عباس يوسف
(البحرين)

ليس من فصل بين قراء ة واقع الساحة الثقافية بالبحرين ورؤية ومتابعة حال الحركة التشكيلية الآخذة مساحتها في للاندياح بصورة لافتة في أقل تقدير علي صعيد مساهمات فنانيها في الفعاليات المحلية والمعارض الخارجية.. في هذه الحركة النشطة المتمثلة في تنظيم المعارض الفردية والجماعية والمؤسساتية إلي جانب ما تؤديه صالات العرض الخاصة والعامة من إسهام لافت يرفد هذه الحركة بخبرات جديدة ومغايرة ربما أعطت الفنان المحلي أيضا جرعات تنشيط وفعل وأمدته بخبرات وفعل إمعان وإعادة قراءة.
لفترة ليست ببعيدة كان المشهد التشكيلي إن جاز لي القول (شبه) ذكوري الحضور والسيطرة, أي أن حضور المرأة الفنانة يمكن حسبانه في مساحة الندرة اللافتة حتى لا أقول الغير فاعل والذي يمكن اعتباره غيابا أو ركودا .
في السنوات الأخيرة صار الركود صحوة والغياب حضوا لافتا للمرأة الفنانة في الساحة التشكيلية البحرينية حيث حقق البعض منهن نجاحات باهرة علي صعيد مستوي العمل الفني موضوعا وتقنية وطرحا, بموازاة النشاط المتمثل في المشاركة الفاعلة والحضور الجميل لها عبر مشاركتها في النشاط الفني المحلي والخارجي وفي إقامة المعارض الفردية والجماعية.
لبني الأمين فنانة يتمثل حضورها في غيابها بين الألوان والمعاجين والخشب, تنتمي (لفترة الصحوة) إن صحّ التعبير, قدرت بصبر جميل تتفحص اللون بوصفه جنة خلاص والخشب موج نجاة, فمضت تؤثث فضاءا فنيا حميما رائعا لها في المشهد العام للحركة الفنية البحرينية, معتمدة في ذهابها إليه الحب وفي دخولها فيه العشق والتفاني.

خطوط البداية :
كل طفل يكبر وتكبر معه الأحلام والحب أيضا, أحببت الرسم منذ الصغر والخربشة كبقية الصغار, ظلت الخربشة والخطوط تتراقص أمامي وشيئا ما بالداخل يدعوني للذهاب إليها - إلي الرسم - فوجدتني مدفوعة إليه بشغف, فما أن تخرجت من المدرسة الثانوية حتى كان هو اختياري الأول بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة, إلا أنه ولظرف لغاية هذه الساعة لم أجد له مبررا, أو تحليلا مقنعا, وجدت نفسي في كلية الإعلام إلا أن الهاجس ظل محتفظا بوهجه بداخلي فلن أنقطع عن زيارة المعارض والمتاحف ومتابعة أخبار الفن والرسامين, بعد الدرس الجامعي والزواج, يبدو أن الاستقرار أخرج هذا التأجج المكنون وقام بدور جميل في استرجاع الحلم - أو سمها الأحلام إن شئت - السابقة الملازمة إلي فضائها الرحب ألا وهو الرسم, هذا الاستقرار أخذني إليه وبقوة فأقبلت علي درس الرسم بجدية, علي أنه مشروع حياة وأمل وزوجي جمال هو من وقف معي, من حثني علي التعامل مع هذا الدرس بجدية وبإخلاص فبدأت بتلقي الدروس الخصوصية في الرسم بالبحرين, بل تتابعت, وصار الرسم حملا ثقيلا واجب المشي به, أفقا يجب الذهاب إليه بسلاح الحب والمعرفة والممارسة, تتابع أخذ دروس الرسم في مدينة لوزان ولندن والقاهرة التي كان فيها الدرس مكثفا, كما دخلت ورشة لتعليم فن الحفر علي المعدن بجمعية البحرين للفنون التشكيلية, عموما استمرت هذه الدراسة العملية والمتابعة النظرية والبصرية طوال عشر سنوات من 1988- 1998 اقتصرت مشاركاتي خلال هذه الفترة علي المشاركات في المعارض الداخلية حتى العام الذي أقمت فيه أول معارضي الشخصية بالبحرين

هجس القدم:
إن العمل على هذه الخامة استهواني منذ شعوري وإحساسي بأهمية الخشب (القديم) الذي كنت وما زلت أهوى جمعه كالأبواب والنوافذ مثلا، ثم أضحى غواية واستحال لوحة بصياغة جديدة تحمل خصائص وعناصر العمل الفني.ومنذ ما يقارب الثمان سنوات تقريبا وهذا الخشب الموجود أمامي يلازمني ويلاحقني أينما اختلفت ببصري ووليت بصيرتي حتى أنه استطاع أن يوقعني في شراك ناره وأصبحت أسيرة عوامل إغوائه، فما كان مني إلا أن ألقي اللون والفرشاة علي تلك الأشكال المختلفة والملامس الخشنة الناتئة بثقل كثافة اللون, بخلاف ما يلقي من دواة علي صقيل الورق بقصب تنساب عليه الأحبار بخفة, لأنني أحسست به، علني استطيع الهروب منه.. رغم ذلك لا يزال يلاحقني باستمرار وأعتقد أن سبب ذلك معرفته سر عشقي وتولعي به.

طبيعة الخشب :
الخشب القديم كمادة خشنة تمتاز بنكهة خاصة و بمعالم تتميز بها كالملامس والرموز والإشارات والنتوءات والخربشات النافرة والغائرة, المرئية منها والمخفية, دائما ما أري في هذا العالم أطيافا وذكريات وأشياء أخرى متماهية توحي بأشكال ورموز, هذه الأشكال والرموز هي بمثابة أثر البشر, الذكريات والأزقة والحارات والبيوت وساكنيها والمتبقي منها كونها تحمل بين جنباتها تاريخ ناس مروا في حياتي أو سمعت أو قرأت عنهم, لا أعرف بالضبط إن كان تسمية هذه الأبواب ببقايا الأطلال صائبة وأنا أحاول كل مرة تقديمها بصورة وبأشكال متباينة , إذن الحديث عن الملامس الخشنة وولعي بها واشتغالي عليها وانحيازي لها بهذه الصورة - التي لم تستنفذ طاقتها بعد- لأنها في حد ذاتها اختبار, كونها قابلة للخدش والتكسير ولإعادة الصياغة, وتتيح فرصة التجزيء وإعادة البناء من جديد رغم هذه المفارقة الحاصلة كون الخشونة التي يتصف الخشب تقابله أنامل امرأة فنانة ناعمة, أبدا لا استطيع الفكاك منه, أقصد القماش والورق, ففي اللاوعي تراه يلاحقني, هي بالضبط العلاقة التي تربطني والخشب والتي يتعذر عليّ وصفها أو تصور معالمها, أقول أنها عصية علي الوصف.

باعث التحريض:
منذ البدايات استمتعت برسم الحقول والبساتين والخيول والنساء والطبيعة الساكنة والبحر بزرقته وقواربه حتى الثمالة وأخذتني إلي مرا فيء بعيدة, أبعد مما أتصوره في هذه اللحظات لذلك أشعر أني تشبعت به - رغم الحنين إليه بين الفينة والأخرى - وتكونّ مخزونا بصريا صار شفيع دخول في حضرة أخري, حضرة التجريد, الذي أضحي حاليا أقرب إلي نفسي, من خلاله أعبر عما بداخلي, لدرجة أنه صار كالنصل الأشهب الذي يصعب تفادي سواده, ولربما أكون منه وعبره موهومة بالرموز والإشارات تلك الموحية بالأسرار أو المحرضة علي البحث المستمر عبر الحفر والتهشير في السطوح, ( كمنقب الآثار ) أسعى دوما - متسلحة بأمل الكشف - الوصول إلي خيوطه الغارقة في الغموض علها تشي إلي ما أنا أتطلع إلي تحقيقه من عناصر فنية وجمالية ربما تمثلت في تقاطع الخطوط, الغليظ منها والرفيع, الغائر والنافر وفي وضع التناغي الحاصل بينها وبين المساحة اللونية وضربة الفرشاة.

معني اللون:
يمكن القول أن اللون هو زعفران الروح, بهجة الحياة, دونه لا تستوي نواظم العمل الفني والتي مجمل العوامل المتحصلة من التفاعلات العاطفية مجموعة مندغمة مع عناصر العمل الفني.
أتعامل مع اللون أيضا باعتباره نقطة ارتكاز اللوحة التي اشتغل عليها لذلك أترك الخيار في التقاط اللون أو تحديد نوعه إلي عنان العفوية المنصتة دوما إلي رهبة الروح ...
نظرتي المتفائلة بالحياة واحتفائي المستمر بجمالها وبهائها هي المرآة الحقيقية المترجمة لما أتعامل معه من ألوان كالأزرق والبنفسجي مثلا، وما أحاول بنائه من علاقات بينها كعنصر حيوي هام وبين العناصر الفنية الأخرى تتأسس وتقوم عليها اللوحة ، مع حرص دائم علي استغلال الموروث البصري المحلي كالرموز والإشارات والزخارف النباتية والهندسية أترك لها حرية الذوبان والتماهي في مهب سطوح اللوحة (الخشب القديم)

موضة التجريد:
التجريدية مثلها مثل بقية المدارس الفنية الأخرى - التعبيرية - الواقعية - السريالية - يمارسها الفنانون بكل بلد وفي كل زمن أيضا وأظن أن تزايد عدد الفنانين المشتغلين علي اللوحة التجريدية ربما يرجع السبب في ذلك إلي اعتقاد الكثير منهم أن شكل اللوحة لا يكون عصريا إلا عندما تكون مجردة وأنها أكثر الأساليب محاكاة للزمن الحاضر, أو هي لغة العصر ذاته وبتصوري أن هذه النظرة ليست ذات صواب لأن قيم العمل الفنية والجمالية هي التي تحدد مستواه هزالته وضعفه, رصانته وقوته ومكانته, وإلا وبهذا المفهوم إن صح يكون الحكم علي كل روائع الأعمال الفنية التي أنتجها الفنانون علي مرّ العصور المنتمية للمدارس الفنية الأخرى بالفناء. عموما اشتغالي وتركيزي علي الرسم التجريدي منبعه اندفاع القلب إليه وهيام النفس به كما أسلفت, ولأني وجدته الأقرب إلي روحي.

ضوء الدرب :
تقديري أن أكثر البشر حاجة إلي العاطفة والحب والاستقرار والاهتمام هم معشر المبدعين, ولكون ظروف المرأة تختلف بعض الشيء عن الرجل في كل المجتمعات فهي أقرب من تكون بحاجة إلي الرعاية والمراعاة, فبالنسبة لي شخصيا أري أنه من الضرورة بمكان أن يكون رفيق العمر- الزوج - مقدرا ما تقوم به زوجته ومتفهما الوضع الذي هي فيه وعليه ومراعيا لحساسية الفنان ونشاطه وما يترتب علي من مشاريع, وإلا بغير ذلك يحكم علي مشروع هذه الفنانة بالإعدام, وحتى لا أبالغ أقول أن زوجي وأولادي والدتي ووالدي هم خير عضيد وسند لي في ذهابي واستمراريتي في ممارسة الرسم الذي أزاوله بشكل يومي تقريبا وهم من يسهم في رسم ضوء الدرب الموصل لباب الدخول .. دخول جنة الرسم.

الفعل الجماعي:
لم أكن ذات يوم بعيدة عن الفعل الجماعي, أقصد عن أجواء المعارض الداخلية والخارجية والفعاليات الثقافية, كنت أتابع كل شيء ذا صلة بالفنون البصرية والشأن الثقافي وبعد دخولي معمعة المشاركات في المعارض الجماعية أخذ حضوري منحى آخر , أعني الحضور الفاعل وعليه كان لزاما أن تتغير الرؤية وطرق القراءة وحتى نوعية المشاركات حيث تعدت مساحة الاقتصار علي الداخل إلي الخارج , وبعد معارضي الشخصية وما جاورها من نشاط فني جماعي كما أسلفت , شعرت بأن مساحة المسئولية تكبر والحمل يثقل , أحسست بأنه أمرا ما يتوجب الالتزام به , إعطائه الوقت الذي يستحق والتسلح بمادة معرفية وتقنية لضمان البقاء في حضرته - إنه الرسم - والالتزام بمسألة الإبداع لا بوصفها تسلية وتمضية وقت بل باعتبارها فعل حياة سمها إنسانية واجتماعية وجمالية يجب التمسك بها والدفاع عنها والعمل علي نشرها وبثها كونها فعل حب وخير أيضا, وأيقنت أن ذلك لا يتأتى إلا ولا يمكن الذهاب إلا بالحب لأن به يمكن الدخول إلي عوالم الجمال , هذه العوالم .. الأحلام التي نحلم بتحققها وحضورها في مجتمعنا الإنساني, بالتأكيد أن هذه المشاركات وهبتني الكثير من الخبرات التقنية والفنية وأمدتني بالمعارف الثقافية والعلمية والتي بدورها أضافت إلي تجربتي الشخصية الكثير , بل يمكن القول أنها أسهمت بشكل وآخر في صقل فعل الرسم عندي لدرجة أن شيئا ما لا أعرفه دائما يحرضني علي البحث عن الجديد المغاير في كل مرة أقبل فيها علي اللون والخشب والقماش .
لا يمكنني تخيل أنه في يوم من الأيام أني سأكون بعيدة من التواجد والحضور عن أمكنة النشاط الفني والثقافي الجماعي الذي تعودت عليه منذ زمان

الحضور في الساحة :
الحديث عن هذا الموضوع يجرنا إلي أسئلة معروفة ومطروحة باستمرار والتي باتت أكثر حضورا و إلحاحا علينا في هذا الزمن, ألا نؤمن بأن المرأة هي نصف المجتمع ؟ وإنه لا فرق بينها وبين الرجل , ألا نؤمن بمكانتها وبوجودها وفعلها الباهر في الحياة ؟ وبإنسانيتها وتحررها من براثن القديم والمتخلف, وإلاّ كيف يمكننا بناء مجتمع صالح وسوي دون الاعتراف بها وبفعلها.. وعليه يمكنني القول إن دخول المرأة أية مجال من مجالات الحياة الواسعة, الثقافية والفنية والاجتماعية.. الخ وتحقيق نجاحات باهرة فيها يؤكد التساوي والحضور المتقدم أيضا في الكثير من المواقع, نعم ثمة تزايد في عدد الفنانات في ساحتنا الفنية اللائي أخذن علي عاتقهن اقتحام هذا المجال في السنوات الأخيرة وقدمن تجارب بتصوري جميلة ورائعة أشاد بمستواها الكثير من المتابعين للحركة الفنية والنقاد وما تواجدها في الكثير من المحافل العربية والدولية وإقامتها معارض فردية إلاّ علامة ذلك, أما قولك أو اعتقادك أني امرأة فنانة تعيش وسط عالم ذكوري لا يرحم أبدا لدرجة أنه إذا لم ير في دربه من يحاربه افتعل معاركه الوهمية مع ذاته أشعر بالنقص أو أحس بالقصور فحقيقة لم ينتابني لحظة أو يوم مثل هذا الشعور, أنا أرسم بكل حرية وأشارك زملائي وأصدقائي الفنانين في المشاريع الفنية والثقافية- بكل بساطة أقول أني محاطة ببشر أسميهم ملائكة حب وطهارة, هؤلاء هم أولادي وزوجي وأصدقائي.