توفّق بين رومانسية ورمزية وواقعية

أنطوان جوكي
(لبنان/باريس)


في سياق المعارض التي يُنظّمها "متحف الحياة الرومانسية" (باريس) دورياً لفنانين كبار لعبوا خلال القرن التاسع عشر دوراً رئيسياً في تطوير فن الرسم قبل أن تقع إنجازاتهم طي النسيان، افتُتح حديثاً معرضٌ مهم لآخر الفنانين الرومانسيين وأكثرهم إثارة وفرادة، جان جاك هينّر (1829 ـ 1905). وتوقفنا عند هذا الحدث الفني اليوم لا يبرره فقط جهلنا التام بوجود هذا الفنان، وبالتالي ضرورة التعرُّف على مساره وتحديد دوره وانجازاته، بل أيضاً وخصوصاً الصدمة الشعرية التي شعرنا بها لدى تأمُّل لوحاته المعروضة حالياً.
وقبل التطرق إلى مزايا هذه اللوحات، لا بد من الإشارة أولاً إلى السبب الرئيسي للإهمال العام الذي تعرّض إليه هينّر منذ وفاته، ونقصد بذلك الشهرة التي عرفها انطلاقاً من عام 1870، واستجابته لطلبيات كثيرة تلقاها من قبل الدولة الفرنسية على أثر هذا النجاح، الأمر الذي أسقط عليه لاحقاً صفة الفنان الأكاديمي. وفي الحقيقة، يصعُب إدراج أسلوب هينّر داخل تيارٍ فني محدَّد نظراً إلى خصوصياته الكثيرة التي امتدحه عليها كبار فناني وأدباء ونقاّد عصره على اختلاف انتماءاتهم وحساسياتهم. فإلي جانب الطابع الرومانسي العميق في لوحاته، تتحلى هذه الأخيرة، خصوصاً خلال مرحلة النضوج، بأسلوبٍ رمزي يضاهي في قيمته أسلوب غوستاف مورو وبوفي دو شافان الذي كان جاره في باريس. والمتأمّل في أعماله يلاحظ أيضاً ميوله الواقعية، ولكن خصوصاً ترجمته الحرّة والشعرية للواقع المُمثَّل، الأمر الذي يناقِض الأسلوب الطبيعي (naturaliste) الذي كان طاغياً آنذاك.
حائز "جائزة روما" الأولى لفن الرسم عام 1858، بقي هينّر وفياً لصالون "جمعية الفنانين الفرنسيين" (الأكاديمي) حتى بعد عام 1888، لكن ذلك لم يجعل منه فناناً أكاديمياً لجملة أسباب، أبرزها: مراجعه التي تتخللها أسماءً كثيرة غير متداولة، مثل الرسامَين كورّيج وبرودون، أسلوبه الذي يتراوح داخل العمل الواحد بين دقّة عالية في التنفيذ ومساحاتٍ معالجة بحرية كبيرة، وخصوصية هذا الأسلوب الناتجة عن تعلّقه الثابت بجذوره التي تعود إلى مقاطعة الألزاس الفرنسية، كما تشهد علية لوحة "الألزاس تنتظر" (1870) التي حققها بعد هزيمة فرنسا، والتي بلغت ببساطتها قدرةً تعبيرية مذهلة، ولكن أيضاً اللوحات المشهدية الكثيرة التي أنجزها خلال زياراته الثابتة لعائلته، والتي تتميّز بطابعٍ غسقي كئيب نظراً إلى تركيزها دائماً على تلك اللحظة التي ترتدي الطبيعة فيها ألونها القاتمة.

واقعي
واقعي النزعة، لم يبحث هينّر عن أمثيلات في فن التشكيل داخل أعمال كبار المعلّمين بقدر ما حاول إدراك منطق ألوانهم. فتأمّله لوحات كورّيج وبرودون، ولكن أيضاً ليوناردو فينشي ورافاييل وكارافاجيو وفيلاسكيز، أثناء إقامته في إيطاليا، تميّز بطابعٍ حسّي غايته فهم طُرُق تركيبهم للألوان وكيفية استخدامهم طاقاتها الإيحائية. أما ميله الواقعي فقد تغذى من ولعه الباكر بلوحات الرسام الألماني هانز هولباين التي شاهدها مراراً في متحف مدينة بال.

ولعل أكثر ما يميّز مسعى هينّر الفني ويبعده عن المسعى الأكاديمي هو هروبه من "الموضوع" وتركيزه على حل المشاكل الرسامية التي يطرحها الوجه البشري مثلاً، والجسد عموماً، بعيداً عن النظريات المتداولة وبمعزل عن أي سياق إرشادي: "لا أكترث للموضوع داخل اللوحة. انظروا إلى هذا العمل الذي حققه رسامٌ كبير. ماذا ترون؟ بقعتان بلونٍ أبيض تمثّلان نسوةً، وبقعة خضراء وأخرى زرقاء تشكّلان الأشجار والسماء. أين الموضوع؟ لا نعلم". ومع ذلك، بقي هينّر طوال حياته فناناً رثائياً ومأسوياً، يشهد عليه اختياره الثابت لوحات ريفية أو دينية للمشاركة في الصالونات الفنية السنوية. وإذ يستحيل اليوم معرفة إن كان الفنانُ مؤمناً أم لا، لكن الأكيد هو أن فن الرسم، بالنسبة إليه، كان مرتبطاً بنوعٍ من التبجيل (solennit?) والحس الدراماتيكي الخاص بالفن الديني، توازيه ـ وتوازنه ـ رقة عدنية تجسّدها فتياتٍ ساحرات في عريهنّ ووضعياتهن المثيرة.

شهوانية مصفاة

فبموازاة البورتريات والمناظر الطبيعية ولوحات الطبيعة الجامدة التي حققها طوال حياته، فرض هينّر نفسه على الساحة الفنية الفرنسية كمُنشِد لشهوانية مصفّاة. ولوحات مثل "امرأة على ديوان أسوَد" و"امرأة ممدَّدة على فروٍ" و"القارئة"، يعبرها نفَسٌ إيروسي ظاهر، يُثبّته الفنان بسلّم ألوانٍ محدود ولكن قوي ومتناغَم يمنح لوحاته قدرة إيحائية عالية وفريدة. وبالفعل، تظهر الأجساد النيّرة تحت ريشة هينّر وكأنها منفصلة عن عمق اللوحة القاتم لاعتماده على طريقةٍ خاصة في التلوين تقوم على تدرُّج الضوء، وتُشكّل خلاصة مثيرة عما تعلّمه الفنان من كبار رسامي فن النهضة الإيطالية وعما اكتسبه داخل التيار الرومانسي. وتخدم هذه الطريقة بشكل رائع نظرته المثالية لجسد المرأة، بشهادة معظم الفنانين والأدباء الذين عاشرهم في مقاهي منطقة "بيغال" الباريسية، ومن بينهم إدوار ماني ودوغا ورونوار وموني وبيسّارو وموباسان وويسمانس ومالارمي وسيزان وفان غوغ وتولوز لوترك. وإذ لا مجال هنا لسرد آراء هؤلاء الإيجابية حوله، نتوقف عند موقفين للكاتب إميل زولا الذي لعب دور الناقد والمرجَع الأول "للحياة الحديثة" في باريس آنذاك. فعام 1866، كتب هذا الأخير: "هينّر يسير على طريقٍ مجيدة. لم يستعر كثيراً من المعلمين القدامى. أمام الطبيعة، يبحث عن انطباعاتٍ سليمة ويُترجمها بصدق. لا أجد في مسعاه بحثاً أو تكلّفاً أو معرفة بارزة، فهو يدع مزاجه كفنانٍ موهوبٍ من الطبيعة يتحرّك على هواه". وعام 1878، كتب زولا من جديد:7-7-قطع هينّر طريقه بأقل ضجّة من غيره. إنه فنانٌ رقيقٌ وحالِمٌ، مع ميلٍ واضح إلى مزاوجة فوارق لونية معروفة وأخرى متضاربة وغير معهودة. لم يُخطئ من قال أن موهبته تظهر بقوة في لوحة "امرأة على ديوانٍ أسود". ففيها نرى "مجرّد امرأةٍ عارية وممدَّدة على قماشٍ أسوَد. لكن هينّر استخدم تدرّجاً واسعاً ومذهلاً من الفوارق اللونية لتحقيقها. فالجسد يمرّ من لونٍ ذهبي باهت إلى لونٍ ذهبي أحمر، بينما ينتقل اللون الأسوَد من شفافية غسقية حتى العتمة الكامِدة لليلة عاصفة. (...) في هذه الفكرة المبتكَرة كثيرٌ من الصراحة وذكاءٌ عميق، وفي نقله للطبيعة فرادةٌ عالية ومثيرة".

المستقبل - السبت 14 تموز 2007