(من الذي سوف يمتدحكِ
مديحاً لم يحدث من قبل )
زرادشت
القرن الرابع قبل الميلاد
1
شاخصاً نحو حلم آسر يستل من مياه العينين مراياه، ويرفع الأهداب مثلما يرفع الدليل تخوم الغيب، ليمتشق بعدها الأشكال ويرشق بها جهات النوم ..
يهبّ فيّ فجأة ذلك الحنين الشره، الحنين المموه تحت لهاث النهار،المبلل برذاذ الوجع، حنين أن يصطفيك الحلم من بين الوجوه العابرة على ضفاف أنفاسي، و يزرعك ثمرة من ضوء في سرير الهذيان حيث تفيض النعم و المدائح، ويفيض فيّ ريش الوجد، ولا يبقى لليقظة إلا ظلها الشاحب، يا حلم سيّجْ مدار حبي بشهقات الندى و ضرّجْ قلبي بحليب الأنثى.
2
أسمع رنين الليل
إذن هي قادمة ..
تلك التي سوف تؤثث الوجود
ببلاغة الوجد
3
الليل لا يتجمّل إلا عند مجيئك ..
آنذاك يتعطّر بأنفاسك، يغتسل بحواسك
ثم يوقظني لأشهد المجيء الخارق .
4
ها الفرح يعبر ممرات روحي الساهرة.
5
الآن ، والليل في كل مكان،
من أين ينبع الضوء إن لم يكن من الفم
المسكون بالشهقة؟
6
كم أشتهي أن أكون سجين النفحة الطالعة
من فم اللذة.
7
رفقاً أيها العشب
بالسائرة خفافاً بين فخاخ الغواية وفخاخ المساء
بلا قنديل ولا نفير
تمتحن يقظة الطريق بطيش العسل الهاطل من أصابعها
وبالفراغ ترفو الفراغ
وتبسط الجهات كالأوشحة
لتضيء المسكن المزروع في الحدقة
حيث أهيئ الخلوة لاندلاع أشد من الهذيان .
رفقاً أيها العشب بالقدمين المغسولتين بماء الورد
كن رحيماً بخطى من أحب
أيها العشب.
8
السراب الذي ترون
غير السراب الذي أرى
سرابي وجهٌ يضرم البهاء في الشرفات
ويرمي الأقنعة الشائخة نحو مغيب اليأس.
وجه أحتمي به، وبه أهتدي إلى أعياد الرغبة
رافعاً الهرج والنشيج.
9
الحلم يذرف الانتظار أمام أجفانك
افتحي له ..
فهو شفيعي .
10
ها أنا ،
تائه في الحلم ، أبحث عنكِ ..
نامي يا حبيبتي ،
كي أراك .
11
الكون نائم
و الخيول تجرّ كنوزه وأسلابه.
قبل أن تدخل الخيول حلمك ،
تطرق بحوافرها سجادة النوم ،
وتطلق صهيل الحب.
1 2
إذا كنت قد جننت بكِ
فلأن من يهواك منذور للجنون .
13
الحب :
انتظار مديد تحت شرفة الأمل .
1 4
العالم متجهم
علّميه الفكاهة أيتها المرحة .
15
وحدي هنا ،
و أنت هناك
مع أطفال بحجم الجوز يطفرون من أحداقك
في عبث شيطاني
ألم يخبرك أحدهم ، وهو يشد طرف ثوبك
ليرغمك على الإصغاء إليه، فيما يشير :
- انظري هناك .. كم هو وحيد ذلك الغريب .
1 6
أنفاسك لا تتبدد ..
إنها ترسو في الجلد .
17
ظبي يعدو في أروقة المطر ،
يعلن قدومك الذي انتظرناه طويلاً .
أول ما نرى :
شمساً باردة
فحشداً من الفراشات
فعربة ملكية مرشوشة بالذهب .
18
إليك ، يا الجميلة ، هذه الهدية :
مدينتنا .
19
حلمت أنك نائمة
و الريح تحرك السرير كالمهد
و البحر على مقربة يجثو كحارس ليلي كسول .
20
من يعرفك ..
يختبر يقظة النرجس في حديقة الروح.
21
يا المرصودة للتطفل و التأمل ،
سأخبرك عن وشاية القناع
وخيانة القمر ..
هكذا أنت مرئية دائماً ،
و الجميع يرشقك بخيوط الغزل.
22
إليك وحدك ..
تنحاز حواسي .
23
بك ، يا ابنة الضوء ، أمتزج ..
بك وحدك أكتمل .
24
بك ، تشعّ كينونتي
بدونك ، أنطفئ مثل بحيرة هرمة
غادرها القمر غاضباً ، بلا وعد بالرجوع .
25
تحت ظلك ، هزمتُ الموت .
26
من يشم دمي يشمّ عبير ظلك
27
عندما ألتفت أرى ظلي ظلك .
28
الشهقة الرحبة ، المفتوحة على حلبة التواصل، المبحرة في المدى الأليف ( بين فم تتموج فيه المداهمة ووجه ينصت مأخوذاً بالنفحة المرتدة إلى الداخل ) تتحرى دهشة الحب في سرير ينحسر عن عسل وعشب.
شهقة لها يقظة الشجر، لها مجون البحر، لها ما للفجر من نكهة وفجور.
الشهقة التي لا تشبه الشهقة. ليست زائلة، ليست للتفتت. تنداح كما تنداح الغابة في بلّور العرافة.
تترك آثارها التي سرعان ما تسوّر مرفأ اليقين وترميه بالسديم.
شهقة ليست للإصغاء، بل للمعاشرة. هي دويّ الروح حين تومض المفاجأة. بالأحرى، هي فضة الجوهر ، رسولة النسغ السرّي.
ماذا تفعل أيها النديم بهذا الالتباس لحظة سطوع النفث الفاتن وانزلاقه في قرمز الغموض ؟
- لا أعود كما كنت.
يا من يتجدّد بعد كل لقاء، و ينتخب اسماً آخر وشكلاً آخر. ماذا ستقول الآن، أيها المتعدد، في تأويل شهقة تزوّر معانيها ولا تفصح عن ألقابها ؟
- لا أعود كما كنت .
أية تخوم تحد المباغتة المكتنزة بالحريق ؟
الشهقة شهوة الرماد إلى النار ، وهيامك الطائش يمضغ لؤلؤة الرؤيا، فلا تلمح في الزورق الشارد غير غروب جسدك نحو مسرح الأسلاب.
29
لم يبق إلا أن أملأ المكامن بالزعفران
و أرقب حفيف قدميك المبللتين بعطر المساء
المقبلتين، بلا حذر، صوب شراكي
غير أني لا أثق بالشراك ..
فما من فخ نصبته إلا وصار رفيقاً بك ،
شغوفاً بك ،
وصار أسير العذوبة .
30
كل هذه السلالم العالية ،
الأكثر علوّاً من خاصرة المدى ،
ولم أصل إليك بعد ؟!
31
قوس يبذر فضاء العشق بنوى المواعيد
قوس يشق هواء الخلوة بعنف الرحيل
قوس يحنو ، وقوس يقسو
بينهما يسقي العاشق ثمرة جنونه .
32
لا تطرقوا الباب.
إنها في الخارج : تتنزه مع حلمها .
وعلى راحتها المريّشة ،
يتنزه المطر مع ذاكرة العشب.
33
الغريب ، المكتنزة عيناه بالملح،
يهمس للجرح الأخير باعترافه الأخير :
أحببت امرأة بلون البهاء ، بطعم البراءة
و مازلت أسير النفحة الغامضة .
34
لخطواتك رنين ريف ، إغواء ثمرة
إشتعل فم ذلك الذي مسّ الثمرة
إشتعلت أصابعه ،
وها هو يدنو مانحاً أهدابه للحريق .
35
يضل طريقه
ذلك الذي تقوده الصدفة
نحو مشارف عينيك .
في عينيك ترك العاشق سر جنونه
في عينيك خبّأ العاشق تاريخ موته.
36
عينان طفلتان
تنسجان من ماء الحكمة
منزلاً لدليل أعمى
ومنزلاً لغريب ضال يذرع رواق المدى
باحثاً عن دليل يرافقه إلى مأوى امرأة
يدّخر لها كل العشق وكل الجنون.
لا الدليل يرى
ولا الغريب يصل ..
بينهما يقف الموت مراقباً المشهد في فضول
وعلى شفتيه ظل ابتسامة ميتة.
37
هناك من يطرق نافذة نومك :
عاشق يلذّ له أن يخلع جنونه
ومحموماً يدخل مع الزفير فم النوم
ليتأمل - دائخاً - غزو البهاء .
38
آه ، لا تطرقوا شبّاك حلمي
لئلا ينال مني الصحو .
39
أطبقي أجفانك بإحكام
لئلا تنسل مخلوقات حلمك
فتقنصها فخاخ اليقظة.
40
هؤلاء الذين مروا تحت شرفتك ،
كيف لم يعودوا ، كيف ضاعوا ؟
قيل لنا أنهم عبروا الثلج بلا مظلة ولا ذاكرة .
41
من عينيك تعلمت فصاحة الحب .
42
حضورك يعلن موت اللغة
وميلاد المخيلة.
43
جسدك : إيقاع الطفولة
حرير الدهشة .
44
يسهر فيّ وجهك ..
هذا المتعدد ، نديم الخلوة
يزهر فيّ صوتك .
هذا الذي يختزل الأعياد في همسة،
واهب الحظوة .
45
كالموسيقى يتهادى الصوت
كرنين أطفال يركضون على ضفة الليل .
46
صوتك : رعشة عشب تحت نقرات ثلجٍ
يتساقط بخفّة .. وعلى مهل .
47
أسدلي أهداب القمر
كي لا أرى ، في العتمة ، سواك .
48
منذور للنعيم ، موعود بالعطايا
ذلك الذي يقطف دمعة تتدلى من أجفان من يهوى
49
تتقوّس المدينة إجلالاً
حين تعبرين الساحة العامة
مثل غزالة من ضوء
لتنعمي على كل عاشق
حفنةً من الأمل
حفنةً من المعجزة .
50
آن تستحمين ، يا أجمل الكائنات،
في أحداق الغريب ،
هذا الذي لا يحلم إلا بك ،
يهتز مسرح الشرائع وتحتشد في الخارج نواقيس الفتنة.
51
أيتها الأنوثة !
أيتها الأنوثة المجنّحة !
لأجلك يبسط الكائن حديقته
و أنت تشاطئين قوس المدى ولا تهبطين .
هل البنفسج شركٌ و الحديقة متاهة ؟!
52
ليس شعراً
ليس نثراً
مدّ من البوح ينمو فيّ ويهبّ
هبوب الوقت في الحنين
هبوب الرماد في الأنين
اللذة الخالصة في البوح البريء من الإثم
البريء من التملق
لذة المديح في مهب الحمى حيث يندلع حضورك
كاللهب.