يتعذر الحديث عن فن الجرافيك بالبحرين حضوراً.. اشتغالا..ً وممارسة دون الإشارة إلى بدايات الحركة التشكيلية - والذي هو جزء منها - التي يعود تاريخها إلي الخمسينات من القرن الماضي، فمن هذه البداية التي تعد متأخرة نسبياً قياساً ببعض الدول العربية (مصر- سورية - العراق - المغرب مثلاً.
يمكننا تقدير ظرف تأخر هذا الحضور وتبريره خلال تلك الفترة الزمنية بالنظر إلى تأخر ظهور الأول وهو الرسم سواء بالألوان الزيتية والمائية أو النحت, الخ... عموما ًيعد حضور الفن التشكيلي بالمعنى المعاصر حديث العهد بمنطقة الخليج العربي قاطبة ولهذه المناسبة يقول الفنان عبد الكريم العريض عن ذلك في مقدمة كتابه الموسوم أضواء على ألحركة التشكيلية بالبحرين 1987 (( في الخمسينات كانت حصة الرسم مجرد درس عادي في المدرسة، ولم تكن قد برزت ظاهرته في المجتمع إلا ما نذر، ثم أخذت عوامل الحياة المعاصرة تلح في وجود الفن كعامل حضاري مكمل لنمو عناصر الحياة الاجتماعية والتجارية.
إن قلة المشتغلين من الفنانين في حقل فنون الجرافيك والطباعة لا تنفرد بها دولة عربية بعينها دون أخرى وإن اختلف الظرف كونها حالة مسحوبة على أكثر ساحات الحركات التشكيلية بالدول العربية رغم تباين أعداد المشتغلين من دولة لأخرى والتي يرد فيها إلى ظروف نشأة وتاريخ حركات تلك الدول الفنية وما توفر له من ظروف وعوامل ساهمت بشكل وبآخر في ظهوره وتواجده كتدريسه في أكاديميات الفنون والمعاهد وإقامة المعارض والورش الفنية المتخصصة التي ساهمت بصورة جلية وكبيرة في نشر ثقافته وتوسيع رقعة ممارسته بين الفنانين وتبيين الأدوار التي يلعبها في الحياة ( الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ). ورغم سلبية النظرة تجاهه بالنسبة للكثير من الفنانين والمقتنين, كونه لا ينتج إلا أعمالا فنية متعددة النسخ هي في نظرهم فاقدة قدسية الفرادة المتمثلة في اللوحة الزيتية مثلاً، وهذه النظرة في تصوري تعد من أسباب شحة الفنانين المشتغلين به, وقلة المقتنين المقبلين علي شرائها.
الحديث عن تواجد اللوحة الجرافيكية المطبوعة على المعدن أو الحجر أو بالشاشة الحريرية في أروقة المعارض الفنية وفي المشاركات العربية والدولية بالبحرين يعود إلى فترة أواخر سبعينات وثمانينات القرن الماضي, وقبل الدخول في تفاصيل هذه الفترة وماتلتها حتى وقتها الحاضر يتحتم علينا الإشارة إلى نوعية طرائق الحفر التي كانت قبل وأثناء تلك الفترة تدرس بمدارس البحرين الحكومية في حصص التربية الفنية حيث أخذ بعض مدرسي هذه المادة على عاتقهم تدريس الطلبة أساليب وطرق الحفر على اللاينو والخشب, والذي يرجح هذا اقتصار فيه إلي توافر خامات وأدوات هذا النوع من الحفر فقط وقتذاك.
لا شك أن فترة السبعينيات وهي التي ربما تكون أخصب الفترات ثقافياً وأدبياً وفنياً التي مرت بها الساحة الإبداعية بالبحرين.. أقول فنياً لأن كثيراً من الطلبة غادر لتلقي درس الفن في كليات وأكاديميات الفنون في الخارج مثل باريس وأمريكا وموسكو والعراق ومصر وسورية.. إلخ، وهناك تعرفوا واطلعوا على تقنيات وأساليب فنون الجرافيك مثل الحفر على الحجر (الليتوغراف) الحفر على المعدن (الزنكوجراف) الطباعة الحريرية (سلك سكرين) إلا أنه ورغم هذه الكثرة والعدد المتزايد من الطلبة الملتحقين بأكاديميات ومعاهد الفنون، إلاّ أن غالبيتهم لم يرغبوا أو لم يلتحقوا إلا بتخصصات التصوير والتربية الفنية والديكور والنحت والخزف باستثناء - وهو الاستثناء الوحيد - الفنان عبد الجبار الغضبان الذي درس وتخرج في أكاديمية الفنون بدمشق - قسم الجرافيك - الذي لولاه ما كان الحفر الآن وما وصل إلي ما هو عليه من تواجد وحضور في الساحة التشكيلية المحلية.
في العام 1980 شارك الفنانان عبد الكريم البوسطة وعلي المحميد مهرجان أصيلة الثقافي حيث أنتجا بعض الأعمال الجرافيكية في ورشة المهرجان نفسه.
وبعد عامين من ذلك أي في العام 1982 شارك الفنانون كريم العريض وناصر اليوسف وإبراهيم بوسعد في مهرجان أصيلة الثقافي وهناك تعرفوا على تقنية الحفر على المعدن والشاشة الحريرية أيضاً، وظني أنهم استفادوا من هذه المشاركة باطلاعهم على تقنيات وجماليات حقل جديد من الفنون يمتلك من المواصفات والخصوصيات ما تميزه عن غيره من الفنون الأخرى، هذا إلى جانب قدرته التحريضية أو الإغوائية إن جاز لنا القول على الولوج فيه بفضول التعرف والممارسة والتجريب، لذا أخذ هذا النفر من الفنانين على عاتقهم نقل ما اكتسبوه من خبرات ومعارف في هذا الفن إلى الساحة الفنية المحلية بغرض تعريف الجمهور بهذا الفعل الجديد وبطرح لوحة فنية مغايرة لما هو سائد تعتمد تعدد النسخ؛ تختلف في حساسية خطها وجمالية مساحتها ومغايرة تقنياتها عن اللوحة الفريدة، فكان نتيجة ذلك إقامة أول معرض جماعي مشترك في فن الجرافيك (الحفر على المعدن) شارك فيه (ناصر اليوسف - عبد الكريم العريض - كامل بركات - إبراهيم بوسعد) وذلك عام1982 .
وفي العام 1987 أقيم معرض الشاشة الحريرية، بجمعية البحرين للفن المعاصر شارك فيه الفنانون علي الشيخ بشير - كريم البوسطة - المرحوم عبد المنعم البوسطة - عبد الإله البوسطة - كريم العريض.
من تلك الرحلة إلي أصيلة ولع وهام بالحفر الفنان ناصر اليوسف فراح يستورد أدواته الخاصة بالحفر من اليابان فأخذ يبحث ويجرب وينتج محفورات فنية, حتى تكلل هذا الفعل والنشاط بإقامة أول معرض شخصي له متخصص في هذا الفن عام 1988 على صالة دار الغد.
لم ينقطع الفنان الرائد ناصر اليوسف عن ممارسة هذا الفن رغم إصابته بمرض فقدان البصر "عن هذا الحب" هذا الولع، ولع الشغل اليومي فهو ما يزال ينتج ويشارك بأعماله في المعارض الجماعية ويقيم معارضه الشخصية إنما بواسطة الحفر على مادة اللاينو هذه المرة متخذاً من هذا الحقل الفني فعلاً وقناعة, وكأن هذه الممارسة بالنسبة إليه فعل حياة يومية، أبداً كالماء والهواء لا يقدر العيش من دونه.
في السياق ذاته مارس بعض الفنانين العمل على إنتاج اللوحة المحفورة لكن بصورة متقطعة في تلك الفترة على سبيل المثال لا الحصر الفنان أصغر إسماعيل.
أما الفترة التي أكاد أجزم أنها الأهم والأكثر نضارة وإشعاعاً في مسيرة نشر هذا الفن وانتشاره وتثبيته في قاموس الحركة التشكيلية المحلية كواقع له حضوره حيث زرعت وبثت ثقافته في الوسط الفني والثقافي وبين الجمهور وخرج من نطاقه الضيق المتمثل في الممارسة الحصرية على نفر قليل من الفنانين إلى فضاءات أرحب وأوسع عبر التعليم وإقامة المعارض الفردية والثنائية والجماعية، والمشاركات في الفعاليات العربية والدولية التي تقام وتنظم في فنون الجرافيك، وتنظيم الورش الفنية لهذا الغرض.. هي مجيء الفنان عبد الجبار الغضبان المتخصص الوحيد في هذا الفن.
منذ أن كان بمقاعد الدراسة، أقام معرضاً شخصياً له بالبحرين لأعماله المحفورة المنفذة على معدن الزنك عام 1978 بصالة حديقة الأندلس تحت رعاية المؤسسة العامة للشباب والرياضة، ضمن برنامج المعارض السنوية التي كانت تنظمها المؤسسة للأندية في البحرين, اعتقد أنه أول معرض متخصص يقام في هذا الفن.
دلف هذا الفنان يبذل جهوداً منقطعة النظير وبهدوء شفيف، بعيداً عن الجعجعة والصريخ، انغماساً ودخولاً وتضحية وحباً في نشر هذا الفن بين الفنانين والجمهور والتعريف به, تقنيا وفنيا وجماليا واجتماعيا وثقافيا.
أيضاً.. وبقناعة وإيمان علي أن كل ما يقوم به ويبذله لا يمكن وضعه إلاّ في مساحة ما يمكن تسميته بالواجب الفني والوظيفي والإنساني, أو ما يمكننا وسمه بنشر فعل الجمال والحب والخير, بدأ الغضبان نشاطه بعد التخرج من الجامعة والاستقرار الوظيفي بإقامة أوّل معرض شخصي له علي صالة جمعية البحرين للفنون التشكيلية في عام 1989 حيث عرض ما يقارب الثلاثين عملا محفورا ومطبوعا علي معدن الزنك وبأسلوب الطبعة الوحيدة - المونوتيب - منفذة جميعها أيام فترة الدراسة. بموازاة هذا وبسبب توفر آلة للطباعة - مكبس - أخذ علي عاتقه تأسيس مرسما للجرافيك أسماه (مرسم عشتار للجرافيك) تابعا لجمعية البحرين للفنون التشكيلية والذي التحق به منذ البداية الفنانين جمال عبد الرحيم وعباس يوسف - كتلميذين متدربين - والعديد بعد ذلك من أعضاء الجمعية الذين تعرفوا تقنيات هذا الفن حتى أن بعضهم أنتج أعمالا, راح يعرضها ويشارك بها في المعارض المحلية والدولية.
إذن من هذا المرسم الذي أسسه ويشرف عليه الفنان عبد الجبار الغضبان دخل فن الحفر بالتحديد الساحة الفنية بقوة منذ التسعينات, الفترة التي دشـّـن فيها هذا المكان الصغير الذي لا يكاد يسع لفنان واحد يشتغل فيه ويمارس عربدة الإبداع, ابتداءاً بالمشاركة بمهرجان أصيلة عام 1990 حيث تتابعت ونمت بعد ذلك الأنشطة التي طلعت من رحم هذا الحيّز بفعله, فأقام الفنان جمال عبد الرحيم معرضه الشخصي الأول في فن الجرافيك عام 1991 الذي بعدها تتالت معارضه الشخصية المختصة بهذا المجال بالبحرين وخارجها حتى الآن, ثمّ المعرض الأول للحفر لعباس يوسف في نفس المجال عام1994 . وكلا المعرضين أقيما علي صالة جمعية البحرين للفنون التشكيلية.
كبر الحلم.. توسعت الرؤيا, وأجنحة هذا المحترف انفتحت نحو فضاءات أرحب, وطرقت تخوما أبعد مما هو عليه وفيه, فصار ذلك همّ " هم نشر هذا الفن " واقعا مشتركا بين, الغضبان وعباس, صار حصارا فادحا, فلم يكن بالمقدور رفضه أو تأجيله, وفي هذا المكان بالتحديد, مصهر الخلق.
في العام1993 انطلقت باكورة فعل تعميم و نشر هذا الفن بإشراف الغضبان علي ورشة أقيمت للفنانين الشباب بدول مجلس التعاون الخليجي شارك فيها أكثر من 15 فنانا, اتسعت رقعة الرسالة التبشيرية لهذا الفن وطالت تدريب بعض الطلبة من داخل البحرين ومن الدول الخليجية والعربية, وتنظيم الورش الفنية المختصة بتعليم الحفر علي معدن الزنك بإشراف الفنانين الغضبان وعباس لفنانات وفناني البحرين بجمعية البحرين للفنون التشكيلية ولطلبة المدارس الخاصة بالبحرين كمدرسة سانت كريستوفر حيث أقيم معرض لنتاج هذه الورشة علي صالة الجمعية, كما نظم وأشرف علي الورشة التي أقيمت لفنانات وفناني سلطنة عمان والذي أقيم أيضا لنتاجها معرض. ها هي رقعة الشطرنج - شطرنج فن الجرافيك تتوسع وتنتشر بإقبال الفنانين علي ممارسة هذا الفن - بشكل يومي بعدما كان غائبا - وبإقامة المعارض الفردية والثنائية والجماعية - في الداخل والخارج - والتي كان من ضمنها أوّل معرض جماعي يشارك فيه أكثر من اثني عشرة فنانا علي صالة جمعية البحرين للفنون التشكيلية عام 2002.
وبموازاة هذه المزاولة الجميلة المبذولة من كل الفنانين المشتغلين في حقل فن الجرافيك هنا يأتي ملتقي البحرين - أصيلة للثقافة والفنون ليكون فرصة أمل وعمل للفنانين البحرينيين علي السواء, المشارك والمتابع, لا بوصفه نزهة وسياحة, بل باعتباره فعل حوار وتبادل وإبداع يذهب بهذا الفعل البياض إلي هناك.. حيث مرافيء التفاعل - من الأطلسي إلي الخليج العربي.. إلى تخوم أبعد من هذا العالم - مع الحاضر والقادم بغية صياغة مشروعه الفني و الحضاري القائم على فعل الجمال بوصفه مشروع حب وحياة.
إقرأ أيضاً: