وويلي فينش وغييوم فوغِل وتيو فان رويسلبرغي. وسيعمل هؤلاء الفنانون بواسطة لمساتٍ حرة منفذة بالسكين بشكل أساسي على مادةٍ عجينية ذات ألوانٍ نيّرة وصافية. وسيُطلق عليهم اسم "مجموعة العشرين". أما القاسم المشترك الآخر بينهم فهو انتقادهم للاتباعية والتقليدية الفنية. كما أن تأثير الانطباعية الفرنسية كان واضحاً عليهم من خلال دعوتهم إلى بلجيكا لرسامين فرنسيين مثل كلود موني وجان رونوار (1886) وبرت موريزو وبيسّارو (1887). ولن يلبث الإحساس البصري أن يطغى على أبحاث مجموعة بلجيكية أخرى تنتمي إلى النزعة الأضوائية (le luminisme) ويتقدّمها الرسام إميل كلاوس منذ عام 1895. لكن هذا الأسلوب يبقى أكثر واقعية وبالتالي أكثر تقليداً من الانطباعية الجديدة التي ستظهر في بلجيكا في الوقت ذاته وتعتمد الأسلوب التنقيطي. وسيكتشف هذا الأسلوب في باريس الرسام البلجيكي إميل فِرهايرن وتعرض "مجموعة العشرين" أعمالاً فرنسية تنتمي إليه في صالونها الخاص في بروكسيل عام 1887. ومن روّادها ويلي فينش وفان دو فلد وجورج لامِن وفان رويسلبرغي. وتجدر الإشارة إلى أن هذه النزعة ستُشكل لكثير من هؤلاء الفنانين مرحلة انتقالية نحو التعبيرية أو الرمزية.
وبالفعل، وفي الوقت الذي كانت الرمزية تلهم كامل أوروبا، سيعتمد هذا الأسلوب في بلجيكا مجموعة فنية نشيطة تحمل اسم "الجمالية الحرّة" وتهدف بأعمالها إلى الكشف عما هو مستتر خلف الواقع الظاهر، بعيداً عن الشهوانية السطحية التي تميّز عمل الرسامين الانطباعيين. وسيستخدم رسامو هذه المجموعة القلم أو الطبشور أو الألوان المائية أو الباستل، لقدرة هذه الأدوات على تكوين مناخ لوحاتهم غير الواقعي. ونذكر من هؤلاء الرسامين فرنان كنوف وجايمس أنسور وويليام دو غوف. كما سيتّبع هذا الأسلوب مجموعة بلجيكية أخرى تنعزل في قرية نائية للاستجابة لضرورة العودة إلى الأصالة والحاجة إلى السكون والتأمل. وتتميّز أعمالها بهاجس تصوفي وبساطة في البورتريهات ومشاهد من الحياة الريفية تتسم بواقعية دقيقة. ويمكن تقريب عدد من هذه الأعمال من أسلوب الرسامين "الأنبياء" (les nabis)، كما سيلعب بعضٌ منها دور الرابط مع التعبيرية الهولندية. أما المعارض التي ستنظمها مجموعتا "العشرون" و"الجمالية الحرة" فتؤدّي في بلجيكا إلى اكتشاف فنانين أوروبيين كبار مثل غوغان وفان غوغ وتولوز لوترك، وتيارات فنية طليعية مثل "التوحشية" خلال عامَي 1906 و1907، ثم التكعيبية والمستقبلية.
وعلى الرغم من دخول الطليعية الأوروبية في صلب اهتمامات الفنانين البلجيكيين بين عامَي 1880 و1890، إلا أنهم بقوا عند بداية القرن العشرين متعلقين بأسلوب الانطباعية الجديدة والأضوائية وأهملوا الميول الحديثة. وهذا ما يشرح أيضاً اندراج التيار التوحشي البلجيكي ضمن خط أمثولة بول سيزان وجايمس أنسور وفان غوغ حول "الحصيلة والبنية وتقسيم سطح اللوحة"، حيث نجد الطبيعة حاضرة بشكل كلّي في أعمال ممثليه، يتم من خلالها فقط إثارة المشاعر. أما اللمسات المعتمدة فتعبيرية والألوان صافية ومستوية، بدون مبالغة في تنافرها. ومن أبرز وجوه هذا التيار ريك فوتِرز الذي تتميّز لوحاته بألوان صريحة وشفافة معالجة على شكل مسطحات واسعة ونيّرة، ويتركز بحثه داخلها على ترجمة واقعٍ عابر، وجان بروسلمان الذي يتميّز عمله بفردية تقوده إلى واقعية مختلقة.
ومع أن التيار التعبيري هو حركة نشأت في شمال أوروبا، وفي ألمانيا بالتحديد عام 1905، تحت التأثير المشترك للتيارين الرمزي والتوحشي، وكردّة فعلٍ ضد الانطباعية والواقعية من جهة، وضد النظام السائد وقسوَة العالم الحديث، من جهة أخرى، إلا أنه سيتأخر في الدخول إلى هولندا وبلجيكا إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. وسيتم ذلك على يد مجموعة إميل كلاوس الأضوائية أصلاً وتضم الأخوين غوستاف وليون دو سمات وفريتز فان دن برغي وخاصة كونستان برمكي. فبعد تشتت هؤلاء الفنانين في أوروبا حيث سيكتشفون التعبيرية الألمانية ولكن أيضاً الحركات الفنية الأخرى، يلاحظون لدى عودتهم إلى بلجيكا بأن تطورهم الفردي قادهم في النهاية إلى الأسلوب ذاته. ونلاحظ بسرعة أن هذا الأسلوب يبقى أقل ثورة وعدوانية من أسلوب الفنانين التعبيريين الألمان، يتميّز بتعلقه بالأرض والريف وبقيامه على حصيلة من عناصر تعود إلى التعبيرية طبعاً (تنافر الألوان والمبالغة في خطوطها وتعابيرها وتبسيط مقصود للرسم) ولكن أيضاً إلى التكعيبية والتكعيبية الجديدة. ومع أن أعمال هؤلاء الفنانين غير متجانسة إلا أنهم بقوا متماسكين كمجموعة حول كونستان برمكي بفضل شخصيته الفريدة وأسلوبه التعبيري المادّي. وسيُشكل هذا الأخير لغة جديدة انطلاقاً من تأثيرات مختلطة تعود إلى رسامين مثل تورنر وأنسور ورامبران وتيارَي المستقبلية والانطباعية، ويرسم العالم القروي وشخصيات ضخمة بأيدٍ عملاقة بواسطة مادة غليظة ذات ألوانٍ أرضية تعبّر عن "قوة الوجود الأصلية". وستدوم هذه الحركة في بلجيكا حتى بداية الحرب العالمية الثانية.
وكما في كامل أوروبا، خلال الحربين العالميتين، نشاهد في بلجيكا بموازاة الدادية والسريالية والتجريدية، رغبة في "العودة إلى النظام" وإلى الكلاسيكية والواقعية يمثلها تيار "الموضوعية الجديدة" الذي سيفرض بأسلوبه نظرةً متباعدة تعكس موقفاً بارداً أو ساخراً من المجتمع. ويقترب هذا الأسلوب من "الواقعية السحرية" التي ستتطوّر أيضاً في العشرينات وتجهد في تصوير عالمٍ واقعي وساكِن لا ينتمي إلى حقبة تاريخية محددة بل يعتمد معالجة للفضاء ترتكز على جمودية المشاهد المرسومة مما يخلق شعوراً حلمياً بزمنٍ متوقّف وسكونٍ عميق، يتخطى الموضوع المبتذل. وإلى جانب هذه التجارب، سيشارك الفنانون البلجيكيون منذ البداية بالمغامرة السريالية لاستيعابهم قبلاً حركتي الدادية والتكعيبية المعاديتين بقوة لتمثيل الواقع في الفن. ومع أن معظم السرياليين في أوروبا سيستمدّون وحيهم من اللاوعي حيث المخيّلة والحلم ويعتمدون لتحقيق أعمالهم على اختبارات تلعب الصدفة فيها دوراً مهماً، كالكتابة الآلية وتقنيات المَسْح والحك والنقل الملوّن، إلا أن السرياليين البلجيكيين، باستثناء فان دن برغي، سيروّجون لتصويرٍ شديد الواقعية ودقيق كالصورة الفوتوغرافية ولتداعي صورٍ أو أشياء أو أماكن لا رابط منطقياً في الظاهر بينها. ومن أهم ممثلي هذا الحركة في بلجيكا، رونيه ماغريت الغني عن التعريف والذي يستحضر في لوحاته شخصيات وأشياء وأجزاء واقعٍ لا علاقة بديهية بينها، مرسومة بدقة وواقعية بعيداً عن أي آلية، وبول دِلفو الذي نفّذ لوحاتٍ لا أثر تخريبي أو فكاهي فيها، بل تتميّز بمناخٍ خيالي داخل ديكور واقعي تظهر فيه شخصيات جامدة وغير معبّرة ويصبح فيه الداخل خارجاً والخارج داخلاً.
(*) يدوم المعرض حتى 27 شباط (فبراير) 2005.
المستقبل - الثلاثاء 23 تشرين الثاني 2004